الامام المصلح محمد عبده مائة عام على وفاته

الامام المصلح محمد عبده مائة عام على وفاته
        

          الإمام محمد عبده هو أحد أبرز المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث, وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة, فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون. وقد مرت الآن  مائة عام  على وفاته ولكن أفكاره مازالت حية وباقية, فالإصلاح الذي ننشده كان هو أول من دعا اليه. و(العربي) إذ تحتفل بهذه المئوية منذ اختفاء هذا الراحل الكبير تدعو كل المفكرين العرب لاستعادة روح الأفكار التي طرحها. 

محمد عبده والصحوة الإسلامية المجهضة

          في الذكرى المئوية لرحيل (الأستاذ الإمام) ثمة مهام فكرية وبحثية لم تنجز بعد. وبدل إقامة (مأتم التنوير) يجمل بنا أن نحتفل بولادته الجديدة. فالولادة الجديدة وعد قائم لكل أمة حيّة... والمطلوب المزيد من الأسئلة وإعادة النظر في السائد والمتعارف عليه, لاكتشاف أرضية أكثرصلابة.

          نعم, حالة الفكر الإسلامي في اللحظة الراهنة أكثر انغلاقًا وتعصبًا من تلك اللحظة المضيئة, التي أشعلها عقل الشيخ محمد عبده قبل مائة عام, مدعومًا بإيمانه الإسلامي. نعم, حالتنا الفكرية اليوم هي كذلك. ولكن لا داعي لشق الجيوب ولطم الخدود, فتاريخ الأمم يسير خطوة إلى الأمام, وخطوات إلى الوراء. هذه سنة الحياة لمن تجاوزوا مرحلة (البيان رقم 1) من الإذاعة, وكل ادعاءات الإعلام الرسمي المضلل ما قبل البيان وما بعده!

          وليس صحيحًا ما شاع لدى دارسي تاريخ الفكر العربي الحديث أن محمد عبده (تلميذ) جمال الدين الأفغاني. حقًا ثمة أسبقية زمنية للأفغاني بظهوره على مسرح الأحداث بمصر, وكان محمد عبده (الشاب) من المشاركين في ندواته في المرحلة الأولى من حياته, إلا أن الأفغاني كان ناشطًا سياسيًا أكثر من كونه (مفكرًا) بالمعنى الدقيق للكلمة, وإلا فأين (فكر) الأفغاني, عدا خطبه السياسية?!!

          هذا بينما اقتنع محمد عبده - بعد مرحلة (العروة الوثقى) التي شارك الأفغاني في إصدارها بباريس - بأن طريق العمل السياسي قد أصبح مسدودًا بمصر والعالم العربي والإسلامي, وأنه لا بد من النضال على خط الدفاع الأعمق, وهو التجديد العقلي والإصلاح الديني والتربوي واللغوي, لأن التخلف الحضاري الذي بلغه المسلمون - العرب بخاصة - في ظل الدولة التركية العثمانية والدولة الفارسية الصفوية, أخطر من أن يعالج بخطاب سياسي وبمظاهرات جماهيرية, بينما (الجماهير) على حالها من الأمية والبؤس والاغتراب عن العصر وحركة التاريخ الحضاري للإنسان. ومن هنا النظرة السلبية لمحمد عبده, حيث الشأن السياسي, بعد اكتمال سيطرة الإنجليز على بلده, وإحاطتهم الاستراتيجية بالعالم العربي والإسلامي في معظم أقطاره, وتوجهه للنضال العقلي الثقافي والتربوي, وتركيزه على قضية الإصلاح الديني بخاصة, وذلك من خلال الأزهر الشريف والفتاوى المتقدمة التي أقدم على إصدارها للمسلمين في مختلف أقطارهم, وكان لها صداها الإيجابي في نضالهم ضد التخلف والاستعمار في الوقت ذاته, حيث التخلف والاستعمار حليفان طبيعيان متلازمان ضد نضال كل أمة تنشد التحرر منهما معًا, ولا يمكن أن (تتحرر) من الاستعمار إذا كانت تحت وطأة التخلف الذي يعود الاستعمار من (نافذته)!

          ولابد من القول إن محمد عبده, وإن خطا في الاتجاه الصحيح نحو تجديد عقلي وإصلاح ديني أولاً كمقدمة للتحرر السياسي, من الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي, فإنه كان (مجتهدًا) يحتمل اجتهاده الصواب والخطأ في كثير من الأمور. ومن الإنصاف النظر إليه في السياق التاريخي لعصره والحكم عليه بنظرة تاريخية لا بنظرات اتهامية هي مع الأسف ما يسود في خطابنا العربي الراهن. وبلا شك فإن الحركة التقدمية التي ولدها فكره في مصر والوطن العربي قد استفادت كثيرًا من تجديده وإصلاحه الديني في تغذية نضالها السياسي, هذا على الرغم من أن محمد عبده على عقلانيته العميقة اضطرته تجربته السياسية المخفقة إلى مقاربة السياسة بشكل كرس القطيعة الانحطاطية السائدة بين العقل العربي والشأن السياسي, تلخصها مقولته الشهيرة (أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة, ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس), وهي نظرة لها ما يبررها في التجارب السياسية للمسلمين, ولا يتحمل محمد عبده وزرها وحده, بالرغم من كونها غير طبيعية إطلاقًا بمنظار الفلسفة السياسية في الفكر الإنساني منذ أرسطو وبركليس أثينا.

الانفتاح الحضاري

          أيًا كان الأمر, إذا كان الفضول البحثي لدى الدارسين - وهو فضول علمي مشروع - يبحث عن (أستاذ) لمحمد عبده, فهو رفاعة رافع الطهطاوي, الذي أصّل نزعة الانفتاح الحضاري في الفكر المصري والعربي, وكان رائده الأول, وذلك من خلال التعرف الجاد على (الحالة الحضارية الفرنسية) أثناء وجوده بباريس إمامًا للمبتعثين المصريين هناك, مع تمسكه بثوابت هويته المصرية والعربية الإسلامية دون غلو, فالغلو أساس التخلف العقلي والحضاري, والتحذير الذي أطلقه القرآن الكريم ضد الغلو يبقى شاهد إثبات ضده. كما أن الطهطاوي جدد تقليد الانفتاح الإسلامي على الحضارات الأخرى وهو أمر كان محظورًا في زمنه لدى وعّاظ التخلف!

          هذه لمحة بحثية لابد منها لدارسي فكر النهضة التوقف أمامها.

          وإذا أرادوا من ناحية أخرى مواصلة تسلسل خط (التلمذة) على يد محمد عبده, فإن ما شاع عن كون رشيد رضا, ومن بعده حسن البنا من (تلاميذ) الأستاذ الإمام, فهما من تلامذته عمرًا واقتباسًا جزئيًا فحسب, لكنهما ليسا من تلامذة نهجه العقلي المتقدم الذي استنه في الإصلاح الإسلامي, على ما لهما - رحمهما الله - من سابقة في الاجتهاد الديني المحافظ. وإذا استثنينا المرحلة العقلية المبكرة في حياة رشيد رضا, حيث كان احتكاكه بفكر الأستاذ الإمام مباشرًا وقويًا, فإن حسن البنا استمرار لنهج الأفغاني في العمل السياسي, أكثر من كونهما (مفكّرين) بالمعنى الدقيق للكلمة. أما (التلامذة) الحقيقيون لمحمد عبده, بهذا المعنى, فهم عبدالرحمن الكواكبي والعقاد ود.هيكل صاحب (حياة محمد), والشيخ مصطفى عبدالرازق صاحب (تمهيد في تاريخ الفلسفة الإسلامية).

          أو كما يقول رضوان السيد, الذي سد الفراغ الذي خلفه إحسان عباس في دراسات التراث, وزاد عليه من خصوصية تجربته الغنية, يقول: (رأيت دائمًا أن الإحيائية الأصولية ما كانت أبدًا استمرارًا لإصلاحية عبده بل هي قطيعة معها). (الحياة 12/2/2005).

          وحيث إن مقاربة فكر محمد عبده وتراثه في الإحياء العقلي للحضارة الإسلامية, يحتاج إلى مئات الصفحات وعشرات المراجع, فإننا في هذه الدراسة الموجزة, عن هذا الرائد الذي مازالت الحاجة ماسة إلى فكره التنويري, سنركز على بعض القضايا, التي لم تنل اهتمامًا كافيًا من الدارسين وهي: 1- تجديده الوعي بـ (عروبة الإسلام), 2- تأثير فكره في ثورة يوليو وحركة جمال عبدالناصر:

(عروبة الإسلام) جسر لعالميته

          من الأسس المهمة التي لم يتمّ تقديرها بدرجة وافية في تفكير محمد عبده تفسيره للتاريخ الإسلامي ولظاهرة ازدهاره وانحطاطه من منطلق عربي يتجاوز المثاليّة الدينية العامة, في نظرتها إلى مختلف الأقوام المسلمة, وينزع وجهة الواقعيّة التاريخية التي اكتسبها عبده من إعادة اكتشافه لابن خلدون من ناحية, ومن تأثره بالمفكرين الاجتماعيين الأوربيين من ناحية أخرى.

          يقول في مجال تحديده للمنعطف الذي تحول عنده الإسلام من الصعود إلى الانحدار تحت باب جمود المسلمين وأسبابه (كان الإسلام دينًا عربيًا, ثم لحقه العلم فصار علما عربيًا, بعد أن كان يونانيًا).

          ثم أخطأ خليفة في السياسة, فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنّه خيرًا له (يعني: لشخصه). ظن أن الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي, لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي.

          (فأراد أن يتخذ له جيشًا أجنبيًا من الترك والديلم وغيرهما من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه, فلا تساعد الخارج عليه وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما يبيح له ذلك.

          هناك استعجم الإسلام وانقلب أعجميًا.

          (خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه - وبئس ما صنع بأمته ودينه - أكثر من ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه, فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء, واستبدوا بالسلطان دونهم, وصارت الدولة في قبضتهم, ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام, والقلب الذي هذبه الدين.

          (بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل, يحملون ألوية الظلم, لبسوا الإسلام على أبدانهم, ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم, وكثير منهم كان يحمل إلهه معه, يعبده في خلوته ويصلّي مع الجماعات لتمكين سلطته). (عبده, الإسلام بين العلم والمدنية: 166 - 167).

          من الواضح هنا أن محمد عبده, على استيعابه العميق للروح الدينية الإسلامية يتجاوز النظرة الأممية الشاملة, ليعيد تفسير التاريخ الإسلامي تفسيرًا عربيًا صريحًا ذا طابع قومي محدد لا يشاركه فيه مفكرون مسلمون من قوميات أخرى. ولعل موقف محمد عبده يغدو أكثر وضوحًا وتميزًا - من الوجهة القومية العربية - إذا نحن وضعناه بموازاة موقف مغاير لمفكر إيراني مسلم معاصر هو سيد حسين نصر من مسألة الصلة ذاتها, بين العروبة والإسلام: ولد الإسلام في الجزيرة العربية, فحاق به لذلك خطر الانقلاب إلى دين عربي, بدلاً من أن يبقى عقيدة عالمية). (نصر, دراسات إسلامية: 15)

          إن ما يراه هذا المفكر الإيراني خطرًا يهدد الإسلام, وجده محمد عبده الحقيقة الجوهرية لدين الإسلام وثقافته. كان الإسلام دينًا عربيًا ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيًا. وإذا كان الإسلام, في مستواه المثالي الأشمل, يتجاوز التفسيرين العربي والفارسي, فإن هذه المقارنة توضح لها عمق العنصر العروبي في تفكير الأستاذ الإمام, ومدى تغلغل الحس القومي العربي في نزعته الرامية إلى إصلاح الإسلام وتجديده, وتحدد لنا أين يقف بتفكيره الديني من شتى التفسيرات الأخرى الأعجمية والأممية, في وقت كان فيه مثل هذا الوعي العربي مغيبًا.

          ولا يقتصر عبده على هذا الحكم التاريخي العام, بل تراه يحدد تفصيلاً التأثيرات المتشعبة لفقدان الإسلام هويته العربية, وخضوعه للعناصر الأجنبية معتبرًا ذلك الغياب العربي العلامة الفارقة الكبرى بين اضمحلال الإسلام المتحضر المزدهر وسيادة الأعجمي المتخلف, حسب نظرته (ومن ناحية تاريخية, فإنه باستثناء الحضارة الفارسية, فإن العناصر غير العربية القادمة من أواسط آسيا كانت فعلاً أقل تحضرًا).

انحطاط الفكر الديني

          وقد نجم عن هذا الغياب العربي في نظره عدّة نتائج انحطاطية خطيرة مشوّهة لحقيقة الإسلام:

          1 - انحطاط في جوهر الفكر الديني, حيث توهّم أولئك الأغراب الدين ناقصًا ليكملوه, ونظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية, فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو براء منه (و) نجحوا في إقناع العامّة بأنّ في ذلك تعظيم شعائره.

          وقرروا أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدّم, وجعلوا ذلك عقيدة حتّى يقف الفكر وتجمد العقول, ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم.

          2 - انحطاط في النتاج الثقافي العام, بسبب ركود العالم الفكري المولّد له.

          فقد كانت جميع الفنون مسارح للعقول تقتطف ثمارها ما تشاء, فلمّا وقف الدين, وقعد طلاّب اليقين, وقف العلم وسكنت ريحه. (الإسلام بين العلم والمدنية 168 - 169).

          3 - انحطاط في الحياة السياسية, حيث نشرت العناصر الدخيلة فكرة الانفصال بين الحاكم والرعية, وضرورة ابتعاد الرعيّة عن (كل ما هو من أمور الجماعة والدولة), وردّ الفساد, لا إلى جور الحكّام, بل إلى القضاء والقدر وصروف الزمان واقتراب نهايته, مما قطع الطريق على أي إصلاح أو تقدّم.

          ويجب ألا نمر بهذا الموقف التاريخي ـ الفكري لمحمد عبده قبل أن نستخلص مدلولاته القوميّة كاملة:

          1 - إن محمد عبده يرى انحطاط الإسلام - في نطاق الدين والفكر والسياسة - قد بدأ عندما استعجم وانقلب أعجميًا, وأن ازدهاره كان مرتبطًا بإخلاصه لجوهره العربي.

          2 - إنه يتحدث في نطاق الإسلام ذاته عن (جند عربي) و(جند أجنبي) من ترك وديلم. والنظر إلى هذه العناصر المسلمة باعتبارها أجنبيّة سيطرت على الإسلام واستعبدته, يتطابق مع موقف الروّاد القوميين الأوائل في نظرتهم إلى الوجود العثماني في البلاد العربية, بقدر ما يتناقض مع موقف الفقهاء المسلمين التقليديين.

          وهذا يعني أن إصلاحه الديني المرتبط بالعودة إلى جوهر الإسلام العربي كان إرهاصًا بظهور الحركة القومية العربية مثلما كان الإصلاح الديني الذي قام به مارتن لوثر إرهاصًا باستيقاظ الروح القومية الألمانية وإن لم يكن التعبير الفكري - السياسي المباشر عنها.

          3 - إن محمد عبده يشكك في صحة إسلام تلك العناصر الأجنبية غير العربية, التي لم يهذب عقولها وقلوبها الدين, والتي دخلت الإسلام بقصد السيطرة, وهي تحمل آلهتها معها وتعبدها في خلوتها.

          وهذا القول يؤدي إلى استنتاجات خطيرة, إذا أوصلناه إلى نهايته المنطقية. فهو يعني أن العرب على بداوتهم وفطرتهم, كانوا وحدهم المؤهلين لاستيعاب روح الإسلام والارتقاء به ومعه, وأن العناصر الأجنبية تبقى أجنبية, وإن أشهرت إسلامها, بل وتصبح مبعث خطر يتهدده من داخله.

          وعليه فلا مخرج من الانحطاط إلا بعودة الإسلام إلى أصوله العربية وجوهره العربي, وأن يصبح, كما بدأ دينًا عربيًا حسب محمد عبده. ويأتي هذا التفسير القومي للإسلام في فكر محمد عبده ليوفر الشرعية الدينية لحركة التحرر القومي من الترك, وإحياء الخلافة العربية باعتبارها مدخلاً لاستقلال الكيان العربي عن الإمبراطورية العثمانية التي لابد من الإقرار أن (الانحطاط) سيطر عليها قبل الغزو الأوربي, وهذا الانحطاط الحضاري المزمن هو الذي جعلها عاجزة عن رد الغزاة.

          وما يجدر ذكره هنا أن محمد عبده كان يشارك برأيه ضمن هذا الاتجاه, وأنه انفصل عن أستاذه الأفغاني, عندما تبنى الأخير فكرة الدعاوى للجامعة الإسلامية, خدمة لنفوذ السلطان عبدالحميد, كما أن شعور عبده بالكراهية تجاه الأسرة التركية الحاكمة في مصر, وعميدها محمد علي, لم يكن خافيًا في كتاباته ومواقفه.

          لقد جرى التأكيد حتى الآن على مصرية محمد عبده, ولم يظهر دارسوه اهتمامًا وافيًا بالعنصر العروبي في تفكيره. ونحن نرى أن عبده, من منطلق الإصلاحية التوفيقية, قد أعطى تفسيرًا عربيًا صريحًا للتاريخ الإسلامي ولظاهرة صعوده وانحداره, بما يتفق وبداية انطلاقته على يد النبي العربي, بقرآن عربي مبين, وبصحابة أغلبهم من أخيار العرب وأشرافهم يتقدمهم آل البيت.

          وأنه بهذا الموقف قد ميّز نفسه عروبيًا عن المفكرين المصريين الآخرين ممن سبقوه أو جاءوا بعده. فالطهطاوي وأن يكن رائده الفكري جمع بين المصرية والإسلامية دون منزع عربي واضح.

          ولطفي السيد رفض الاتحاد العربي والجامعة الإسلامية, أي رفض الاتجاهين القومي والديني, باسم الوطنية المصرية. كما نظر طه حسين إلى العهد العربي في تاريخ مصر باعتباره مرحلة تندرج ضمن التراث المصري الوطني وطابعه العقلاني المتوسطي, أي أنه كان (غزوًا) ضمن غزوات خارجية أخرى تعرضت لها مصر عبر تاريخها, وهي مقولة خلافية في مصر ذاتها إلى حد كبير. هذا بينما كان العهد العربي في تفكير محمد عبده هو العصر الذهبي, والنبع الأصيل الذي عاد إليه في إصلاحه للفكر الديني, وتطويره للأزهر والمؤسسات التعليمية, وإحيائه للتراث العقلي, وبعثه للغة العربية.

          (ويجب أن نضيف هنا أن الاهتمام الجدي الذي أبداه محمد عبده بشأن إصلاح اللغة العربية يكمل الجانب العربي في تفكيره, ويمثل إنجازًا آخر من إنجازات دوره الثقافي القومي العربي).

          إن محمد عبده, في ضوء ذلك, يمكن اعتباره الرائد الفكري الأول للاتجاه العربي في مصر الحديثة, خاصة أن صلة مصر بالعروبة تمر عبر الإسلام.

          ومحمد عبده ببعثه - ضمن إصلاحه الديني - لمفهوم الإسلام العربي قد فتح المجال لتعريب الشعور الديني المصري, وتحويله من الارتباط بالجامعة العثمانية إلى تكوين انتماء عربي - إسلامي جديد في نطاق الرابطة القومية بالدرجة الأولى.

من محمد عبده إلى عبدالناصر

          بنظرة نافذة لخصت استمرار التاريخ المصري الحديث, وأبرزت الصلة الحية بين الإصلاحية التوفيقية والظاهرة الناصرية, يوجز المفكر المصري أنور عبدالملك هذه الحقيقة في امتدادها التاريخي المترابط, بما يتجاوز التناقضات الثانوية الهامشية بين طرفيها حيث قال: (الأساسية الإسلامية (يقصد مدرسة عبده) تتمايز إلى أرثوذكسيين, وهم أولئك الذين أطلق عليهم اسم السلفية المتجهين إلى الماضي, ثم من جهة أخرى, مجموعة يصاحب إيمانها الديني المخلص تعطش يناظره إلى استحداث النهضة في صيغ معاصرة. ويبدو أنه في قلب هذه القوى مارس محمد عبده أشد تأثيره الذي سيجد منتهاه الأقصى في نقطة الارتباط بين التيارين الكبيرين: في الفكر السياسي لجمال عبدالناصر وأعماله). (عبدالملك, دراسات في الثقافة الوطنية: 424-425).

          وحسب مصطلح بحثنا, فإن ذلك يعني أن توفيقية عبده التي انشطر تياراها, وجدت نقطة ارتباطها من جديد في التوفيقية الناصرية التي أخذت تحقق على الصعيد السياسي الاجتماعي ما طمحت إصلاحية عبده إلى تحقيقه مطلع القرن. ففي البداية ساهم عبده في ثورة أحمد عرابي, ولو نجحت تلك الثورة, لكان عبده أبرز مفكريها وقادتها الروحيين. (العقاد, عبقري الإصلاح, ط بيروت> 1971, ص119).

          وحتم تاريخ مصر الانتظار أكثر من نصف قرن ليأتي أحمد عرابي جديد ينقذ الثورة المؤجلة من استمرار الإخفاق. وعندما نجحت الثورة الجديدة (1952) كانت نظرية محمد عبده جاهزة مكتملة قد عادت إليها حيويتها منذ رجوع معظم المفكرين المصريين عن العلمانية إلى التوفيقية المستجدة (بين 1930-1935), وتنامي ظاهرة الاهتمام بفكر محمد عبده وتراثه منذ ذلك الحين.

          وتقوم الروابط الفكرية التالية بين فكر عبده وحركة عبدالناصر:

          1- على الرغم من أن عبده دعا إلى تعليم الشعب وتطويره ليكون قادرًا على حكم نفسه, فإنه كان أبرز صوت في الفكر العربي الحديث ينادي بضرورة ظهور (المستبدّ العادل), ويؤكد الحاجة إليه, ويبرز الإيجابيات المنتظرة منه. وقد لخّص دوره الحيوي بأنه سيحقق في خمسة عشر عامًا, ما عجزت الأمة عن تحقيقه لنفسها في خمسة عشر قرنًا.

          ولقد حاول لطفي السيد إسقاط حجج هذه النظرية من منطلقه الليبرالي, ولكن انحلال التجربة الديمقراطية أواخر العهد الملكي أعطى المبرر العملي والفكري لإحياء تلك النظرية.

          وشهدت الثقافة المصرية - قبل أكثر من عشر سنوات على ظهور عبدالناصر - بوادر الدعوة لحكم المصلح القومي, والرجل المنتظر الذي سيلمّ الشمل, ويحيي الأرض الموات, ويكون من أصحاب السلطان القادرين على وضع الكتاب في يد, والسيف في يد, ثم كتابة دستور الإصلاح بالمداد والدم, كي لا تبقى دعوة الإصلاح نظرية يعوزها التطبيق. (الزيات, وهي الرسالة, ج2, 187-190).

          2- ارتبطت بفكرة الإيمان بدور المستبد العادل, لدى عبده, قلة ثقة بدور الجماهير, حيث رأى أن الغوغاء عون الغاشم وهم يد الظالم, وإذا كان عبدالناصر قد عمل على تعبئة الجماهير ونطق باسمها, فإنه لم يتح لها عمليًا فرصة المشاركة الحقيقية في اتخاذ القرارات بأسلوب ديمقراطي, وظل أقرب إلى تصوّر عبده لنموذج الحاكم الأمثل في تعامله مع العامة. ولابد من الإقرار أن التجربة (الثورية), قد أثبتت مجددًا أن المستبد العادل, معرض لأخطاء أي مستبد ظالم, وأن (العامة) لابد من إعادة تربيتها في مجتمع مدني يتجه نحو الديمقراطية, وأنه لا توجد حلول سحرية غير ذلك.

          3-تطابقت نظرة عبده إلى دور عائلة محمد علي مع موقف الثورة الجديدة منها. فقد حكم عبده على مؤسسها محمد علي (الذي أزاحته الثورة فيما بعد, عن مكانته المحورية الممتازة في التاريخ المصري في عهد الملكية) بقوله: إنه لم يستطع أن يحيي, ولكنه استطاع أن يميت.

رائد وطني

          وبالنظر إلى هذا التماثل الفكري, لم تكن مصادفة أن يكون محمد عبده - ومعه أحمد عرابي - في طليعة الروّاد الوطنيين الذين يأتي الميثاق الوطني للقوى الشعبية (مايو 1962) على ذكرهم في مجال الإشادة بأدوارهم الطليعية.

          حيث أعلن أن ثورة عرابي هي قمة رد الفعل الثوري ضد الاستعمار والملكية الدخيلة, ثم التفت إلى حركة عبده, باعتباره استمرارًا للثورة بصورة أخرى: من عجب أن هذه الفترة التي ظنّ فيها الاستعمار والمتعاونون معه أنها فترة الخمود, كانت من أخصب الفترات في تاريخ مصر بحثا في أعماق النفس, وتجميعًا لطاقات الانطلاق من جديد. لقد ارتفع صوت محمد عبده في هذه الفترة ينادي بالإصلاح الديني.

          ومع أن الميثاق أضاف اسميّ لطفي السيد وقاسم أمين - بعد أن أسقط اسم سعد زغلول - ضمن تعداده لمخصبي تلك الفترة, فإن أعضاء المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في وثيقة تصديقهم على إعلان الميثاق, لم يلتفتوا إلا إلى اسم محمد عبده, باعتباره من الروّاد المناضلين ضد الطغيان والاستبداد, ولم يهتموا إلا بفكرته الجوهرية في التوفيق بين إحياء الإسلام, وتحديث النهضة القومية. (للتوسع في البحث, يراجع كتاب الباحث (الفكر العربي وصراع الأضداد), 1995 ص371-380).

* * *

          والخلاصة, أن التجديد الديني للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده, وعقلانيته الجريئة والنافذة في الفكر الإسلامي, يمثلان معلمًا لا يستهان به في تاريخ النهضة العربية الحديثة. والحديث اليوم عن تطوير المناهج التربوية في البلاد العربية والإسلامية, يجب أن يعود إلى ما تركه محمد عبده من مآثر جليلة في هذا المجال, قبل الأخذ بحرفية التقارير و(التوصيات) الدولية بهذا الشأن.

          إلا أنه على جلال قدره, وأصالة فكره, فإن مقاربته للشأن السياسي عكست اللحظة الآنية لزمنه, ولم ترق حتى للفكر السياسي اليوناني القديم, كما مثلت من جانب آخر التأزم المزمن في الفكر السياسي الإسلامي منذ البدء, حيث كانت الحضارة الإسلامية, كما أوضحنا في غير موضع, حضارة غنية خصبة في مختلف فروع الإبداع الإنساني, لكنها كانت مصابة بفقر دم سياسي, بـ(أنيميا سياسية) تركت آثارها على عافيتها التاريخية. ونأمل أن تتنبه عقول هذه الحضارة لمحاذير المستقبل السياسي, فلا تجترّ شعاراتها الأيديولوجية في إقامة الحكم الديني, وذلك حفاظًا على جوهر الإسلام ذاته على المستويات الإيمانية والأخلاقية الأرفع, التي يمثلها ويستحقها.

          وختامًا, فمطلوب العودة والدخول فورًا إلى التجديد الديني العقلي لدى محمد عبده, فثمة قوانين وسنن غرسها الله في الكون, والطبيعة لا تتبدّل ولا تحابي أحدًا مسلمًا أو غير مسلم.

          لكن الخروج في الوقت ذاته, من إسار فكرة السياسي المأزوم, الذي هو إرثنا التاريخي جميعًا, ولا يحتمل وزره وحده, هذا مع التذكر دائمًا أن عبده أكّد على أن الحكم في الإسلام مدني. وإذا كان الإسلام لم يفرض سلطة دينية على مجتمعه وأفراده, فكيف يمكن أن يفرض سلطة سياسية?!

 

محمد جابر الأنصاري   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات