جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

إلا الشعر يا مولاي!

عندما رحل الشاعر فتحي سعيد عن عالمنا في يناير عام 1989 عن ثمانية وخمسين عاما (ولد في يوليو 1931) كانت ثروته الشعرية الباقية تتمثل في عدد من المجموعات الشعرية تتابع صدورها منذ عام 1966 هي: فصل في الحكاية, أوراق الفجر, مصر لم تنم, دفتر الألوان, مسافر إلى الأبد, بعض هذا العقيق, رباعيات السلّوم, إلا الشعر يا مولاي, أغنيات حب صغيرة, ثرثرة على مائدة ديك الجن, أندلسيات مصرية, ومسرحية شعرية واحدة هي: الفلاح الفصيح. فضلا عن عدد من الدراسات الأدبية والنقدية أهمها: شوقي أمير الشعراء لماذا? أبو الوفا: رحلة الشعر والحياة, عشاق لكن شعراء, السفر على جواد الشعر, في بلاط الصحافة والأدب, عن الشعر والشعراء. وكان حصوله على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر تكريما لإنجازه الشعري باعتباره واحدا من شعراء الموجة الثانية - التي تلت جيل الرواد - في حركة الشعر الجديد.

ومنذ رحيل الشاعر, أي منذ خمسة عشر عاما, لم يكد يذكره أحد. حتى صدرت له أخيرًا - ضمن سلسلة الإبداع الشعري المعاصر, عن الهيئة المصرية العامة للكتاب - مختارات من أشعاره, قدم لها الشاعر عماد غزالي, محاولا تفسير الغياب الذي تعرض له اسم فتحي سعيد. فقد تأخر ظهوره عن مجايليه من شعراء الخمسينيات - جيل الريادة - وعن شعراء الستينيات - الحلقة الثانية - وأيضا لصعوبة تصنيف قصيدته, فهو يتحرك دائما في منطقته الخاصة التي تجمع بين حبه الممتد للقصيدة بشكلها الكلاسيكي, واندفاعه لكتابة الشعر التفعيلي. فهو - في رأي عماد غزالي - لم يكن حريصا على أن يُنسب نهائيا إلى القصيدة الجديدة, ولم يقطع صلته بتقاليد الشكل العمودي حتي وهو يكتب الشعر الحر. وصوته الخاص يميل إلى الحسّ الغنائي وينحاز إلى التقاليد الفنية الموروثة, ويظل التجديد في شعره حذرًا للغاية, وكأنه يتردد بخطواته بين أرضيّتينْ متباينتين, لا يريد لإحداهما أن تنفرد برقصته الإبداعية, (وهو شعر تغلب عليه الروح المصرية, والبساطة المطلقة في التعبير, والسطوع الموسيقي). لذا, فهو يرى في شعر فتحي سعيد نَفسًا غنائيا عذبا, وموسيقى صافية, فهو ابن لشعرية البهاء زهير, ومحمود أبو الوفا, ومحمود حسن إسماعيل, وهم من الشعراء الذين يسيطر عليهم الحس الموسيقي المتدفق. وفاته أن ينسبه أيضا إلى شعرية ناجي وعلي محمود طه وصالح جودت, فضلا عن تأثره العميق برؤى صلاح عبدالصبور ونزعته الحكيمة وموقفه الوجودي, نتيجة لمجاورته الحميمة له: شاعرًا وإنسانًا, وإعجابه الشديد - وربما انبهاره - بوثبات صلاح الشعرية, وتأملاته الحياتية والكونية.

من هنا تصبح قصيدته (إلا الشعر يا مولاي) - التي أطلق اسمها على واحدة من أهم مجموعاته الشعرية - نموذجا دالاً, لفيض زاخر من التأثرات, والومضات الشعرية والإنسانية اللافتة التي يستدعيها عالم (ألف ليلة وليلة) والتراث المرتبط بها في أحوال المنادمة ومقامات المؤانسة وبث المكاشفات تَمثّلها فتحي سعيد, وعاشها بأعصابه المحترقة ليلا, المسترخية نهارا, في عالم يحرص هو على أن يكون فيه واحدا من الشعراء الفُتّاك الصعاليك, أو فارس ليل يغافل الحراس والعسس, ويهبط على نسائه وجواريه هبوط وضّاح اليمن على محبوبته, غير مبالٍ بالمصير الفاجع الذي انتهى إليه وضّاح, حسبُه شرف المغامرة, ووسام الفتْك والمصاولة, وحديث السمّار عن شجاعته وفروسيته. ثم ها هو ذا يطلق طلقته المدوية في وجه السلطان, الذي عرف وتعلم كل شيء, ولم يبْق له إلا أن يتعلم الشعر, وكأنه صنعة تُشترى أو عمل يمكن التدرب عليه, أو منحة تُقدم من شخص لآخر. عندئذ يضيق الشاعر - الذي يقوم بدور المنادم والسمير - بسلطانه, ويواجه السلطان بالرفض والكبرياء.

يقول فتحي سعيد في قصيدته: (إلا الشعر يا مولاي):

كان السلطان الجالس في قصره
يغتبق, فقال لشاعر عصره
والشمس بقايا تنحدر رويدًا خلف الأشجار
شفّت كالكأس, مزاج من كافور ولُجينٍ ونُضار
قال السلطان وقد حفّ السمّار:
(علّمني يارب الأشعار
علمني الحكمة والصمت
وفن اللعب على هاتيك الأوتار
علمني الفطنة واللغو
وتاريخ الفلك وفنْ الإبحار
علمني فن العوم مع التيار
وضدّ التيار
علمني المنطق والجبْر
وأصل العائلة وفلسفة التيجان
علمني الموسيقى
كي أعزف أغنية حين يجنّ الليل
وتدركني الأشجان
علمني الرقص
لأعقد خصْر حبيبي بالكفّينِ
نكاد نذوب مع الألحان
علمني الرسم
لأرسم وجه حبيبي
حين يُطلّ, وتأسرني العينان!).

***

قال الشاعر للسلطان:
(ذلك ميْسور يا مولاي
اغرف من نبع المعرفة كما شئت
فلا حرج على الملك النعمان
أن يُتقن فنّ العزف على مختلف الألوان).
كان السلطان الجالس في قصره
يغتسل فقال لشاعر عصره
وفُتات المسك يضوع
وعبق العنبر يعبق في البستان
والشمس شعاع يحبو كالطفل
ويتسلق سور الشرفة والأغصان
قال السلطان وقد ثمل الندمان:
(علّمني يا شيخ الكهان
علمني الشعر
فإن الشعر خلود الأزمان
علمنيه..
فإنك أدرى بالقافية وبالخافية من الأوزان
علمني كيف أصوغ من الكلمات
عقود اللؤلؤ والمرجان
وأتوّجُ جيد حبيبي
بقلادة درّ ولجيْنٍ وجُمان
وأطرّز بالنظم الذهبي
قوائم عرشي والأركان
اجعلني فارس هذا الميدان
وسيّد كلّ الفرسان
لا تجعل في الشعر ولا في الشعراء سواي!).

***

قال الشاعر للسلطان:
(علّمتك كلّ فنون الإنسان
وحكيْت بألسنة الطير
وألسنة الجِنّة والإنس
وألسنةِ الحيوان
أما الشعرُ فعذرا يا مولاي!).

القصيدة حبّة عقدٍ في منظومة إبداعية طويلة لا تفتأ تناقش العلاقة بين السلطة والثقافة, وهي في واحدة من تجليّاتها تعرض للعلاقة الملتبسة والمراوغة - بلغة الحداثيين - بين الشاعر والسلطان. الشاعر - من وجهة نظر السلطان - خادم وتابع وسمير ونديم, وأقصى ما يمكن أن يصل إليه هو الظفر بشرف المنادمة والمشاركة في مجلس أنسٍ. إذن هو بعض ممتلكات هذا السلطان, يُؤمر فيأتمر, ويُوجّه إليه الكلام فيستمع ويجيب, لا يُتوقع منه اعتراض, ولا شيء من تردد أو تباطؤ.

والسلطان - في عيني الشاعر الحقيقي - رمز للقوة والبطش, وبيت مال للعطايا والهبات - في نظر الرعية جميعها. فعلى الشاعر إذن أن يتحسّس موقعه, وأن يتأمل خطواته جيدا, قبل أن يطيح به سيف (مسرور) في حكايات (ألف ليلة وليلة), أو يُلقى به في غياهب السجون والمنافي في وقائع الدنيا المعروفة والمطّردة.

لكن شاعرنا في هذه القصيدة تواتيه الجرأة, وهو يواجه السلطان في ختام حواريته, لقد علّم السلطان كل فنون الإنسان, وعرض عليه معارفه ونفائسه ما نطق به الطير والجن والإنس والحيوان, أما الشيء الذي يستحيل تعليمه للسلطان فهو الشعر. لأن الشعر - أولا - لا يُتعلّم, ولأن الشعر - ثانيا - هو رمز تفرد الشاعر وتمايزه في مواجهة قهر السلطان وسطوته وبطشه, ولأنه - ثالثا - باب إلى الخلود, ودوام الذكر وتداول السيرة, فضلا عن كونه يتطلب موهبة وفطرة فنية وشعورية لا تتاح لسلطانٍ قُدّ من صخر, وجُبلت طبيعته من حجر أصمّ, لا ينفذ فيه شعاع من رحمة أو إحساس أو انعطاف!

هذه (الأمثولة) الشعرية في إبداع فتحي سعيد, الذي يتوق دوما إلى الإبداع والمغامرة, والحرص على تأكيد ما لديه من مساحة للشجاعة وقدرة على المصاولة, تكشف لنا بعض ملامح وجهيْه: الحياتي والشعري. وقسماتٍ من الصراع المضني الذي خاضه - عبر مسيرة حياته - في العمل الاجتماعي (إخصائيا اجتماعيا) وفي العمل الصحفي (محرّرا وسكرتير تحرير ورئيسًا للتحرير) متقلبا في مواقع عدة بين (الجمهورية) و(بناء الوطن) و(مجلة الإذاعة والتلفزيون) ومجلة (الشعر), الأمر الذي جعله قريبا من قاع المجتمع ومركزه, على صلة ودراية بمصادر صناع القرار من أعوان السلطان. هذا المناخ الحياتي وما يستتبعه من طقْس شعوري هو الذي ألهم شاعرنا أن يقول في قصيدته: (جواز سفر):

العالم وطني
الغربة سكني
العنوان:
عاصمة الأحزان
مملكة الأيام المغتربة
في أقصى الكرة الأرضية
خلف الفسقية
الرقم الأول في أول بنيان
أول بنيان في منعطف الميدان
ميدان النسيان!

***

الاسم..
ليس مهما أن أذكر اسمي
قد كان من الممكن أن أُدعى زيدًا أو عمرو
الاسم: مسافر
المهنة: شاعر
الريحُ جواد
البحر مداد
المقعد شاغر
اجلس.. قد نُصب السامر
واتكأ الغائب والحاضر
لا,
لا تجلس وترفّع
دع غيرك يرتعْ
وتفجّر كالبركان!

***

حنطيّ اللونِ
همجيُّ الحدقةِ والعيْنِ
إنسيٌّ لكن كالجنِّ
في الخدّ الأيسر جرح غائر
الأيمن ضامر
في الجبهة إشراقات
مجهولُ السنِّ
من كثرة ما ترك الزمن من البصمات
على خدّيْه, وفي فْوديهْ, وفي اللّفتات
يبدو في سنّ الأهرامات

***

زوجٌ, طفلان
كفّان, راعشتان
جنسيتهُ إنسان
يتألم, لكن.. لا يتكلم
وِجْهتُه شطآن
نحو المبهم
نحو المبهم!
وهو, أيضا, الذي يقول في نشيد الحرف:
عندما
عندما أغمس حرفًا في مداد المحبرة
عندما أنزف قلبي في نشيد أو قصيد
عندما أدخل ديْر الكلمات
وأُصلّي
في زوايا الورقات
كلماتٍ وسطورًا
عندها
أغدو جريئًا وجسورا
وقويّا ومغامر
عندها أُصبح آخر
رائعًا, وبشكلٍ لم أكُنْهُ
آه لو أبقى قويا
وجريئًا, وشجاعا
آه لو كنتُ
لما طارت شَعاعا
نفسي الظمأى
وقلبي لم يخنْهُ
خفْقه السبّاقُ في شتى المسالك!

***

وحسب شاعرنا فتحي سعيد, أن نصّه الشعري الساخن, بديع الصياغة والتكوين يُعيدنا إلى تأمل العلاقة الملتبسة بين السلطان والشاعر أو بين الشاعر والسلطان, وكأننا نتأمل موروثا عربيا ضخما حدّاهُ المتواجهان: الكلمة والسيف!

 

فاروق شوشة