أرقام محمود المراغي

أرقام

عالم المدينة

كانت بداية البشرية أنشطة اقتصادية وإنسانية ترتبط بالطبيعة, فسكان البحر يصطادون السمك ويصنعون الزوارق, وسكان الغابة يقطعون الأخشاب ويجنون بعض الثمار, وسكان القرية يتعلمون فنون الزراعة ويصنعون أدواتها البدائية. أما المدينة ذلك التجمّع الحضاري, والذي قد يضم تنظيما سياسيا وإداريا, فقد ظهرت في وقت لاحق, و...بينما لا يسجّل التاريخ الكثير عن الصحارى أو الأرياف أو الغابات, فإنه قد توقف طويلا أمام المدن الكبرى, القديمة والحديثة مثل: أثينا, روما, باريس, لندن, الأستانة, القاهرة, بغداد, ومكة المكرمة ومدن صينية وهندية كثيرة.

المدينة تاريخ طويل, والزحف إليها بحثا عن الرزق, أو بحثا عن الحكم, أو بحثا عن الأمن كان شاغل الإنسان منذ أمد بعيد.

ويعرف الباحثون في علوم الاجتماع أو السكان أو الجغرافيا أو التاريخ أن سلوك البشر وحاجاتهم وطريقة معيشتهم تتغير مع الانتقال للمدن, فإنسان المدينة لا يزرع, لكنه يأكل ما ينتجه الآخرون, وقد تمتد يده للصناعة, لكنه ينتج ما يفيض عن حاجته وما تحمله تجارته, وهو أكثر اتصالا بالمعرفة وبالعالم الخارجي, ومن ثم فهو حائز لأدوات الاتصال قديمًا وحديثًا, من صحيفة جرى تدوينها على أوراق البردى إلى (إنترنت) ينقل له العالم في ثوان.

ولكن, ولأن المدينة تشهد كثافة سكانية عالية, ولأن العصر الحديث هو الأكثر تلوّثا, فقد كان لذلك أيضا أثره على الصحة العامة لأبناء المدن, فسيولوجيًا ونفسيًا.

المدينة شيء آخر في مجالات الإنتاج, والاستهلاك, والعادات والتقاليد والمستوى الثقافي, بل والمستوى الحضاري بشكل عام.

و....طبقا لتقرير أصدرته الأمم المتحدة جرى نشره في مارس (2004), فإن سكان المدن - الذين مثلوا (48) في المائة من سكان العالم عام (2003) سوف يمثلون (52) في المائة في تاريخ قريب هو عام (2007)...إنهم سيكونون الأغلبية لأول مرة, بينما يتراجع سكان الصحراء والريف والغابة والبحر, إلى ما دون نصف السكان, وبما يثير السؤال عمّا تنتجه الطبيعة في هذه الأماكن من ثروات نباتية وحيوانية ومعدنية, وهل يكون ذلك على حساب الوفاء بحاجات البشر, أم أن تقدم الفنون الإنتاجية سوف يجعل النمو الرأسي بديلا للنمو الأفقي الذي تأثر بظواهر التصحّر وانكماش مساحة الغابات وفساد بعض الأنهار وهجرة المزارع.

السؤال مثار والمدن تنمو, لا لكي تنتج غذاء, ولكن لكي تستهلك الغذاء ولتباشر أنواعًا أخرى من النشاط الاقتصادي والسياسي والإداري.

و...في التفاصيل يتوقف تقرير الأمم المتحدة أمام ظاهرة أخرى هي ظاهرة (المدينة العملاقة) إن جاز التعبير.

في عام (2007) سوف يرتفع عدد المدن التي تضم أكثر من عشرة ملايين نسمة إلى (22) مدينة تتصدرها طوكيو التي يسكنها حاليا (35) مليون نسمة ويزيدون مليونا وربع المليون حتى عام (2007).

أيضًا, وفي هذا التاريخ القريب ستقفز بومباي إلى المركز الثاني بعد طوكيو لتضم وحدها (22,6) مليون نسمة, وتليها مدينة هندية أخرى هي نيودلهي ذات الواحد والعشرين مليونا من البشر حينذاك, وتتتابع المدن العملاقة: مكسيكو, نيويورك, لاجوس...وهكذا مما يطرح قضية إدارة المدن الكبرى, وكيف تعمل بعد أن باتت المدينة بحجم دولة أو أكثر.

وعلى عكس المدن العملاقة تأتي ظاهرة (الدولة المدينة), وظاهرة المدن الصغرى نسبيا...و...في هذا النطاق يبرز الخليج العربي بدوله الست التي تشكل مجلس التعاون الخليجي, والتي يقول عنها تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (إنها ستكون عالما من المدن, ففي عام (2015) سوف يصبح (97) في المائة من سكان الكويت من أهل الحضر, وسوف تتخطى نسبة التسعين في المائة كل دول مجلس التعاون باستثناء سلطنة عمان التي سيكون(83) في المائة من سكانها...بالحضر!

إنه انقلاب آخر يعيشه (43) مليون نسمة, وهم عدد سكان هذه الدول عام (2015).

.....المحاصرون

هكذا سوف تلعب الجغرافيا دورا في تاريخ البشر وتطوّرهم لأن المدينة غير القرية, والقرية غير الصحراء, والصحراء غير البحار, وقد هزمت المدينة كل ذلك لتصبح وحدها (حزب الأغلبية).

ولعبة الجغرافيا مستمرة, لذا فهذه وقفة - ربما لأول مرة أيضا - أمام دول تحت الحصار, أعني: حصار البر والبحر, فهي دول ليس لها ثغر أو ميناء أو طريق بحري. إنها تتصل بالعالم عن طريق البر, أو عن طريق الجو, دول الجوار جزء رئيسي من اقتصادها, وكلمة (النفاذ إلى الأسواق) التي أكدها اتجاه العولمة يحول دونها الموقع الجغرافي, وهو موقع بالغ التأثير في حالتنا تلك, حال دول بلا مياه أو شطآن.

ووفقا لتقرير قدمته (الوقائع) الصادرة عن الأمم المتحدة في أوائل عام (2004), فإن المفارقة واضحة, فالدول النامية مغلقة الأراضي تمثل (12.5) في المائة من مساحة العالم, لكنها لا تحوز أكثر من (4) في المائة من السكان, ولا تنال من الناتج العالمي الإجمالي أكثر من (0.3) بالمائة...والسبب الأرجح هو الحصار فهي تدفع (15) في المائة من أرباح التصدير للمواصلات, بل إن بعض الدول الإفريقية تدفع نصف حصيلتها من الصادرات في مقابل النقل, والنتائج واضحة, حيث تشير مؤشرات التنمية البشرية إلى أنه بين الـ (12) دولة الأدنى في هذه المؤشرات هناك تسع دول مغلقة الأراضي.

أثارت هذه النتائج انتباه أصحاب الشأن, كما أثارت اهتمام المجتمع الدولي, فاجتمع المؤتمر الوزاري الذي ضمّ الدول المغلقة ودول الجوار التي تصلها بالبحر في مدينة المآتى بكازاخستان...و... كان ذلك في أغسطس (2003).

هكذا جاء المؤتمر الذي وضع أول برنامج للإنقاذ: تطوير الطرق والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب التي تصل إلى البحر, وتذليل المشكلات البيروقراطية في النقاط الجمركية, والبحث عن معاملة تفضيلية ومساعدات دولية يقدمها الآخرون من دول مانحة ومنظمات عالمية.

ووفق منظور الجغرافيا الاقتصادية بدت آثار الموقع واضحة, ولكن من منظور الجغرافيا السياسية, فإن الموقع على هذا النحو لابد أن يفرض سياسة حسن الجوار, فالجار هو المنفذ وهو الطريق. السلام هنا ضروري, والمشروعات المشتركة في مجال البنية الأساسية قضية أساسية للخروج من الفقر, وللنفاذ إلى العالم.

ويبقى الشرق الأوسط, ملتقى دول العالم, ومحور مواصلاته البحرية, وصاحب المضايق المائية الشهيرة: مضيق جبل طارق, ومضيق باب المندب, وهرمز, وقناة السويس.

الشرق الأوسط: موقع وثروة, ومن ثم كان جاذبا للجيوش الأجنبية منذ آلاف السنوات, ومازال نقطة جذب يتصارع حولها الآخرون بينما يعيش أهلها, ودائما, تحت التهديد وبما يطرح السؤال: كيف تكون الإدارة السياسية والاقتصادية لدول ذات موقع خاص?

 

محمود المراغي