شعاع من التاريخ سليمان مظهر

شعاع من التاريخ

الرجل الذي باع روحه للشيطان

حين تجد نفسك في بيت الشاعر العبقري الألماني (يوهان فون جيته) تستطيع أن تتصور قصة حياة شاعر الحب والجمال التي قضى منها 56 عاماً في (فايمار) المدينة التي عاش فيها وأقام بيته الذي لايزال يحمل عبقات أيامه الزاخرة بكل ألوان التقلبات التي شهدها. ففي هذا البيت تفتّحت نفسه لحياة تسعى جادة لاجتلاء جوانب الكون المتسقة حينًا, والمضطربة أحيانًا...حياة تمقت عالم الأصفاد والقيود, وتنطلق في حيوية تتسم بالحرية.

تحسّ هذه المعاني حين يفتح لك باب بيت جيته في المدينة التي تحظى بكثير من الاهتمام والعناية, والحي الممتد بين البيت وحديقته, وبين المسرح الوطني الذي قدم فيه الشاعر الفنان قطعا مسرحية مثيرة مع صديقه (فردريك شيلر) حيث يقوم في مواجهته تمثال مصبوب من المعدن البافاري للشاعرين, هو التمثال الوحيد في العالم الذي يظهر جيته وشيلر معًا في نصب واحد.

إن بيت سكن جيته الذي تدخله بُني على طراز الباروك, كان الدوق كاري أوجست قد أهداه له ثم تهدّم عام 1942 خلال الحرب ليعاد بناؤه من جديد. وحين تدخل (البيت المتحف) تخلع نعليك, فوقع الخطى الكثيرة الزائرة قد يمحو معالم الأرضية الخشبية, وتقف أمام غرفة عمل الشاعر التي تتمتع برعاية فائقة, فدخولها محظور, وعبر الباب فقط يمكن النظر بكل انتباه إلى لوازم عمل الشاعر ومواد دراساته: مناظد عالية, وقنان صغيرة مختلفة مملوءة أسرارا, وعظام أسماك, وكرات ورقية مخصصة لإجراء التجارب المتعلقة بعلم الألوان, بالإضافة إلى الأدوات الشيطانية التي رافقته حين كان يكتب روايته الملحمية عن (فاوست)...!

استغرق إنشاء دراما فاوست نحو ستين عاما, وليس المقصود بهذا القول أن جيته قد تفرغ لفاوست وحدها من المؤلفات شعرًا ونثرًا, وإنما المقصود به أن الشاعر بدأ ينظم الجزء الأول من فاوست في عام 1770, وظل يعمل على النظم بين الحين والحين كلما واتاه الإلهام, فلم يفرغ من هذا الجزء الأول إلا عام 1806. أما الجزء الثاني الذي نشر عام 1832 فقد كان يشتمل على مشاهد نظمت في أعوام مختلفة يرجع أقدم ما فيها إلى عام 1773, ولد جيته في فرانكفورت عام 1749, وامتد عمره إلى أن توفي عن ثلاثة وثمانين عاما. وفي أثناء حياته المديدة تلك تقلّد أرفع المناصب, فكان وزيرًا في (فايمار) حتى أصبح مصدرًِا يشيع الفكر والحكمة والعلم والفلسفة على معاصريه في كل بقاع العالم المتمدين. وكان من أبرز أعماله - غير فاوست - قصة (آلام فرتر) و(الفارس ذو اليد الحديدية), و(محمد) و(اجمونت) وذكرياته التي سمّاها (الشعر والحقيقة) ورواية (بدوات العاشق) التي تبعها بقصص (ولهلم ميستر), و(أجاتون) و(فرمان ودورتيه).

ومع هذا, فإن (فاوست) تعتبر أبدع ما كتب جيته. ولقد أجمع النقّاد على أنه قد بلغ قمة توازنه وخصوبته وصفائه في هذه الملحمة التي كتبها بالحوار الذي يدعو إلى التأمل والتفكير.

فاوست وملحمته

تبدأ التراجيديا بمنظر في السماء, حيث تتجادل الملائكة البررة في أمر الإنسان, ولاسيما الملاك رفائيل والملاك جبريل والملاك ميخائيل, ثم ذلك الزنيم الذي كان في دهر من الدهور زينة الملأ الأعلى, ثم عصى واستكبر فلعنه الله في كل كتاب, ألا وهو (إبليس) واسمه هنا (مفيستو فوليس)...!. أما الملائكة البررة فهي تسبح بحمد الله وبآلائه قائلة إن كل شيء يجري على خير ما يرام في حضرة الملكوت, أما مفيستو, فهو وحده غير راض عن هذا التسبيح الدائم حول عرش الله, فهو يفكر في الأرض أكثر مما يفكر في السماء, وعنده أن حال الأرض على أسوأ ما يكون, وابن آدم الذي خلق من طين لايزال على شذوذه يوم الخليقة. لكن كيف يشكو مفيستو كل هذه الشكوى من أهل الأرض, وفيهم رجل التقى والورع (الدكتور فاوست)! فهذا الرجل الذي يعرفه مفيستو له فيه رأي خاص, إنه يعلم أن فاوست رجل تحلق روحه دائما في سماوات العلم والخيال, ويعيش بين الكتب والأفلاك, فهو يدرس ويدرس لعله يستطيع أن يهتك ستار المجهول, وينفذ إلى ما وراء الطبيعة, وقد اضطربت نفسه بالشكوك, وتزعزع إيمانه لكثرة ما وقف عليه من أسرار الطبيعة.

وهنا تحدث مساجلة في السماء, فهناك رأي قائل إن فاوست لايزال رجل خير وفضيلة متمسكا بإيمانه, بالرغم من هذا القلق الذي يساوره من حين إلى حين. أما مفيستو فيقول إن بين فاوست والهاوية قيد شعرة, وأنه مستطيع أن ينزعه انتزاعًا من بين الأبرار. ويكون رهان بين الجميع ويشترط مفيستو أن تطلق يده في فاوست, فيجاب إلى طلبه, ووعد أن يثبت لهم أن بين الإيمان الأعظم والكفر الأعظم خيطا رفيعا, وإن الفضيلة العظمى والخطيئة العظمى شقيقتان توأمان ما أيسر أن تختلط سماتهما في مداركنا وفي وجداننا!

إبليس في الأرض...!

وينتقل مفيستو - إبليس اللعين - إلى الأرض حيث يكون ذلك العالم الجليل فاوست جالسًا إلى كتبه وقد تبلبل عقله وساورته شكوك مدمرة, فهو من خلال دراساته قد اهتدى إلى علم كثير حقًا, ولكنه لم يهتد إلا إلى القشور, أما باطن الحقيقة التي يبحث عنها فلاتزال سرًا مستغلقا عليه. وفي تلك اللحظة يجد مفيستو فرصته الذهبية, فيتخذ زي عالم من العلماء المتنقلين بين الجامعات ويدخل على مكتب فاوست الذي يكون في قمة بلبلته حول أيهما كان البدء...هل كانت الكلمة أم الروح?

ويعرف فاوست من حديث زائره أنه رسول من الجحيم, ويأنس إلى حديثه الطلي. فيأذن له أن يتردد عليه كلما أحبّ. إن فاوست يائس وحزين وقد صار إلى إنسان سوداوي المزاج لا يجد للحياة طعمًا, ولا يذوق لذة واحدة من لذات الحياة, لأن نفسه منقسمة, وعقله مبلبل, يتصفح كل ما يراه حوله, فيعجز عن إدراك الحكمة في أي شيء مما يراه. ولكن مفيستو يناشده أن ينفض عنه هذا الحزن واليأس قائلا: إن الحياة مليئة بالبهجة والملذات. وليس أمام فاوست إلا قرار يسير إن اتخذه نعم بأطايب الحياة, وإن مفيستو على أتم استعداد لأن يكون النديم الوفي الذي يرشده إلى كل ما في الحياة من متعة وجمال, بل هو راض بأن يكون خادما لفاوست, بل عبدا رهن إشارته لو أنه اختار هذا السبيل, كل ذلك يفعله مفيستو مرضاة لفاوست بشرط واحد: (أن أكون خادمًا لك على الأرض, أطيعك طاعة عمياء, وألبّي كل إشارة لك مهما كانت تافهة, ولكن حين تكون في العالم الآخر يجب أن تعاملني بالمثل...!).

وهكذا يتعاهد فاوست ومفيستو على ذلك ويحرران صكا يشهدان به, ويوقع فاوست على هذا الصك بدمه. ومنذ ذلك التوقيع تنطوي حياته الناصعة وتبدأ صفحة جديدة ينصرف فيها عن العلم ويقبل على السحر ويجنح من الفضيلة إلى الرذيلة ويخوض في الآثام درجة درجة حتى يغرق في لججها.

من يبيع روحه?

ويقود مفيستو صاحبه إلى حان يدعى حان أورباخ بمدينة ليبزج فيه جماعة من الشباب الصاخب المرح يغنون ويمرحون.

بعد ذلك يمضي مفيستو بفاوست إلى مطبخ الساحرات ليشهد من فنونهن شيئا كثيرا. وتعرض الساحرات على فاوست بعض ألعابهن, ولكنه لا يجد في ذلك شيئا جديدا. غير أنهن يأسرن قلبه بمرآة سحرية يرى فيها فتاة ذات بهاء لم ير في حياته أجمل منها, ولم يحسب أبدا أن على الأرض جمالا كهذا الجمال, فيعلق بها قلبه, ويتمنى لو كان هذا الخيال الذي يراه في المرآة حقيقة يطاردها حتى يبلغها ويتملّكها ولو كانت في أطراف الأرض. أما وقد أبرم فاوست مع مفيستو ذلك الميثاق المشهور, فهل يستطيع إلا أن يجيبه إلى طلبه? أجل يا فاوست لسوف تذوق طعم السعادة الكاملة حين تستولي على مرجريت جسمًا وروحًا. وفي المساء يقتاد مفيستو فاوست إلى حجرة مرجريت ويختبئان فلا تبصرهما الفتاة حين تدخل وفي يدها سراج, وتشرع في نزع ثيابها وتغني, وما إن تفتح دولابها حتى تجد هدية من فاوست هي ثوب رائع وقرط وسلسلة من الذهب, تعجب, لأنها تذكر أنها كانت لدى عمتها. ويلتقي فاوست بمرجريت في الحديقة ويطارحها هواه, فتستجيب له وتستسلم لحبيبها وتحمل منه سِفاحا. وهنا تبدأ المآسي تترى..!

انتقل فاوست مع صاحبه الزنيم ليشهدا عيد الربيع, وفيما كان فاوست يراقص الحسان في المهرجان كف فجأة عن الرقص, فقد خيّل إليه أنه رأى فتاة جميلة شاحبة الوجه تقف في عزلة ليلة العيد, ثم تنسحب في شجن عظيم وقدماها ترسفان في أغلال من حديد. وخيّل إليه أنها تشبه مرجريت, وخيّل إليه أيضًا أنها كانت تشخص إليه بنظرات عتاب جامدة من نظرات الموتى, وحول عنقها شريط أحمر هو من حد السكين. وكان مفيستو يرى ما يراه فاوست. أما السكين فهي سكين الجلاد لأن مرجريت قد قتلت طفلها من فاوست, فقبض عليها وحكم عليها بالإعدام. ويصيح فاوست: لابد من إنقاذ هذه التعيسة يا مفيستو. ولكن هذا يغضب لهذا القول, لقد تحرّك الضمير في هذا الخاطئ وهو الآن يريد أن يفسد كل ما بناه مفيستو منذ أن نزل إلى الأرض ليصبح عود هذا القديس الشيطاني الذي يريد أن يعود إلى مرجريت لينقذها من السجن ومن الإعدام...! يا للهول!

إن فاوست يريد أن يستردّ إنسانيته, ولكن مفيستو يهتف في صاحبه الذي استبدّ به وخز الضمير: (ويل لكم يا معشر البشر, وويل لنا منكم معشر الشياطين. إنكم تجاهدون لتتحروا من هذه الحماقات التي تربطكم بالحياة, وأن تحلقوا معنا في سماء السلب المطلق الذي لا مكان فيه للخير أو لفكرة الخير الذي يريدها هذا التقي الأكبر. ولكن ما إن تطيروا معنا طبقة أو طبقتين فوق الحب والرحمة والأخلاق والوفاء والضمير, وكل هذه السخافات التي تميز بها جنسكم الوضيع حتى يعود إليكم ضعفكم وتطلبوا الرجوع إلى عالمكم السقيم...!).

نهاية العقد

يواصل فاوست تنفيذ عقده مع الشيطان إبليس, وبعد مجموعة من الأحداث يقوده مفيستو إلى القصر الإمبراطوري حيث نجد الإمبراطور في قاعة العرش مع وزرائه وقواده ورئيس ديوانه, ومع هؤلاء جميعا يوجد مفيستو الذي يقوم بينهم مقام الناصح بالمنكر...!

إن الأمور في الدولة لا تسير على ما يرام, والإمبراطور رجل متلاف يبدد ما في الخزينة على ملذاته وشهواته, ووزير ماليته يجيبه إلى كل ما يطلبه مما أدى إلى ارتباك مالية الدولة. والشعب الجائع المحروم يرى كل ذلك فيغضب وتنتشر روح الفتنة بين أبنائه, ويترامى نبؤها إلى القصر الإمبراطوري.

ويتقدم مفيستو إليهم بالنصيحة: إن رجال الدولة يريدون إصلاح ميزانيتها, فهم إذن يبحثون عن موارد جديدة, والذهب والفضة متوافران, ولكن المشكلة هي في سبيل الحصول عليهما. إن بطن الأرض زاخر بالكنوز, فبنو الإنسان منذ فجر التاريخ يخفون كنوزهم في بطن الأرض, كما أن بطن الأرض زاخر بأنفس المعادن. ولم يبق إذن إلا استخراج هذه النفائس والكنوز, والأرض من قديم الزمن ملك للإمبراطور, فكل ما يحتويه بطن الأرض إذن ملك للإمبراطور. فليستمر إذن جميع أفراد شعبه في التنقيب عن هذه الكنوز, وبهذا يستطيع الإمبراطور أن يمضي في الاستمتاع بملذاته, وهكذا تنفرج كربة الشعب ويغتني الجميع وعلى رأسهم الإمبراطور...!

وتلك أحدث نظرية في الاقتصاد يشرحها مفيستو للإمبراطور ورجاله, ولكن لكي توضع هذه النظرية موضع التنفيذ لابد من رجل علامة يعرف جميع دقائق النظرية...وهل هناك غير فاوست?!

ويعين الإمبراطور فاوست حارسًا على خزائن الدولة حاملاً لمفاتيحها ويطلق يده في كل شيء.

ويقول مفيستو لفاوست إنه قد وعده بكل ما في العالم من ملذات وقد بر بوعده, ووعده أيضا بثراء لا حدود له فبرّ بوعده, ولم يبق أمام فاوست إلا شيء واحد وهو أن يجرب أن يخلق الخلائق...!

وهكذا علم مفيستو فاوست العلم المحرم فجعله ينشئ معملاً من معامل الكيمياء فيه من الأنابيب ومن البوائق والأحماض والمساحيق كل ما يحتاج إليه العالم, وكل ما ورد في الطبيعة من عناصر ومواد, مضافًا إليه شيء هو قوة مفيستو وعلمه الأسود, ويوفق فاوست في خلق إنسان اصطناعي في معمله, ويكون هذا أكثر آثامه...!

والآن, وقد كان له كل ما أراد تحين ساعة القصاص....وينتصف الليل.

وجلس فاوست في انتظار النهاية المحققة, لقد انتهت مدة العقد المبرم بينه وبين مفيستو. لقد وعده مفيستو أن يتبعه كالخادم المطيع الذي لا يعصي لسيده أمرًا مادام حيّا, يسعى على وجه الأرض, والآن إذ تجيء الساعة ويأتيه الموت, لم يبق إلا أن يفي بعهده ويتبع مفيستو في العالم الآخر يقوده أينما يريد...!

ويسقط فاوست صريعا, وحين يحمل إلى مثواه الأخير تجتمع حول قبره ثلة من الزبانية لتحمل روحه إلى الجحيم وتنهشه نهشًا...

ولكن سرعان ما تهبط من السماء كوكبة من الملائكة لتحيطه بسياج من الحب والغفران, وتنثر الملائكة على قبره الورد وتجعله يتضوع بأطيب العطور. وترتعد الزبانية أمام الملائكة.

وهكذا تصعد روح فاوست في طريقها إلى الفردوس. وحين يسأل مفيستو عن السر الخطير الذي جعل الملائكة تنتزع فاوست من قبضة الشياطين, يجاب بأن للحب يدا شافية تشفي جميع الذنوب, وهذا الحب والغفران الإلهي يشفي جميع الذنوب, وهو حب بعضه على الأرض وكله في السماء, والله عالم كل شيء في السماء والأرض.

 

سليمان مظهر