الإنسان ونشأة الرمز تيرينس دبليو ديكون عرض: شوقي جلال

الإنسان ونشأة الرمز

أسئلة كثيرة طرحها الإنسان على نفسه منذ أقدم العصور عن ظواهر إنسانية خالصة بدت له سرا مغلقا, وحارت العقول. وتعددت الرؤى والإجابات بين الفلاسفة والحكماء, والآن يسهم أو تسهم العلوم بدورها في الكشف عن أسرار أو حقيقة الظواهر الإنسانية الملغزة.

لا يكاد العلم يمسك بطرف خيط على طريق كشف أسرار ظاهرة ما حتى يجد البحث العلمي وقد امتد إلى خيوط شبكية متداخلة تكاد تستوعب الإنسان كله كظاهرة ومكونات الجسم والسلوك والفكر والمجتمع, بل والزمان والمكان في امتدادهما وانعكاساتهما على الظاهرة أو شبكة الظواهر. وليس غريبا أن يتحول سؤال اللغة إلى سؤال آخر وغيره وغيره...من ذلك مثلا ما هو المخ كظاهرة? وما مظاهر الاختلاف بين مخ الإنسان وأمخاخ أنواع الحيوانات الراقية الأخرى? وكيف تجلى هذا الاختلاف في نمط متفرّد يتميز به الإنسان هو نمط الاتصال أو التواصل, أي اللغة?

ولا يكاد العالِم يخطو أولى خطواته على طريق البحث حتى تتداخل مناهج البحث للعلوم المختلفة, كل يكشف عن بعض الوقائع والحقائق في الحاضر أو في التاريخ, لدى الفرد من النوع أو المجتمع أو النوع كله. ولهذا بات الالتزام بمنهج البحوث المتداخلة ضرورة. وأضحى التآزر بين العلوم والعلماء قاعدة وركيزة, بل ميزة دالة على جدية وعمق البحث ووعده بالجديد من النتائج. وكتابنا المشار إليه تجسيد لهذا.

مؤلف الكتاب تيرينس دبليو. ديكون, عالم من أبرز علماء الأنثروبولوجيا البيولوجية, له بحوثه التجريبية المعملية الممتدة المتواترة التي يجريها في معامل جامعة بوسطن حيث يشغل منصبه, كما له بحوثه المعملية أيضا في مستشفى ماكلين في مدرسة هارفارد الطبية. ويمثل الكتاب نظرة إبداعية رائعة إلى نشأة وتطور الرمز - اللغة. يقع الكتاب في أكثر من خمسمائة صفحة. صدرت طبعته الأولى عام 1997 عن دار نشر نورتون وشركاه Norton&Co.. نيويورك, الولايات المتحدة, والكتاب إسهام جليل الشأن في ضوء الحوارات والصراعات الفكرية النظرية العلمية والمعملية بشأن قضية جامعة للعديد من القضايا: الرمز/اللغة/العقل/الذكاء الطبيعي/الذكاء الاصطناعي/الفهم/المعنى وشروطه. ويمثل الكتاب حصادا لإنجازات علوم عدة لها إسهاماتها العميقة أو إطلالاتها وبراهينها وشواهدها ذات الصلة بالمحور الرئيسي للكتاب: من ذلك علوم فسيولوجيا الأعصاب, وتشريح الأعصاب, وتطوّر المخ, وعلم اللسانيات, وسلوك الحيوانات, وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا المقارنة, والذكاء الاصطناعي....إلخ.

ويمسك القارئ مع المؤلف بخيوط الأمل لحل لغز الرمز/اللغة, وكيف تطورت وتطورنا معها. وإذا كان المخ كبير الحجم قرين اللغة هما ما يميز البشر عن الكائنات الأخرى, فمن أين صدرا, وأيهما الأول, وأيهما جاء تاليا? يُقلّب تيرينس الرأي ويعيد فحص الأسئلة التي طرحها الإنسان في تاريخه ويعرض ما اهتدى إليه فكره من إجابات تأسيسا على بحوثه.

سؤال طفل...والبحث المثير

يسأل الكتاب, أو بمعنى أصح يسأل طفل ذات يوم مؤلف الكتاب: أليست للحيوانات الأخرى لغاتها الخاصة كما تقول لنا الحواديت والحكايات? هل المسألة أن لغة الحيوانات لغة بسيطة فقط? لماذا تقول إنها لا تستخدم كلمات, ناهيك بأسماء وأفعال وجمل?

هكذا وضعت أسئلة الطفل العالم الباحث على عتبة مفارقات وألغاز علمية محورها لغة الإنسان واختلافها عن أصوات - أو لغات الحيوانات, وأوجه الاختلاف نشأة وتطورا. وكانت أسئلة الطفل منطلقا لتحديد مسار وهدف هذا الجهد العلمي في سبيل الإجابة, لماذا لا نقول إن اللغات مستويات ولغة الإنسان أرقاها? أليس هذا ما تحكيه خرافاتنا?

سؤال طفل أبى الاعتراف بتفوق وتجاوز الإنسان دون بيان أو دليل. وقاد السؤال محاولات العالم الباحث وجهوده للإجابة. وقادته جهوده إلى إعادة فتح تساؤلات سابقة ظن الإنسان منذ قديم الزمان أنه حسمها واختزلها. واستعان ديكون في سبيل الإجابة المطولة على امتداد مراحل وفصول الكتاب بإنجازات تخصصه العلمي وإنجازات العلوم الأخرى. واعتمد أساسا على إنجازاته أو فتوحاته هو في مجال علم الأعصاب المقارن. وقدّم ثروة من الاستبصار عن التفكير الرمزي, عن التطور المشترك التفاعلي المتبادل بين اللغة والمخ على مدى مليونين ونصف المليون من السنوات. ويختلف ديكون في رؤيته عن الآخرين ممن يرون المخ بمنزلة كمبيوتر, وإنما يطرح رؤية مغايرة عن آلية العقل في التفاعل المتبادل داخل سياق إيكولوجي في الزمان - المكان - رؤية أرحب وأكثر اتساعا على مدى زمان طويل لمغامرة النوع - الإنسان.

يبحث الكتاب كيف تختلف اللغة عن أشكال الاتصال الأخرى, لماذا تواجه الأنواع الأخرى, غير الإنسان, صعوبات عند تعلم لغة البشر في أبسط صورها? ولماذا يواجه البشر صعوبات نسبية عند تعلم لغة الحيوانات? ولماذا وكيف تطورت بنية المخ البشري للتغلب على هذه الصعوبات? وما القوى والشروط والظروف التي وضعتنا في البداية ووجهت مسيرة التطور على طريق متفرد غير مسبوق.

ويطرح ديكون تقييما جديدا لتطور المخ وتطور اللغة عند البشر. ويعرض رؤية تؤكد الاتصال المطرد غير المنقطع بين أمخاخ الحيوانات والمخ البشري. ولكنه في الوقت نفسه يكشف عن قطيعة استثنائية وفريدة بين عقول الحيوانات والعقل البشري, أو إن شئنا الدقة نقول قطيعة وانفصالا بين الأمخاخ التي تستخدم هذا الشكل من الاتصال والأمخاخ التي لا تستخدمه, وإنما لها أشكالها الأخرى المختلفة.

النهج المتبع في البحث - الدراسة غير مسبوق في تناول المسائل, ويتقدم المؤلف بمحاجاته خطوة خطوة بحيث يعتمد كل باب على الأسئلة والتحليلات والدلائل التي فرغ من عرضها وبيانها في الباب السابق. وهكذا ينتقل صاعدا إلى ما يمكن أن نسميه تأويلات تتبلور في صورة نظرية في هذا المجال صادفت دعما ونقدا واسع النطاق. ويبدو الكتاب وكأنه رواية يعمد مؤلفها إلى حل ألغازها خطوة بعد خطوة.

اللغة - المخ والتطور المشترك

وينقسم العرض إلى ثلاثة أقسام أساسية: الأول عن اللغة. ويركز هنا على طبيعة اللغة وأسباب اقتصارها على النوع البشري. والثاني عن المخ ويعالج مشكلة ما هو غير طبيعي أو استثنائي في بنية المخ البشري والذي يتطابق مع المشكلات الفريدة التي تفرضها اللغة. والثالث عن التطور المشترك للغة والمخ البشريين. ويدرس الامتداد المميز والخاص لمنطق الانتخاب الطبيعي الذي يشكل الخلفية الأساسية التي تطور في ضوئها المخ واللغة البشريان. ويحاول هنا تحديد نوع مشكلة (الاتصال) أو التواصل التي أدت إلى تسارع تطور نمط الاتصال غير المسبوق الموصوف بالاتصال البشري الفريد أو الاتصال الرمزي. ويختتم المؤلف الكتاب ببعض التأملات بشأن أهمية ودلالة هذه الاكتشافات الجديدة لفهم معنى الوعي البشري.

ولا يغيب عن المؤلف أثناء عرضه لهذه القضايا أن يصحب القارئ معه في محاولاته لإعادة دراسة وفحص وتدقيق الكثير من الافتراضات الضمنية التي تستند إليها وجهات النظر الراهنة. ورغبة منه في تحقيق الهدف, عمد إلى أن يكون عرضه مقبولا ومفهوما على أوسع نطاق بين جمهور المعنيين بالعلم وبالقراءة العلمية. وعمد كذلك, كلما حانت فرصة, إلى تفسير بعض النقاط والأفكار التقنية بلغة غير تقنية. وعلى الرغم من استخدامه للمصطلحات البيولوجية والتشريحية العصبية فإنه استعان بالرسوم التوضيحية لبيان مدلولاتها.

اللغة تخلق المخّ المعجزة

المخ البشري معجزة في مسيرة التطور. هذا صحيح, ولكن ليست المعجزة في ذلك المخ المؤلف من دم ولحم, والقادر على إنتاج ظاهرة نسميها العقل البشري, بل في أن التغيرات التي طرأت على العضو والمسئولة عن هذه المعجزة هي نتيجة مباشرة لاستخدام الكلمات - الرمز. ويعني بهذا أن الابتكارات البنيوية والوظيفية التي جعلت المخ البشري قادرا على أداء أعمال فذة عقلية غير مسبوقة تطورت استجابة لعمليات استخدام شيء مجرد, وافتراضي له قوة وسلطان الكلمات. معنى هذا أن أول استخدام للمرجعية الرمزية على أيدي بعض السلف الأقدم أدى إلى تغيير طريقة تأثير عمليات الانتخاب الطبيعي على تطور مخ الإنسان الأول (الهومينيد) منذ ذلك التاريخ, أو لنقل بعبارة أخرى إن التغيرات المادية الطبيعية التي جعلت للمخ هذه البنية الوظيفية الجديدة هي تجسيدات عملية استخدام الكلمات.

ويعتمد المؤلف تعديلا أدخله عالم النفس الأمريكي جيمس مارك بالدوين على نظرية الانتخاب الطبيعي, كما قال بها تشارلز داروين. ويرى أن هذا التعديل يمثل مفتاحا لفهم العملية التي ربما تكون هي التي أحدثت هذا التغيير. واصطلح العلماء على تسمية هذا التعديل (التطور البالدويني) Baldwinian Evolution على الرغم من أنه تعديل دارويني في جوهره.

يرى بالدوين أن التعلم والمرونة السلوكية يمكن أن يكون لهما دور في تضخيم الانتخاب الطبيعي وفي اتخاذه منحى منحازا, ذلك لأن هذه القدرات - أي التعلم والمرونة السلوكية - تمكن الأفراد من تعديل سياق الانتخاب الطبيعي الذي يؤثر في سلالتهم المقبلة. ذلك لأن المرونة السلوكية تمكن الكائنات الحية من الانتقال إلى مواطن ملائمة تختلف عن المواطن التي كان يشغلها السلف. والنتيجة أن الأجيال التالية سوف تواجه طائفة جديدة مغايرة من الضغوط الانتخابية. (ص320-322).

التعلم والتكيف المرن

والملاحظ من بين جميع أشكال التكيف أن مرونة تعلم استجابات سلوكية جديدة على مدار حياة الكائن الحي يمكن أن تنتج أسرع النتائج التطورية وأكثرها راديكالية. حقا إن القدرة على التعلم, ومن ثم وراثة سلوكيات مكتسبة, يمكن أن تكون أقوى مصادر وأدوات التغير التطوري. ذلك أنها تزوّد الكائن الحي بإمكانية الوصول إلى مستودع تكيفات ممكنة احتمالا, ومن ثم تُقوي وتضخّم وتوسّع مدى الاستعدادات السلوكية التي يمكن أن يقع عليها اختيار الانتخاب الطبيعي. وطبيعي أن كل استجابة سلوكية يتعلمها الكائن الحي يمكن استيعابها وتمثلها جينيا لتصبح استعدادا سلوكيا يفضل الكلفة التي تفرضها على الكائن الحي, كلفة في زمن التعلم, وكلفة الفشل في التعلم أو كلفة التعلم الخاطئ, وكلفة عدم الفعالية.

وهذا التعلم على مدى مسيرة التطور قرين (ثقافة) أو هو ثقافة مضافة جديدة, لأن الإنسان لا يتعلم سلوكا بغير دلالات مفاهيمية - أي فكر, أو يتعلم بغير هدف. إن أي استعداد مسبق يسهم, ولو من بعيد, في هذه العملية في إنتاج استجابة أكثر فعالية وأكثر مصداقية سيتم انتخابها إيجابيا, ومن ثم فإن ما سوف ينزع إلى التطور هو مجموعة من التأثيرات الإسهامية المختلفة غير ذات صلة مباشرة, مجموعة تأثيرات أسهمت كل منها على نحو غير مباشر, وخلفت انحيازات محددة وليست نسخة فطرية مطابقة للاستجابة السلوكية المعبرة عن قدرة سابقة. وتغيرت أمخاخ البشر وفق هذه العملية التطورية. وتشكلت اللغات عن طريق نوع أشبه بالمعادل الثقافي للانتخاب الطبيعي. حيث الاستعدادات المسبقة الخاصة بالتعلم لدى الأطفال صاغت أو شكلت اللغة التي تتلاءم معها. ولكن في الوقت نفسه تشكلت الأمخاخ على نحو يجعلها متلائمة مع متطلبات اللغة أيضا.

نشأة الرمز

التمدد الواضح للمخ الذي حدث خلال التطور البشري أدى على نحو غير مباشر إلى تمدد منطقة مقدم الفص الجبهي, ولم يكن هذا سببا لنشوء اللغة الرمزية, بل نتيجة لها. ومن المتصوّر أن الخطوة الأولى عبر العتبة الرمزية خطاها الإنسان الجنوبي بقدراته المعرفية المحدودة التي تمكّنه من التعامل برموز بسيطة.

وكان هذا بداية لتاريخ طويل من التصاعد الذي تم خلاله انتخاب عملية أو القدرة على استخدام الرمز. وأدى استخدام الرمز مع تطوره إلى مزيد من امتداد وتوسع منطقة مقدم الفص الجبهي, وإلى مزيد من القدرات السمعية والمفصلية في النطق, وربما أيضا إلى سلسلة من القدرات المساعدة الأولى والاستعدادات المسبقة التي يسّرت اكتساب واستخدام هذه الأداة الجديدة للاتصال والفكر. وطبيعي أن كل تغير تم استيعابه وتمثّله هيأ إمكانية أكبر لاكتساب منظومات من رموز أكثر تعقيدا, وبالتالي انتخابها لمزيد من التوسع في منطقة مقدم الفص الجبهي.

واللغة الرمزية في مفرداتها الأولى وفي تطورها كانت نتيجة عمل اجتماعي يقتضي تفاعلا وتعاونا, فهي أداة تكيف. ومع زيادة مدى وكثافة العمل تزداد الحاجة إلى لغة رمزية أقدر على الوفاء بالمتطلبات المتنوعة, ويزداد الاقتران العصبي والضغط الانتخابي ويحدث التطور المشترك للغة وبنية المخ معا.

 

تيرينس دبليو ديكون