إمام التجديد في الرأي والفتوى

إمام التجديد في الرأي والفتوى
        

          شملت جهود الامام الإصلاحية كل المجالات. ولكن التجديد في الفتوى كان واحداً من أهم إنجازاته خاصة في ظل تحديات المعاصرة التي كان يواجهها الإسلام.

          وُلد الإمام محمد عبده في عام (1266هـ - 1849م) لأب تركماني الأصل, وأم مصرية تنتمي إلى قبيلة (بني عدي) العربية, ونشأ في قرية صغيرة من ريف مصر هي قرية (محلة نصر) بمحافظة البحيرة.

          أرسله أبوه إلى الكُتّاب, حيث تلقى دروسه الأولى على يد شيخ القرية, وعندما شبَّ الابن أرسله أبوه إلى (الجامع الأحمدي) - جامع السيد البدوي - بطنطا, لقربه من بلدته, ليجوّد القرآن بعد أن حفظه, ويدرس شيئًا من علوم الفقه واللغة العربية.

          انتقل محمد عبده من الجامع الأحمدي إلى الجامع الأزهر عام (1282هـ - 1865م), وكانت الدراسة في الأزهر - في ذلك الوقت - لا تخرج عن هذه العلوم في شيء, فلا تاريخ ولا جغرافيا ولا طبيعة ولا كيمياء ولا رياضيات, وغير ذلك من العلوم التي كانت توصف - آنذاك - بعلوم أهل الدنيا.

          نال شهادة العالمية من الأزهر, انطلق ليبدأ رحلة كفاحه من أجل العلم والتنوير, فلم يكتف بالتدريس في الأزهر, وإنما درّس في (دار العلوم وفي مدرسة الألسن), كما اتصل بالحياة العامة. وكانت دروسه في الأزهر في المنطق والفلسفة والتوحيد, وكان يُدرّس في دار العلوم مقدمة ابن خلدون, كما ألّف كتابًا في علم الاجتماع والعمران.

          واتصل بعدد من الجرائد, فكان يكتب في (الأهرام) مقالات في الإصلاح الخلقي والاجتماعي, فكتب مقالاً في (الكتابة والقلم), وآخر في (المدبر الإنساني والمدبر العقلي والروحاني), وثالثًا في (العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية).

          وكان من الطبيعي أن يكون لرجل في عظمة محمد عبده وجلال قدره حساد وخصوم, حيث لجأ خصومه إلى العديد من الطرق الرخيصة والأساليب المبتذلة لتجريحه وتشويه صورته أمام العامة, حتى اضطر إلى الاستقالة من الأزهر في سنة (1323هـ - 1905م), وإثر ذلك أحس الشيخ بالمرض, واشتدت عليه وطأته, وتبيّن أنه السرطان, وما لبث أن تُوفي بالإسكندرية في (8 من جمادي الأولى 1323هـ - 11 من يوليو 1905م) عن عمر بلغ ستة وخمسين عامًا.

من تراثه الفقهي الإفتائي:

          كان - رحمه الله - فقيهًا بارعًا ينظر إلى العواقب وإلى المفاسد والمصالح, وترك من التراث الفقهي الإفتائي الكثير الذي يعد مرجعًا للعلماء بعده, ومن هذا التراث نتخير تلك الفتاوى.

          فقد سئل فضيلة الإمام رحمه الله عن المسلم إذا دخل بمملكة إسلامية. هل يعد من رعيتها. له ما لهم وعليه ما عليهم على الوجه المطلق? وهل يكون تحت شرعها فيما له وعليه عمومًا وخصوصًا. وما الجنسية عندنا? وهل حقوق الامتيازات المعبر عنها عند غير المسلمين (بالكبيتولاسيون) موجودة بين ممالك الإسلام مع بعضها البعض الآخر?

          فأجاب: (من المعلوم أن الشريعة الإسلامية قامت على أصل واحد, وهو وجوب الانقياد لها على كل مسلم في أي محل حل وإلى أي بلد ارتحل, فإذا نزل ببلد إسلامي جرت عليه أحكام الشريعة الإسلامية في ذلك البلد, وصار له من الحق ما لأهله, وعليه من الحق ما عليهم, لا يميزه عنهم مميز ولا أثر لاختلاف البلاد في اختلاف الأحكام.

          نعم, قد يكون الحاكم في بعض الأقطار حنفيًا وفي بعضها مالكيًا مثلا, ولكن هذا لا أثر له في الحق للشخص أو عليه. فمتى قضى له أو عليه فله ما قضى له به وعليه أداء ما قضى به عليه, على أي مذهب كان متى كان القاضي مولى من طرف الحاكم العام, إذ حكم الحاكم يرفع الخلاف. ولا ذكر لاختلاف الأوطان في الشريعة الإسلامية إلا فيما يتعلق بأحكام العبادات من قصر الصلاة للمسافر أو جواز الفطر في رمضان مثلاً, وقد يتبع ذلك شيء في اختصاص المحاكم من حيث تعيين الجهة التي يكون لقاضيها الحق في أن يحكم في الدعوى التي ترفع إليه من شخص على آخر, هل هي محل المدعي أو محل المدعى عليه, غير أن شيئًا من ذلك لا يغير من حق للمدعي أو المدعى عليه.

معنى الوطن في الإسلام

          وقد كان لأهل العصبية القوة والشوكة ذاتهما يمتازون بها على من سواهم. جاء الإسلام فألغى تلك العصبية ومحا آثارها وساوى بين الناس في الحقوق, فلم يبق للنسب ولا لما يتصل به أثر في الحقوق ولا في الأحكام.

          فالجنسية لا أثر لها عند المسلمين قاطبة. فقد قال صلى الله عليه وسلم إن الله أذهب عنكم عبية (بضم العين وكسر الباء المشددة وفتح الياء) أي - عظمة الجاهلية - عظمتها وفخرها بالآباء, إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي, الناس كلهم بنو آدم, وآدم خلق من تراب. وروي كذلك عنه ليس منا من دعا إلى عصبية. وبالجملة فالاختلاف في الأصناف البشرية كالعربي والهندي والرومي والشامي والمصري والتونسي والمراكشي مما لا دخل له في اختلاف الأحكام والمعاملات بوجه من الوجوه. ومن كان مصريًا وسكن بلاد المغرب وأقام بها جرت عليه أحكام بلاد المغرب, ولا ينظر إلى أصله المصري بوجه من الوجوه.

          وأما حقوق الامتيازات المعبر عنها بالكابيتولاسيون فلا يوجد شيء منها بين الحكومات الإسلامية قاطبة. فهذه بلاد مراكش وبلاد أفغانستان لكل من البلدين حكومة مستقلة عن الأخرى. وكلتا الحكومتين مستقلة عن الدولة العثمانية, ولا يوجد شيء من حقوق الامتيازات بين حكومة من هذه الحكومات وأخرى منها.

          وما نراه من الوكلاء لحكومة مراكش - مثلا - من الممالك العثمانية لا يعتبرون سفراء مثل سفراء الدول الأجنبية, وإنما هم وكلاء لشخص الحاكم ورجال دولته لقضاء بعض المصالح الخاصة, ولمساعدة مواطنيهم فيما يعرض لهم من الحاجات, ولا أثر لهم فيما يدخل في الشرائع والأحكام, وما يوجد من أثر الامتياز في الحقوق لرعية شاه العجم أو سلطان مراكش في بعض الممالك الإسلامية كمصر, فإن الإيرانيين والمغاربة قد نالوا ضربًا من الامتياز بالتقاضي إلى المحاكم المختلطة من سنوات عدة. ذلك الذي تراه من أثر الامتياز يناقض أصول الشريعة الإسلامية كافة.

قيود مخصوصة مراعاة للمصلحة

          فلا أهل السنة يجيزونه ولا مجتهدو الشيعة يسمحون به, وإنما هو شيء جر إليه, فسوق بعض الرعايا وميل المحاكم المختلطة إلى التوسع في الاختصاص. وما قضت به بعض القوانين المصرية من أن سائر العثمانيين لا ينالون حق التوظف في مصالح الحكومة المصرية, ولا حق الانتخاب في مجالس شوراها إلا بقيود مخصوصة, يشبه تقرير الحقوق في انتخاب مجالس البلدية, فمجلس بلدية الإسكندرية - مثلاً - لا يدخل في انتخاب أعضائه المقيم بالقاهرة, فهو من باب تفضيل سكان المكان على سكان غيرهم, وإيثارهم أولئك بالنظر في المنافع على هؤلاء لقربهم مع استواء الكل في الانتساب إلى شريعة واحدة, واشتراكهم في الحقوق التي قررتها الشريعة بلا امتياز. هذا ما تقضى به الشريعة الإسلامية على اختلاف مذاهبها, لا جنسية في الإسلام ولا امتياز في الحقوق بين مسلم ومسلم. والبلد الذي يقيم فيه المسلم من بلاد المسلمين هو بلده ولأحكامه عليه السلطان دون أحكام غيره. والله أعلم.

          وقد سئل فضيلة الإمام محمد عبده عن امرأة مسيحية ماتت عن أم وابن وبنتين شرعيين. وعن بنت ولدتها من الزنا. فهل ترث البنت من الزنا كبقية أولادها الشرعيين?

          فأجاب: صرح في البحر من كتاب الفرائض, بما يفيد إرث ولد الزنا واللعان من الأم. حيث قال: ويرث ولد الزنا واللعان من جهة الأم فقط. لأن نسبه من جهة الأب منقطع. ومن جهة الأم ثابت, فيرث به أمه وأخته من الأم بالفرض لا غير, وكذا ترثه أمه وأخته من أمه فرضا لا غير - انتهى -. وعلى ذلك تكون هذه البنت التي من الزنا وارثة لأمها المذكورة. والله أعلم.

          ويمضي فضيلة الإمام في النصح للأمة وتقديم الحكم الشرعي لهم في كل واقعة ترفع إليه, بما يجلي هذا المنهج الذي ينهى فيه عن التعسف في استخدام الحق, وينصر فيه الضعيف بما يتفق مع أدلة الشرع الحنيف, كما في الفتوى التالية:

          سئل: شخص تزوج بامرأة. وكلما أرادت أن تزور أبويها يمنعها زوجها, ويدعي أن ذلك لا يجوز شرعًا. فما الحكم?

          فأجاب فضيلة الإمام محمد عبده بقوله: (صرحوا بأنه لا يمنعها من الخروج إلى الوالدين, في كل جمعة, إن لم يقدرا على إتيانها على ما اختاره في الاختيار. ولا يمنعهما من الدخول عليها في كل جمعة. كذا في التنوير وشرحه. وهو ما اختاره في فتح القدير, حيث قال وعن أبي يوسف في النوادر تقييد خروجها بألا يقدرا على إتيانها, فإن قدرا لا تذهب وهو حسن. وصرح بأن الأخذ بقول أبي يوسف هو الحق إذا كان الأبوان بالصفة التي ذكرت, وإلا ينبغي أن يأذن لها في زيارتهما في الحين بعد الحين على قدر متعارف.

          أما في كل جمعة فبعيد. فإن في كثرة الخروج فتح باب الفتنة, خصوصًا إذا كانت شابة والزوج من ذوي الهيئات بخلاف خروج الأبوين, فإنه أيسر. وهذا ترجيح منه لخلاف ما ذكر في البحر أنه الصحيح المفتى به من أنها تخرج للوالدين في كل جمعة بإذنه ودون إذنه, وللمحارم في كل سنة مرة بإذنه, وبغير إذنه, كذا في رد المحتار وصرح في البحر بأن الخروج للأهل زائدًا على ذلك يكون لها بإذنه.

          وعلى ذلك, يجوز لهذه المرأة أن تخرج إلى أبويها في كل جمعة, أذن لها الزوج أو لم يأذن. ولها أن تخرج إلى المحارم كذلك كل سنة مرة بإذنه وبغير إذنه, كما أن لها أن تخرج إلى الأهل كذلك كل سنة مرة بالإذن ودونه. أما خروجها زائدًا على ذلك للأهل, فيسوغ لها بإذنه.

          والله أعلم.

مراعاة الأعراف وكيف تكون

          كما يتجلى استيعابه لأعراف وعادات غير المسلمين, والقدرة على إفتائهم في وقائع تختص بهم حيث سئل: عن رجل تعهد لابنته بمبلغ من النقود بصفة دوطة حسب العوايد المسيحية في الزواج يدفعه لها عند زواجها لتشتري به عقارًا لها على شرط أنه إذا مات قبلها يخصم من نصيبها في تركته, وقد تزوجت قبل أن تهتدي على العقار اللازم شراؤه فاتفق الطرفان على بقاء مبلغ الدوطة تحت يد الوالد إلى وقت الطلب لشراء العقار, وقد استثمر الوالد هذا المبلغ, ودفع لابنته ما استحق لها من ثمرته مدة - ثم ماتت البنت عن زوجها وولدها منه قبل أداء هذا المبلغ من والدها. فهل للزوج والولد أن يطالبا والدها بما يخصهما في المبلغ المذكور, أو يجوز للوالد أن يدعي أن ابنته لم تملكه لعدم القبض قبل وفاتها?

          فأجاب فضيلة الإمام بقوله: (حيث إن مبالغ الدوطة في عرف المسيحيين هي كمبالغ المهور عند المسلمين, فكما يلزم مبلغ المهر في ذمة والد الزوج إذا ألزم نفسه به, فكذلك يلزم مبلغ الدوطة في ذمة والد الزوجة متى ألزم به نفسه, كما في حادثتنا, فالمبلغ الذي ألزم به نفسه الوالد في واقعتنا يعتبر دينا لازمًا لذمته, كسائر الديون التي تلزم الذمة, ولا يعتبر من قبيل الهبة التي لا تتم إلا بالقبض, خصوصًا, وقد شرع الوالد في استثمار المال باسم ابنته, وقد قبضت مبلغًا من ثمرته, فلاريب أن المبلغ يعتبر تركة لتلك البنت ولزوجها وولدها حق المطالبة بنصيبهما منه وليس للوالد حق الامتناع من تأديته لهما والله أعلم).

          كما كان - رحمه الله - واسع الاطلاع شديد الشفقة بالناس أفتى في قضايا الزواج والطلاق, وتطرق في فتاويه إلى مسائل الخلع الذي عمل به في القانون المصري أخيرًا, حيث سئل فضيلته عن امرأة سألت زوجها أن يخالعها على براءة ذمته من نصف مؤجل صداقها ونفقة عدتها وخالعها على ذلك, وقبلت المرأة وقامت تطالبه بباقي المؤجل, فهل ليس لها ذلك, وسقط بالخلع المذكور, حيث إن الخلع يسقط كل حق لكل واحد على الآخر فيما يتعلق بالنكاح كالمهر المقبوض أو غير المقبوض قبل الدخول أو بعده والنفقة الماضية كذلك?

          فأجاب: صرح علماؤنا بأنه إذا خالعها, واشترطت عليه أن يدفع لها بعض المهر, فإنه صحيح, وصرّحوا أيضًا بأن الخلع لا يسقط إلا المسمى, وهو الصحيح. وحيث وقعت المخالعة في حادثتنا على نصف المؤجل ونفقة العدة, فهما اللذان يسقطان بسبب تسميتهما, ولا يسقط باقي المؤجل, لأن هذه التسمية, أفادت اشتراطها عليه دفع باقي المؤجل, أما النفقة فيما مضى قبل الطلاق فلا يسقط منها دون الشهر, وما زاد على ذلك, فإن لم تكن مقضيًا بها, ولا متفقًا على تقديرها من الزوجين بتراضيهما, فتسقط بالطلاق بلا نزاع, فإن كانت مقضيًا بها أو متفقًا على تقديرها, ففيها خلاف معروف ويحق سقوطها في حادثتنا لأن الزوجة هي الطالبة للطلاق, وهو طلاق خلع, فلا يتصور فيه الحيلة من الزوج على إسقاط النفقة, فتسقط إلا أن تكون قد تداينتها بإذن قاض, وما صححوه من عدم سقوط النفقة المفروضة قد عللوه بحسبة اتخاذ الطلاق حيلة لسقوط حقوق النساء, وهي في حادثتنا غير ممكنة, لأن الزوجة هي الطالبة كما تقدم. والله أعلم.

          كما كان - رحمه الله - بعيد النظر يعي الأمور ودوافعها, وهذا يتضح في تعامله مع الفتوى التالية: فقد سئل: عن زوجة ارتدت عن الإسلام بقصد فسخ النكاح, وعادت إلى الإسلام فورًا, فهل يفسخ النكاح ردًا لقصدها أو لا يفسخ ولا ينفذ قصدها. وإذا فسخ فما حكم الصداق. هل يقرر على الزوج بالدخول أو يلزمها, حيث إن الفسخ من جهتها وأن الزوج تركها من مدة ثلاثة شهور ولم يسأل عنها إلى الآن?

          فأجاب: قال في الفتح قد أفتى الدبوسي والصفار, وبعض أهل سمرقند بعدم وقوع الفرقة بالردّة ردّا عليها. وغيرهم مشوا على الظاهر, ولكن حكموا بجبرها على تجديد النكاح مع الزوج. ولما كان الإجبار على النكاح غير متيسر, ولا نفاذ له, وكان كثير من الزوجات قد اتخذن دينهن لعبة يخلعنه كلما أردن التخلص من أزواجهن, وهي وسيلة من أقبح الوسائل, وجب لذلك إقفال هذا الباب في وجوههن, خصوصًا مع تعذّر إجراء أحكام الردة عليهن كما هو معلوم, فلهذا لا ينفسخ النكاح, ولا تقع الفرقة بمجرد ردة الزوجة, بل تبقى الزوجة في عصمة زوجها, والمهر واجب عليه بالدخول, لا يسقط بردتها كما هو ظاهر. والله أعلم.

          كما كان منهجه في الفتوى, هو عدم انفصال الفرد عن مجتمعه, ومعرفة الحكمة من العوائد المخالفة في ظاهرها لعادات المسلمين والعرب, فقد سئل في فتوى عن أشياء عدة: أولا: يوجد أفراد في بلاد الترنسفال تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم, وعودة الفوائد عليهم, هل يجوز ذلك? ثانيًا: إن ذبحهم مخالف لأنهم يضربون البقر بالبلط, وبعد ذلك يذبحون بغير تسمية. والغنم يذبحونها من غير تسمية, هل يجوز ذلك? ثالثًا: إن الشافعية يصلون خلف الحنفية دون تسمية, ويصلون خلفهم العيدين, ومن المعلوم أن هناك خلافًا بين الشافعية والحنفية في فرضية التسمية, وفي تكبيرات العيدين. فهل تجوز صلاة كل خلف الآخر?

          فأجاب - رحمه الله -: أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام, والدخول في دين غيره, فلا يعد مكفرًا. وإذا كان اللبس لحاجة من حجب شمس أو دفع مكروه أو تيسير مصلحة, لم يكره كذلك لزوال معنى التشبّه بالمرأة. وأما الذبائح, فالذي أراه أن يأخذ المسلمون في تلك الأطراف بنص كتاب الله تعالى في قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم} (المائدة 5), وأن يعولوا على ما قاله الإمام الجليل أبو بكري العربي المالكي من أن المدار على أن يكون ما يذبح مأكول أهل الكتاب قسيسهم وعامتهم, ويعد طعامًا لهم كافة. فمتى كانت العادة عندهم إزهاق روح الحيوان بأي طريقة كانت, وكان يأكل منه بعد الذبح رؤساء دينهم ساغ للمسلم أكله, لأنه يقال له طعام أهل الكتاب, ولقد كان النصارى في زمن النبي عليه الصلاة والسلام على مثل حالهم اليوم, خصوصًا ونصارى الترنسفال من أشد النصارى تعصبًا في دينهم وتمسكهم بكتبهم الدينية. فكل ما يكون من الذبيحة يعد طعام أهل الكتاب, متى كان الذبح جاريًا على عادتهم المسلمة عند رؤساء دينهم ومجيء الآية الكريمة {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} بعد آية تحريم الميتة وما أهل لغير الله به بمنزلة دفع ما يتوهّم من تحريم طعام أهل الكتاب, لأنهم يعتقدون بألوهية عيسى, وكانوا كذلك كافة في عهده عليه الصلاة والسلام, إلا من أسلم منهم.

          ولفظ أهل الكتاب مطلق لا يصح أن يحمل على هذا القليل النادر, فإذن تكون الآية كالصريحة في حل طعامهم مطلقًا, متى كانوا يعتقدونه حلا في دينهم دفعًا للحرج في معاشرتهم ومعاملتهم.

          وأما صلاة الشافعي خلف الحنفي فلاريب عندي في صحتها, مادامت صلاة الحنفي صحيحة على مذهبه, فإن دين الإسلام واحد. وعلى الشافعي المأموم أن يعرف أن أمامه مسلم صحيح الصلاة, دون تعصّب منه لإمامه. ومن طلب غير ذلك, فقد عدّ الإسلام أديانًا لا دينًا واحدًا, وهو مما لا يسوغ لعاقل أن يرمي إليه بين مسلمين قليلي العدد في أرض كل أهلها من غير المسلمين. والله أعلم.

          ما ذكر قليل من كثير لا يفي بقدر هذا الرجل العظيم الذي جاهد بالكلمة والرأي والفكر, وعاش حياته نموذجًا للعالم الرباني المنفتح على العالم المستنير, لاسيما أنه كان يتقن الفرنسية وغيرها من اللغات, وكان خبيرًا بعادات الشعوب.

          والله نرجو أن يبارك لنا دائمًا في رجالنا وقادة الفكر والعلم في أمتنا الإسلامية, بما يتحقق معه خير البلاد والعباد, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

علي جمعة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات