قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?

-------------------------------------------

كثيرًا ما يسأل المرء نفسه: ما الذي يشدنا إلى اختيار نص أدبي وتفضيله على نص آخر؟ لا شك أنها في النهاية مسألة تتعلق بالذوق، ولكن لا شك أيضًا أن وراء كل اختيار مبادئ حاكمة تكاد لا يختلف عليها اثنان، خصوصًا إذا كان صاحب النص في بداية الطريق؛ فلا أحد سيختار مثلاً قصة لا يستطيع صاحبها أن يقيم جملة سليمة، أو يجسد وصفًا لمكان أو حالة، أو يلتقط عاطفة عابرة غامضة، أو يرسم جانبًا من شخصية.

عرضت السؤال على نفسي، فبدا لي أن ما يغري بالاختيار في القصة القصيرة خصوصًا شيءٌ يتعلق غالبًا بالغموض. ما من قصة قصيرة مميزة إلا وتنطوي على لون من الغموض، ذلك أنها كالقصيدة - لا تقول شيئًا واضحًا يمكن تلخيصه، أو التعبير عنه بكلمات أخرى.

  • القصة الأولى: «صحارى الأحلام» لأحمد ناصر نور الدين (لبنان)

تنويعة جديدة على رائعة يوسف إدريس «نظرة»، طفلة في السادسة تخرج - في حماية معنوية من أخيها كما يقول الراوي - إلى رحلة الرزق المغلف بالذل على شبابيك سيارات تمر بعيدة مسرعة كالغيوم. غير أن الخلاف الكبير بين هذه القصة وقصة إدريس يكمن في نوعية اللغة ووجهة النظر. لغة القصة مشحونة بالوصف العاطفي الذي يجسده المجاز الكثيف، لكنه ليس المجاز الميت الذي يعبر بلا أثر، بل المجاز الحي الذي يمسك باللحظة ويلتقط المشاعر العميقة العابرة.

  • القصة الثانية: «بحيرة» لحرية عبد الرحمن أحمد سليمان (مصر)

في نهايات العمر تستعيد الراوية العجوز شبح حبيبها الذي ضاع في رحلة ليلية إلى بحيرة فانتازية تعود من الماضي السحيق. وتأخذ القصة شكل حلم طويل مفرداته البحيرة والمجاديف والسمك وطمي القاع والريح تصفر مرسلة صخبها بلا نهاية، وتنتهي القصة الحلم بما يشبه استجابة الرجل الحبيب لنداهة البحيرة التي اختفت معه في موسمهما الأخير.

  • القصة الثالثة: «ليلة لا كالمعتاد» لهشام ناجح (المغرب)

الراوي هنا يتقمص تمامًا زمن الرشيد ولغة السرد العربي العجائبي. يحلم الراوي بلقاء الرشيد فيلقاه ويدور معه ومع وزيره في القصر حوارات متقطعة ترسم لنا زمنًا يشبه الحلم، لولا أن الكاتب يفاجئنا بصوت والدته توقظه من الحلم وتقطع زمن الرشيد لتعود به حيث زمن سيدي عبد الرحمن المجذوب، وإلى حيث ينقطع الوحي والحلم.

  • القصة الرابعة: «هي وهو، أو يوميات حزينة» لحسن الرموتي (المغرب)

نموذج للقصص القصيرة جدًّا التي يؤلف منها صاحبها مجموعة من الحلقات تلتئم حول فكرة اليوميات الموجزة لأنثى وذكر مجردين، هو وهي في حوار متقطع كاشف، في ثماني حركات (حوار كاذب، الحلم، المطار، القفص، الحدود، المرآة، وطن، سينما) تمزج الواقع بالخيال والفانتازيا. وشأن القصص القصيرة جدًّا يعتمد النص على الحذف والإشارة الملغزة البعيدة.

  • القصة الخامسة: «صانع التماثيل» لقصي الشيخ عسكر (العراق)

وهذه قصة أخرى من نوع مختلف لأنها تنهض على حكاية واضحة وليس مجرد لحظة، ولأنها بالرغم من حرصها على التفاصيل تناقش فكرة مرتبطة بالفن وما فيه سحر وغموض وقوة لا سبيل إلى فهمها. الراوي وصديقه الذي صنع له تمثالاً منذ زمن ووضعه في مفارقة مع الزمن والتغير والقوة الغامضة الثابتة الكامنة في الفن.

----------------------------
صحارى الأحلام
أحمد ناصر نور الدين - لبنان

بصحبة الأولاد تسعى نحو الجسر كل صباح. طفلة في العام السادس من عمر ناشف بارد، لا يحمل في أحواضه غير شتائل الأحلام، أحلام بألوان الطيف.

تحفر بقدميها الصغيرتين في أديم الأرض بصمات خفية تذروها الشمس العابرة كل يوم فوق الجسر ذاته. وهي تسير خلف أخيها الذي يؤمن لها حماية معنوية وسط زمرة الصيادين الصغار. صيادون لرزق يعبر في شبابيك السيارات. والسيارات متنوعة كالغيوم: قاتمة، ناصعة، مدرارة أو عقيمة... والرزق يأتي مغلفاً بالذل أحياناً، وأحياناً يمضي مسرعاً، يفر ويبتعد، ثم يذوب في عمق اللوحة المحترقة بألوان النهار، ويعبر تحت الجسر حيث يفنى كما تفنى سرائب العيون.

الفتاة ذات الأعوام الستة تمد يدها الصغيرة نحو شبابيك السيارات حاملة علبة علكة صفراء. تمد الفتاة السمراء يدها بالعلبة وتستجدي الشراة بصوت نحيف هزيل يضيع وسط زوابع الضوضاء. ثم تقبض ثمن الصفقة الزهيدة بيدها الأخرى وتدسه في حقيبة صغيرة ترتبط بجيدها ارتباط المتعانقين.

حين تتوالى الصفقات الناجحة تفور في داخلها خميرة الفرح، ويكتسب وجهها الأسمر الصغير بهاء من الدفء والزهو. تصبح الحياة حلوة بكل تفصيلاتها:

وتنظر نحو أخيها لتسرق من وجهه نظرات حذرة، وفي قلبها تقرع أجراس الابتهال كي يكون أخوها في غفلة عما جنته يداها من رزق مهدد بالسلب لحوائج لا نهاية لها.

وفي بعض الأحيان السعيدة يجود عليها العابرون ببقايا طعام أو شراب تتلقفها بروح جائعة لمسرات الحياة.

كل نهار جديد يحمل في صحرائه أرزاقاً جديدة، وما عليها فعله هو المثابرة. وحين تمر مواكب السيارات المحصنة العقيمة، تسترخي الفتاة وتسرح ببصرها فوق ظهور السيارات حيث ترى التماع الضوء الشمسي في الصفحات المعدنية. في تلك الالتماعات كانت تستشعر شيئاً مريحاً، كأنه ضوء الأمل يداعب مقلتيها الحالمتين. وذات مرة عزيزة حمل إليها الضوء أحد ملائكة الأمل. في الواقع كانت سيارة وبداخلها أكثر من ملاك. ملاك يقود السيارة، وملاكة تفترش المقعد الخلفي في هالة تشع سلاماً ناصعاً تسكن به آلام القلوب الجريحة. لون السيارة أبيض أيضاً، أحست الفتاة حين رأت سائقها بذلك الإحساس الذي لا يمكن لعاشق أن يخطئه، إحساس بالطمأنينة والسلام لا تعيشه إلا قلوب الواصلين. ثم نظرت خلال زجاج السيارة الخلفي، فرأت فيه ما أرسل الطمأنينة تصدح في حنايا قلبها الصغير فتذيب ما فيه من أوجاع وأدران. ولقيت من هذا اللقاء ما فطنت روحها إليه منذ اللحظة التي شهدت بشائر الرؤية الأولى.

لكن كان لا بد لتلك الفسحة أن تنقضي كما تنقضي الأحلام العزيزة غير عابئة لما تخلفه في القلوب من مشاعر غالية سرعان ما تنقلب حسرة وحزناً حين يدرك الحالمون أنهم عادوا، من جديد، إلى عالم الصحو والهموم.

في غمرة من عرق الحرارة والتعب، رفعت الفتاة يدها الواهنة لتمسح بلل الجبين، ثم أخذت من الهواء المحدق بها نفساً طويلاً، وأطلقته ممزوجاً بحسرة التنهد. وطافت بروحها أطياف ملائكة السلام، فاشتعلت فيها نار الشوق، والتمعت في عينيها أنوار الأمل تبرق مع كل سيارة تعبر. ثم جاء وقت الغداء فتجمع الرفاق فوق رصيف شاغر، وراح كل شخص يأكل مما تيسر له في هذا اليوم، فكان الطعام متنوعاً تنوع الأرزاق والأحوال. أما هي فدست يدها في حقيبتها وأخرجت منها لفافة رغيف تحوي بداخلها طعاماً نادراً، فأكلت بشهية وجالت بعينيها في الشارع متنقلة بين السيارات، وهي تحاول أن تحسب ما يفوتها من صفقات رابحة أثناء تناولها الطعام، وفي الوقت نفسه لم تكن نفسها تكف عن البحث. دائماً تبحث عن مشرق أمل بديع يغمر روحها بالسلام.

لماذا لا تكون مثل غيرها من أولاد هذه المدينة؟! لماذا لا ترتدي ثياباً نظيفة، وترتاد مدرسة كتلك التي تصادف أحياناً خروج تلاميذها الصغار في ضجيج فرح يشعل في داخلها نيران حسرة غامضة على حياة بعيدة جداً رغم المجاورة الأليمة؟! حين فرغت من الطعام نفضت الفتاة عن كتفيها أثقال تلك الأسئلة المحرقة، ونهضت لتلتحق من جديد بتيار السيارات الذي لا ينقطع، ومدت يدها إلى علبة العلكة الصفراء. توالت السيارات والأيام، وانسحقت في الطريق بعض الآلام والمسرات.

ثم جاء اليوم الذي انتظرته بشوق أضنى جفنيها بسهر طويل وخيال، فتحينت من أخيها لحظة الغفلة لتبتعد راكضة صوب طريق فرعي تقوم في وسطه مدرسة ذات بوابة زرقاء كبيرة، وتابعت ركضها فمرت ببوابة المدرسة ولاحقتها ضوضاء آتية من خلفها فاصطدم قلبها فجأة بإحساس قوي بالحنين إلى شيء ما، وبلغ بها التأثر مرتفعاً بعيداً فكادت تبكي حين تقاطع ذلك الحنين مع إثارة الموقف، إضافة إلى إحساس حارق بالندم على ما شرعت فيه. لكنها كانت مصممة. ظلت تركض حتى وصلت إلى المكان المقصود: مساحة ترابية صغيرة تحيط بها البنايات من كل جانب، قد اصطفت بها عدة سيارات. ومن بين تلك السيارات عرفت الفتاة الصغيرة أي واحدة تريد أن تركب. الأمل الباهر.

انتهت من الركض عند باب السيارة الخلفي الذي فتح فور وصولها. التفتت الفتاة إلى الوراء فأبصرت عمود كهرباء أصفر ووجوه بعض الأشجار الشاهدة بصمت الحفيف على هذا الحدث السعيد، ثم عادت تنظر أمامها، ووفق الخطة المرسومة دست جسمها الصغير داخل باب السيارة وجلست مقرفصة على الأرض بين المقعد الخلفي والمقعد المجاور للسائق. نظرت إلى «الملاكة» الجالسة في المقعد الخلفي وتبادلت معها ابتسامة المعرفة والترحاب. ثم ارتفع هدير السيارة وتحركت من مكانها فتحركت معها أشواق القلب الصغير. ودفق نور النهار إلى الداخل عبر الشبابيك فأبصرت الفتاة الصغيرة آخر ما أبصرت من نور الدنيا بقلب يخفق شوقاً إلى مسرات الحياة الواعدة.

----------------------------
بحيرة
حرية عبد الرحمن أحمد سليمان - مصر

لسنوات متصلة ظل يأتينى برغم استحالة العودة.. واستحالة رؤيتى له من جديد لفقدانى البصرولكنه بالفعل تغيركثيرا.. ثقلت حركته، اختلف صوته، انكمش كعجوز مثلى تماما، وهذا ما أدركته حين ضممته لصدرى، يمكننى تحسس عظامه كما يمكنه فعل المثل معى، صرنا أقرب لهيكلين عظميين نمارس رياضة نفسية من نوع ما، لم يعد يميزه الا استحالة أن يكون أحد غيره، من سواه يأتى بتلك الظروف، من تراه يرسل هذا الصوت وتلك الدوامات الندية من الذكريات، كان الخوف من فقدانه هو الشيطان الذى يزورنى ليلا وكالنزناز يباغت غفوتى ويبطل صلاتى ويفسد تسبيحى ويحيلنى ماجنة بانتظار توبة ويستحيل هاجسا ينقر مخابئ الذاكرة الوهنة فيستدعى تلك الصورة للزمن الذى رحل متسربا بين جدائل تلك الزرقاء الهادئة التى طالت غفوتها ورقادها وتنتظر الآن قبلة حياة، أصر أن يكون فصلا جديدا من فصول البوح برغم جفافها وانتظار ما ستهبه بعد انتهاء صومها إن قدرت لها الحياة بكل صبر وأناة برغم تمزق النسيج المتقاطع للِشباك المتوسدة جدران البيوت والمفترشة الممرات الساكنة والأحجار الجيرية بين الطرقات، أى خيط جرئ الآن يقدر على لملمة أجزاءها وقد تفرقت وتباعدت واهترأت كنسيج متحلل، وصار كل فتق فيها بطول ذراع وعمق ذراعين،ولكن برغم جفاف الصورة وشحوبها إلا أن صيحته تشق دوما وحشة السكون و تبارك ولادة الخيوط الأولى للفجر فتعود لى الروح من جديد فأنفض غبارا ثقيلا لزجا عن نفسى وأعربد فى الفراغ المتسع للحجرة بحثا عن عباءة سماوية بلونها لأرتديها و قطعة قماش بيضاء لأشير له بها وكشاف ضوئى ان فكر مرة بالمجئ مبكرا على غير المعتاد.

مسرعة أدس نفسى بعباءتى الزرقاء، حافية أقطع الحجرة، أحرر المزلاج، أركض باتجاه الخارج وأتنفس، أشير له تارة برقعة القماش البيضاء أو أرسل تلك الومضات المتتابعة بشكل دائرى باتجاه عقارب الساعة أحيانا وأحيانا عكسها، لأتفاجأ به فوق رأسى ينقرمابين فراغات الشعر، كان لزاما على أن أصدق بأنه عاد وأنه قادر دوما على الرجوع وقتما شاء.. برغم انعدام قدرتى على تتبعه كما بالماضى كفتاة عشرينية جموحة على حافة زورق مستعيدة توزانى بلحظات، كانت تلك الحلقة الحمراء مايميزه عنهم جميعا أيامها، ثبتها( يونس) بطرف قدمه اليسرى، وصارت علامتنا المائية التى تميزثلاثتنا عن غيرنا من الباحثين عن أنفسهم بالغيروالموقنين بفكرة التخاطر أو التلاحم أو الاستنساخ أو أياَ كان المسمى.. والآن لم يعد منهم سواه وصارت الحلقة كخاتم زواج يربطنا أبداً.

وجدتنى أجدف بقارب فى بحر من رمال، أجدف فتعلو، أجدف فتعلو، يكشر عن أنيابه بموجة غاضبة تصر على ابتلاعه وتفعل، فيعود يظهر ثم تلتهمه من جديد ويظهر ثم تعلو لتلتهمه ويعود أخيراً لا يظهر، كان المجداف على السطح هو الإشارة الوحيدة المتبقية لقارب ما كان هنا واختفى، لا إشارة لكائن حى نافق أو بانتظار الموت، قلت له يومها سيحل الجفاف، نظر إلىّ وتهكم، قلت : لا تعرف رؤاى، أخبرتهم بعودة (مطر ) وعاد ورحيل (جمال) ورحل، أخبرتهم بولادة( خاطر) ووُلد وموت (ياسين) ومات، أخبرتهم بجنون (سعاد ) وجنت وزواج (غرام) فتزوجت، أخبرتهم عن جنية سيأسرك جمالها وقد كان، ألم تخبرنى بأنها عشقتك لثمان سنوات متصلة بعدها، كنت تضاجعها يوميا فتلد لك صباحا غلاما جميلا كانتشاءات الربيع، كنت تضحك منى، سألتنى وقتها وماذا بعد فوجمت، أظنك أدركت أنك ستفارقنى، وفارقت.

غائمة كانت هى الشمس يومها ولم أجد بى رغبة فى اقتفاء أثرها، ربما كانت هى من يفعل ذلك فتتجنبنى، لم تصدر ماينبئ عن شروق مميز منذ زمن بعيد، كانت قديما كعروس بليلة الحناء، مشتعلة الوجنتين دافئة المشاعر موحية بقبلة، كانوا هم الآخرون يتندرون، ويتصعلكون بالنواصى متفكهين بعد أسبوع حافل بالبحيرة.. يتبادلون السجائر والنكات والطاولات لم نتعود الجفاف ولا ندرة الأسماك، لم يكن الطعام حتى بمشكلة، يمكنك أن تتخذ قاربا من تلك القوارب المسترخية بعيدا بالشاطئ والذهاب هناك ولن يسألك أحدهم عن وجهتك ولا حتى لمن هذا القارب، جدف لأى عمق كان، أو فلتبق على الحافة، كنا نشعر حركتها بالأسفل تتحرك بين أقدامنا، تندفع وتتداخل فتخمشنا قشورها وزعانفها، كم كانت أعدادها كبيرة وهى تهرب بكل اتجاه، كنا نذهب معا، أمسكت يدى يومها، أحسست بدفء القاع ونعومة الطمى وانحساره تحت قدمى، اقتدتنى مسافة كبيرة للداخل، كان يحلق فوقنا، أتذكر تلك النظرة الثاقبة بعينيه واندفاعه نحوها، اظنه اختفى لثانية وعاد وقد امتلأت حوصلته، أتذكر نظرتك لى وانت تدندن ذاك اللحن اليونانى لزوربا، قبلتنى، تركتنى وتسربت كما الحلم للداخل، مازال لحنك يداعبنى، منحتنى ركلات قدميك بعض القطرات بين شفتى بينما انخرطت ضاحكا واندفعت للداخل من جديد، بدت ملامح البحيرة ممتدة كما السماء يعانقها خط الأفق، يعكس بريقا فضيا مثيرا، ظهرت رأسك من بعيد ككرة تسبح تطفو فوق الماء، كنت أناديك، كان يحلق فوقك، كنا نتتبعك، لكن ماعدت، وعاد هو..

عندما بدأوا يخرجون ثم لا يعودون قلت لك أنها غاضبة، إختفى الرجال ولم تعد النسوة يفتحن الأبواب، احترفن غلقها بالمزاليج، كن يتلكأن حين نقرعها لنسأل عن من خرج ولم يعد، كن يخفين الطاولات ويتجنبن الشواء والحديث والابتسام وكل شئ، صارت الريح تصفر مرسلة صخبها بلا نهاية، تضاجع الأبواب والشبابيك يوميا بنهم وتنفذ عبر مسام الِشباك ممزقة أحلامها بالاحتواء، أخبرتك أنه الجفاف آت، لكنها كانت تحبك وحتى عندما أسرتك لم تعذب روحك وأطلقتها بسلام، كنت حبيبها وفقط، أما هم فقد احترفوا الكذب فذهبوا وما عادوا، ليتها عرفت ذلك فأعادتك لى ولم تأخذك بذنبهم، كان هذا موسمها الأخير لأنها بعدها صمتت للأبد.

----------------------------
ليلة لا كالمعتاد
هشام ناجح - المغرب

بينما أنا سائر في بغداد وكلي شوق لمجالسة الرشيد، لم تسعفني النوبات بالدخول من باب البصرة، فكان لزاما على بغلتي أن تقرع الأظلاف معلنة دخول الغريب من باب خرسان. لم أفكر أن الأمر صار ليحيا، وعيون البرامكة متوهجة بغضب النزوات... الشريط المبلط ينعش بروائح التوابل والقماش، ونسمات الكافور تبشر بموت وشيك على مشارف بني العباس كانت عيون الحرص ترقب الخطوات، تترصد النوايا، وكبير العسس يحملق بعين جبارة ترعب الفؤاد ويزهر الدم في البدن كسرعة البرق. تقدم مني بخطوات الواثق من أمره، فنزلت عن مطيتي متلعثما لأحييه تحية تليق بمقامه ومع استواء قامتي بادرني بالكلام:

ـ السلام على ضيفنا نراك قد ضربت في كبد الإبل لبلوغ الزوراء. نزلت أهلا وحللت سهلا. وقد يطول مقام المرء إذا عفت يده عن البطش وعينه عن الفحش.

ـ وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، لقد نال منا المسير وحاصرنا الظمأ والسغب لكن الرغبة مبلغ العلم وعصمة الأمر، وإني لأقطع حبل الود بيني وبين نفسي حتى أبلغ الحلم سعيا والرشد عضدا.

ـ اذن سلني حاجتك أيها الضيف.

ـ حاجتي إلى الرشيد كحاجتي إلى الماء والهواء.

ـ إني لأراك في خرف من الأمر وهذيان من السحر.

لم يكد يكمل كلامه حتى استنفر بوقفة اجلال لشخص يمر في موكب ما رأيت أعظم منه ولا أجل منه. فقلت في نفسي:" قد يكون من علية القوم "

تداولا في أمري.ولم يشأ إلا أن قادني إليه في رحاب جنة من كساء أخضر تفوح منها روائح أزكى وتنمقها فسيفساء أبهى، فأدركت أنني في رحاب الرشيد فقال:

ـ لاداع للبوح بأسرارك أيها الضيف، فوجهك يكشف عن مكنون الرسالة.

ـ نزعة البحث القويم وذروة السؤال الجاثم تتأبطني يامولاي وأحببت أن أدرك المقاصد ويغادرني سهاد المآقي.

ـ لافرق بين سطوة الخلافة وحمق الانتظار وإن العهد الذي بيننا وبين أنفسنا يستوي كنعمة الموت مع نية الخلود.

ـ العزة والسؤدد لكم يامولاي إني أسمع أنكم تحجون عاما وتغزون عاما.

ـ الحج مقصد وغاية وحسنه إخفاؤه، فيأخذنا الوفاء إلى عرفات لنحشر اليوم قبل الغد.

يتدخل الوزير يحيا فيقول:

ـ أذن لنا يامولاي أن نسأل ضيفنا عن تراب القدم وموطن النسب؟

قال:

ـ حقا ماترى ياوزيرنا.

قلت:

ـ إن الشمس تغرب في عين حمئة فثمة تنقضي عجائب النهار الجلي الكاشف وتلوح الظلمة كأنها كانون يتضرع قدرا منذ سالف العهد.

يضحك الرشيد حتى تظهر نواجده ومشيرا إلى جمعه:

ـ إ نه من مغرب رجراجة، قوم قدموا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهم حسنو العشرة وطيبو الأعراف، وقد كانت لنا اسوة حسنة في رسول الله يوم دعا لهم بالخير والبركات.

ـ بارك الله فيكم يامولاي إن سفري أضناني وأضنى مطيتي وإنها ترجو الحباء وتمتنع عن العلف إلا من يدي وتلك حكمة أخرى يامولاي.

ـ عجل بها فالحكمة روية وطوية تهيل التراب وتسفو الريح إلى مآوي الحق فيصبح العمل عرفا ومحجا وإني لأراك في بهاء السعي ورونق الحكي.

ـ يحكى يامولاي في سالف العهد أن ملكا من ملوك النصارى حفظك الله من مذلة الشوائب ونزوة العواقب، كان له وزير يتخذه عضدا ومن أبنائه قادة فأصاب الملك داء في جلده أقرب إلى البرص حيث عافته النفوس وتكدرت منه الزوج واحتار فيه الأطباء والحكماء، وكان عليه أن يقطع سفرا طويلا ليستحم في إحدى البرك النائية في قمم جبال سامقة، فتاه عن الركب وكان ذلك مقصودا فأخذ الوزير ملكه وزوجه وقال في نفسه: " إنه هالك لامحالة من الحر البغيض والوحوش الضواري " لكن الأقدار شاءت فكانت بغلته من تدرك قوام الطريق حتى عاد سالما معافى. وأحببت أن أقول لمولاي قد أنست لبغلتي فحيوان صديق خير من صديق حيوان.

ضحك الرشيد واغتاظ الوزير يحيا فاتحا فاه بابتسامة ثعلبية وصفق الرشيد وأتى رجل في كامل زينته منحنيا أمامه فقال له:

"أكرم ضيفنا الليلة وليستمر لقاؤنا في الغد إن شاء الله حتى لانضنيه فالسفر شاق والمقصد يانع والصبر درب غائر لايدركه إلا من استطاع لذلك سبيلا."

تمددت على السرير الواطئ القريب من الأرض فتسألني والدتي:" من هو هذا الرشيد الذي كنت تتحدث إليه هل هو سيدي عبد الرحمان المجذوب؟"

انطفأ ضوء الإنارة ولم يستقبلني الرشيد في الغد.

----------------------------
هي وهو، أو يوميات حزينة
حسن الرموتي - المغرب

حوار كاذب

كان يسيران معا على رصيف الشاطئ، الشمس في الأفق، بقايا سحب شاردة في السماء كشرودهما. اقترب منها و قال:

- أحببتك منذ سنوات، منذ رأيتك أول مرة.

قالت مشدوهة: - لقد التقينا منذ شهور في حفلة راقصة، و تزوجنا بسرعة.

قال : - عفوا - أقصد - رأيتك مرارا في الحلم.

أجابت بسخرية : - أما أنا فإني أراك في الواقع.

ثم واصلا خطواتهما، كانت تقول في نفسها : كاذب.

الحلم

بخطوات بطيئة كان يمشيان،، نظر إلى البحر الممتد أمامه كأن الموج يراوده و قال :

- حلمي أن نبحر معا بعيدا، أنا و أنت في البحر اللجي...

نظرت هي إلى زرقة السماء، إلى الفضاء الفسيح أمامها و قالت:

- أمنيتي أن نطير معا، إلى السماء السابعة.

واصلا سيرهما صامتين. و بصوت مفعم بالإحباط و الخيبة قالا:

- الأرض ملاذنا الوحيد... أنا و أنت.

ثم سارا دون هدف....

المطار

تعودا الذهاب إلى المطار، كان يراقبان اللوحة الإلكترونية المعلقة في بهو صالة الانتظار... و يحلمان بالسفر و بالآفاق البعيدة، قال بصوت مبحوح : - أحلم بالسفر نحو الشرق. قالت و هي تحارب دمعتين ساخنتين : - أحلم بالرحيل نحو الغرب.

انتظرا طويلا، حين غادرا بهو المطار، كان الوطن المحاصر ينتظرهما، منحهما كسرة خبز يابسة... و منفى ثم أعطاهما قفاه و انصرف.

القفص

كان ينظران إلى طائر الحسون في القفص المعلق قرب النافذة، كان الطائر يبدو سعيدا، نظرت إليه و قالت : - لقد أضناني السهاد.

وضع كفيه على شعرها المنساب و قال:

- لقد عذبني السكر.

نظر كل إلى الآخر، ثم فتحا معا القفص لطائر الحسون و الذي مرق أمامهما كالسهم، دخلا إلى القفص، وضعت رأسها على صدره، بينما الطائر على الشرفة فارغا فاه.

الحدود

معا قررا أن يعبرا الحدود، الليل كان أكثر حلكة،، في جسديهما سرت قشعريرة باردة.

قالت له :

- لقد سُرقت أحلامنا مثلما تسرق النجوم...

قال :

- لم تكن لنا أحلام بالمرّة في هذا الوطن...

تحسس كفها و تحسست كفه، و شد كل منهما الآخر، و سارا واثقين صوب الحدود، في الصباح الباكر وجدا نفسيهما أمام الضابط الشاب يسألهما..على مكتب الضابط كان علم وطنهما الصغير يبتسم...

المرآة

معا كان يجلسان على حافة السرير، هي و هو طبعا، نظر كل منهما إلى الآخر، ثم قام إلى المرآة أمامه، رأى وجها غير وجهه، صورة لا يعرفها، تراجع إلى مكانه مفزوعا دون أن ينبس ببنت شفة.

قامت بدورها تسير نحو المرآة كأنها تطأ أرضا ملغومة، تأملت وجهها قليلا، بدا لها أنه يشبه وجه صديقتها التي ضبطت تخون زوجها بالأمس...

على حافة السرير اقترب منها و اقتربت منه، تعانقا قليلا ثم انصهر الجسدان و أصبحا جسدا لا يشبه أحدا، و يشبه كل الناس.

وطن

في الشارع العام، رآها من بعيد قادمة بخطوات متناسقة، و فكر أن يغير طريقه، لكنه صار نحوها كأنه لم ير شيئا، رأته هي و سارت نحوه عنوة، عندما تقابلا ، ابتسم كل منهما للآخر، قالت:

- لم تتصل بي منذ أيام، يبدو أنه لم يعد لي دور في حياتك. قال بهدوء مصطنع:

- حبي لك لا يعادله سوى عشقي للوطن.

سارا معا وقد دعاها لكأس شاي في مقهاه المفضل الذي يرتاده أشباه المثقفين، جلس في مكانه المعتاد و قبل أن تستوي هي في مكانها كان النادل يقف على رأسه و يمده بصحيفة الوطن، اختلست نظرة للعنوان البارز بينما النادل يطلب منهما ماذا يشربان ؟....

سينما

في المشهد السينمائي الأخير، صاح المخرج بصوته الأجش : السكوت السكوت... تصوير، تقدم نحوها بقامته الطويلة، وضع يديه على شعرها ثم تحسس جبينها، تسللت يده إلى رقبتها البضة ثم صدرها... رفعت يديها عاليا ثم صفعته... أحس بدبيب الصفعة يدب في جسمه... بينما كان المخرج يتابع المشهد بإعجاب... و قبل أن يصيح سطوب رفع كفه الخشنة و هوى بها عل خدها، تهاوت أمامه جثة هامدة... تقدم المخرج مندهشا و نظر إلى الممثل أمامه و قال: سنغير السيناريو و نهاية القصة معا... ستكون النهاية أكثر مأساوية...

----------------------------
صانع التماثيل
قصي الشيخ عسكر - العراق

وضعت التمثال على المنضدة القريبة حيث أجلس،ورحت أتمعّن فيه جيدا.إنّه يشبهنني تماما يوم كنت طالبا على وشك التخرّج في الثانوية،ربما هي آخر الملامح التي بقيت عالقة عنّي في ذهن صديقي النحات قبل أن يغادر في بعثة إلى الدول الأوربية ثمّ مباشرة حالت ظروف صعبة دون عودته إلى البلد،فاضطر للبقاء هناك كلّ هذه السنوات.

كان مجرّد اللقاء به يعيدني إلى أيام الدراسة في المرحلة الثانوية تلك السنوات التي كنا نعجب بها من التماثيل التي يصنعها وتثير دهشة مدرسينا،فيقررون تزيين القاعات والجدران بها.كان يمسك الطين بيدية فيحيله إلى صور تشبهنا تماما،وقد نحت تماثيل كثيرة :لي ولتلاميذ المدرسة وللمعلمين والمدير،أمّا إذا ساوره زعل أو غضب ما من أحد المعلمين أو التلاميذ،فإنه سرعان ماينحنت له تمثالا مشوها يثير به سخرية الآخرين مثلما فعل مع معلّم الدين الذي نحت له تمثالا مضحكا لكونه الوحيد من بين المعلمين الذي لايقرّ فنّ النحت ويعده من المحرمات!

أما هوايته تلك فلم تكن لتعيقه عن الدرس والاجتهاد بل كان من أفضل تلاميذ المدرسة،وأكثرنا هدوءً واتزانا.دائما يحتلّ المرتبة الأولى،ظلّ هذا دأبه حتّى أنهينا المرحلة الثانوية،وتقدّمنا بطلبات إلى الجامعة.وحصل على بعثة لدراسة اللغة الإنكليزية،وقد عرفت فيما بعد من خلال زياراتي لأهله وترددي في متابعة أخباره أنّه غادر بريطانيا إلى جنوب أوروبا ثمّ انقطعت عنّا جميع أخباره.

ولم تكن زيارته لي مفاجأة إذ قدم إلى البلد بعد أن بعث لي ولأهله برسائل يخبرنا فيها عن رغبته في العودة وربّما الاستقرار نهائيّا ويخصني أنا من دون جميع أصدقائه بتمثال لأني كما قال كنت الصديق الوحيد الذي كان يتابع أخباره ويزور أهله في أثناء غيابه الطويل،ولعلّي فوجئت بشكله مثلما فوجيء لتغيري.كلّ ملامحه القديمة انصهرت في غربة دامت ربع قرن فبدا محدودبا غزت التجاعيد وجهه.قلت له:

- حسنا إنّك صنعت لي تمثالا قبل أن تراني بشكلي الحالي!

فقال من دون مقدمات.

- ذلك يعني أنّ تمثالك الذي صنعته بالاعتماد على صورة قديمة في ذهني هو الأكثر صدقا من أيّ تمثال آخر.

- الآن لو عملت لي تمثالا بهذا الوجه المتعب والصلع والعينين الذابلتين لبدا مسخا أشبه بتمثال معلم الدين الذي ناله سوط غضبك أتذكر ذلك؟

قال بسخرية مفرطة:

- حيوان نسي أنّ الله تعالى أخذ حفنة من الطين وعمل منها تمثالا نفخ فيه وإذا به ابونا آدم "سكت برهة يلتقط أنفاسه ثمّ عقب" في ذلك الوقت لم أكن أعي هذه المسألة فكانت ردّة فعلي تمثالا ساخرا وعندما كبرت جعلت منها نقطة ارتكاز أطوّر بها فنّي.

ولم أ أعني المبالغة قط حين استرسلت:

- كلّنا يعرف تميزك في هذا الفن ولابدّ أن تكون لك خصوصيّة عن الآخرين.

الخصوصية إذا لم تصل بي حدّ النضج فهي ليس خصوصية مميزة لذلك صنعت لك هذا التمثال وقد خبئت شيئا من عالم الخفاء فيه.

سألت باستغراب:

- ماذا؟ الخفاء!

- لن أخبرك لكني سأعطيك المفاتيح"وأشار إلى التمثال"هذا التمثال الجامد المطابق لقسماتك لاخير فيه مالم يحرك عالم الزمن الراكد في نفسك هو نقطة ما إذا نظرت إليها عند ضجرك انقلبت حالك إلى البهجة والسرور!

علمت أنّ لوثة ما خامرت عقله أو هكذا خيل إلي.ولمت سنيّ الغربة الطويلة في تدهور حالته. ولعلّ تفوّقه وذكاءه المفرط في النحت وبقية العلوم على جميع أقرانه أديا به الجنون كما ظننت في البدء.كنت أقف أمام تمثالي وأركز عليه النظر.تمثال رائع يشبهني تماما،وعلى الرغم من شكّي في عقله ومسألة الزمن التي فاجأني بها،فقد كنت صريحا مع نفسي إذ راودتني فكرة الزمن المزعومة تلك.رحت أبحث عن نقطة السعادة في تمثالي الجامد.بعض الأحيان أتحسس وجهي لأخمن مكان النقطة أو أرى ظهري عاريا في المرآة،ولسوء حظي فقد مرّ أكثر من اسبوع لم يصادفني فيه ضجر أو مشكلة ما لأهرع إلى التمثال،وأتمعّن فيه فأتأكد من صدق ادعائه.مرّ شهر وغادر صديقي صانع التماثيل الى الخارج كي يصفي أعماله كما أخبرني ويعود ليصنع تماثيل يضعها في الساحات العامة والمتنزهات وعلى الأرصفة فيراها الناس فيطردوا الضجر عنهم.وقبل سفره أصر على أن يظلّ أمر نقطة الزمن في التمثال الذي نحته لشكلي القديم يوم كنت طالبا في الثانوية العامة سرا لايجليه لي بل عليّ أن أكتشفه بنفسي،مع ذلك لم يحالفني الحظ في أن أعثر مصادفة على أيّة ساعة ضحلة أو مشكلة تسبب لي الضجر فتدفعني إلى البحث عن تلك النقطة الصمّاء جالبة البهجة والسرور،كأنما المشاكل اختفت تماما من حياتي ومازلت إلى الآن أبحث عن ضجر أو كآبة ما فأختبر تمثالي المنتصب على المنضدة أمامي منذ أكثر من ربع قرن!
----------------------------
* أكاديمي وناقد من مصر.

 

خيري دومة*