في تراثنا الفقهي لماذا حرمت الموسيقى والغناء؟

 في تراثنا الفقهي لماذا حرمت الموسيقى والغناء؟

في الموقف الفقهي من الموسيقى والغناء.. وقف "فقه الجمود والتقليد" عند الفتاوى التي حرمت الغناء الماجن، فعمم هذه الفتاوى على جميع ألوان الموسيقى والغناء.

هناك أسباب أحدثت لغطا، فجعلت الغناء عند البعض حراما بإطلاق، وأخرجته من الحلال المباح في ذاته، والذي تعرض له الحرمة أو الكراهة أو الندب أو الوجوب بسبب ما يعرض له من المقاصد والملابسات.

الفتاوى:

فلقد روي عن كثير من فقهاء الأمة الفتاوى المتعارضة في حكم الغناء، في العصر الواحد، والمذهب الواحد، والمدينة الواحدة، بل وروي عن الفقيه الواحد الفتاوى المتناقضة في حكم الغناء، إباحة وكراهة وتحريما.

- فروي عن الإمام أبي حنيفة النعمان "80 ـ 150 هـ ، 699 ـ 767 م" كراهة الغناء، بينما العنبري، عبيدالله بن الحسن العنبري "105 ـ 168 هـ ،723 ـ 785 م" ـ القاضي والفقيه والمحدث لا يرى به بأسا.

- ولقد روي عن الإمام مالك بن أنس "93 ـ 179 هـ 712 ـ 795 م" تحريم الغناء، في حين كان قاضي المدينة ومحدثها الزهري، إبراهيم بن سعد "183 هـ، 799 م" لا يرى به بأسا.

- وروي عن الإمام الشافعي، محمد بن إدريس "150 ـ 204 هـ، 767 ـ 820 م" أنه مكروه يشبه الباطل.

- وروي عن الإمام أحمد بن حنبل "164 ـ 241 هـ، 780 ـ 855 م" في الغناء ثلاث روايات: الحل، والكراهة، والحرمة.

وإذا كان غير معقول ولا وارد تضارب وتناقض الفتاوى عند الإمام الواحد، وفي المذهب الواحد، والعصر الواحد، والمدينة الواحدة، للون واحد من الغناء.. فإن المتبادر إلى العقل الفقهي هو أن تعدد الفتاوى قد نتج عن تعدد ألوان الغناء الذي سئل الفقهاء عن حكمه، فالإفتاء بالحل، أو بأنه لا بأس به كان عن الغناء المباح، والتحريم كان للغناء الحرام، والكراهة، كانت للغناء المكروه.

ويشهد لذلك أن تحريم الإمام مالك إنما كان، تحديدا، للغناء المحرم، إذ المروي عنه أن جوابه إنما كان عن سؤال عن الغناء الذي أحدثه الفساق في المدينة.. فلقد سئل عن هذا اللون تحديدا، فقال "إنما يفعله عندنا الفساق".

أما الغناء الذي رآه الإمام الشافعي مكروها يشبه الباطل، فلقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية "661 ـ 728 هـ، 1263 ـ 1328 م" إلى نوعه عندما تحدث عن ملابسات هذه الفتوى، فقال: إن الشافعي، بعد أن غادر بغداد إلى مصر، تحدث عن لون من الغناء، أحدثته الزنادقة ببغداد، اسمه "التغبير" أحدثوه ليصدوا به الناس عن القرآن الكريم ونص عبارة ابن تيمية: "قال الشافعي، رضي الله عنه: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة، يسمونه "التغبير"، يصدون به الناس عن القرآن".وهذا التغبير ـ تحديدا ـ الذي أحدثته الزنادقة ببغداد، ليصدوا به الناس عن القرآن الكريم، هو الذي كرهه الإمام أحمد بن حنبل.. ومرجعنا في ذلك ـ أيضا ـ ابن تيمية، الذي يقول: إن الإمام أحمد سئل ـ في بغداد ـ عن هذا التغبير، فقال: "أكرهه، هو محدث".. أي أنه ليس الغناء الذي عرفه المسلمون منذ صدر الإسلام.فاختلاف الفتاوى، وتراوحها بين الحل والكراهة، والحرمة، راجع إلى اختلاف أصناف الغناء، فهو حلال في ذاته، وككل المباحات تعرض له أحكام الكراهة والحرمة بسبب ما يعرض له ويلحق به ـ في الكلام واللحن والأداء والمقاصد ـ فليس كله مباحا بإطلاق وتعميم، ولا حراما بإطلاق وتعميم، إنه كلام ولحن وأداء، حسنه حسن وقبيحه قبيح. ولقد حدد الراشد الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هذا المعيار عندما قال للإمام الذي إذا فرغ من صلاته تغنى: "إن كان كلامك حسنا قلته معك، وإن كان قبيحا نهيتك عنه".. فلما سمعه، ورآه حسنا، غنى به عمر، وقال: "على هذا فليغن من غنى".

لكن آفة الاجتزاء، ثم التعميم والإطلاق لهذا المجتزأ، وإهمال السياقات والملابسات، هي التي تشوه فقه الفقهاء!

والمرويات المحرمة للغناء:

أما المرويات والمأثورات التي تحرم الغناء والمعازف، فلقد ثبت بمقاييس الرواية ومعايير الجرح والتعديل للرواة، أن جميعها مطعون فيه، وليس فيها حديث واحد صحيح، ومع ذلك روجها وأشاعها واستخدمها الذين لا دراية لهم بصناعة الحديث ومقاييس صحته، من الذين وصفهم الإمام الحافظ أبوالفضل محمد بن طاهر "448 ـ 507، هـ 1056 ـ 1113 م" ـ ابن القيسراني ـ صاحب "تذكرة الموضوعات" و"أطراف الكتب الستة" و"الجمع بين كتابي الكلا باذى والأصبهاني في رجال الصحيحين" ـ عندما تحدث عن هذه المرويات فقال: "هذه الأحاديث وأمثالها احتج بها من أنكر السماع ـ "الغناء" ـ جهلا منهم بصناعة علم الحديث ومعرفته، فترى الواحد منهم إذا رأى حديثا مكتوبا في كتاب جعله لنفسه مذهبا، واحتج به على مخالفه، وهذا غلط عظيم، بل جهل جسيم".

لقد عرض ابن حزم الأندلسي "384 ـ 456 هـ، 994 ـ 1064 م" وهو ظاهري المذهب، بضاعته النصوص، وعمدة في نقد المرويات ـ عرض لهذه "الأحاديث" في رسالته "رسالة في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور"? وفي كتابه "المحلى"، فانتقد أسانيد جميع هذه المرويات تفصيلا.. ولقد اتفق معه في نقد أسانيد هذه المرويات علماء الجرح والتعديل، من مثل الحافظ الذهبي "673 ـ 748 هـ، 1274 ـ 1348 م" ـ صاحب "ميزان الاعتدال" ـ وابن حجر العسقلاني "773 ـ 852 هـ، 1372 ـ 1449 م" ـ صاحب "لسان الميزان".. فقال ابن حزم في سند هذه المأثورات:

1 ـ حديث السيدة عائشة، رضي الله عنها، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن الله حرم المغنية وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها

في رواة هذا الحديث "سعيد بن أبي رزين، عن أخيه.. وكلاهما لا يدري أحد من هما".

2 ـ حديث محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء ومنها: "واتخذت القينات، والمعازف.

"جميع رواة هذا الحديث إلى يحيى بن سعيد لا يدري من هم ويحيى بن سعيد لم يرو عن محمد بن الحنفية كلمة، ولا أدركه".

3 ـ حديث معاوية:أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، نهى عن تسع.. منهن الغناء.

في رواة هذا الحديث "كيسان، ولا يدري من هو، ومحمد بن مهاجر، وهو ضعيف".. وفي هذا الحديث النهي عن الشعر، والأمة مجمعة على إباحته.. ولقد كان سلاحا من أسلحة الدعوة الإسلامية منذ عصر النبوة.

4 ـ حديث سلام بن مسكين، عن شيخ شهد ابن مسعود يقول: الغناء ينبت النفاق في القلب في رواة هذا الحديث شيخ لم يُسمّ، ولا يعرفه أحد.

5 ـ حديث أبي أمامة: سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، يقول: لا يحل تعليم المغنيات ولا شراؤهن ولا بيعهن ولا اتخاذهن، وثمنهن حرام، وقد أنزل الله ذلك في كتابه: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله والذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا ارتدفه شيطانان يضربان بأرجلهما صدره وظهره حتى يسكت.

في رواة هذا الحديث "إسماعيل بن عباس، وهو ضعيف، والقاسم وهو مثله" ضعيف. ثم إذا كان الغناء حراما، فلم تضرب الشياطين المغني، بدلا من أن تفرح بمعصيته?!

6 و 7: حديثا عبدالملك بن حبيب:

أ ـ أن رسول الله، "صلى الله عليه وسلم"، قال: إن المغني أذنه بيد شيطان يرعشه حتى يسكت.

ب ـ وأنه قال: إن الله حرم تعليم المغنيات وشراءهن وبيعهن وأكل أثمانهن. وأحاديث عبدالملك كلها هالكة.

8 ـ حديث البخاري: ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف.

لم يورده البخاري مسندا، وإنما قال فيه: قال هشـام بن عمار. ثم هو إلى أبي عامر، أو إلى أبي مالك، ولا يدري أبو عامر هذا.

وأنا أضيف إلى القدح في إسناد هذا الحديث، أنه يتكلم عن قوم يستحلون الزنا والخمر، ويقرنون مجالس الزنا والخمر هذه بالمعازف، التي أصبحت عونا على الكبائر والفواحش.. فليست المعازف هنا مفردة، ولا مرادة لذاتها.

9 ـ حديث أنس، قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": من جلس إلى قينة صُب في أذنه الآنك يوم القيامة.

أما هذا الحديث "فبلية! لأنه عن قوم مجهولين.. ومن رواته أبو نعيم ـ عبيد بن محمد ـ وهو ضعيف.. وهو يروي عن ابن المبارك، ولم يبلغه.. وفيه مالك، وهو منكر جدا.. ومالك هذا يرويه عن ابن المكندر مرسلا".

10 ـ حديث ابن شعبان عن ابن عباس، رضي الله عنهما، في قول الله عز وجل  سورة لقمان، الآية: 6ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله قال: الغناء.

وأحاديث ابن شعبان هالكة.

الحرمة للتوظيف لا للذات

ثم، إنه مع التسليم بأن المراد باللهو هنا الغناء، فهو ليس مطلق الغناء، ولا كل الغناء، وإنما هو الغناء الذي يتخذه المشركون ليضلوا به عن سبيل الله، وليتخذوا سبيل الله هزوا.. فحرمته ليست لذاته وإنما لتوظيفه في الإضلال عن سبيل الله.. وكل ما يضل عن سبيل الله حرام، حتى ولو كان واجبا أو مندوبا في ذاته.

11 ـ حديث ابن أبي شيبة.. عن أبي مالك الأشعري، أنه سمع رسول الله، "صلى الله عليه وسلم" يقول: يشرب ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، تضرب على رءوسهم المعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض.

في رواة هذا الحديث "معاوية بن صالح، وهو ضعيف، ومالك بن أبي مريم، ولا يُدرى من هو".

وأنا أضيف إلى نقد ابن حزم للسند: أن المعازف والقينات هنا قد وظفت في مجلس الخمر، فأصبحت عونا على مقارفة الكبائر والخبائث، فحرمتها لما عرض لها، وليس لذاتها إذا هي وظفت في الترويح البريء عن النفس والقلب، وتجديد ملكات وطاقات الإنسان لتزداد كفاءته في النهوض برسالته في عمران الحياة الدنيا.

12 ـ حديث: إن الله تعالى نهى عن صوتين ملعونين، صوت نائحة، وصوت مغنية. وهو حديث لا يُدرى من رواه?!

13 ـ حديث عقبة بن عامر الجهني: "قال رسول الله، "صلى الله عليه وسلم": كل شيء يلهو به الرجل فباطل إلا رمي الرجل بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته، فإنهن من الحق.

وفي رواة هذا الحديث عبدالله بن زيد بن الأزرق، وهو مجهول..

وللحديث طريق آخر، في رواته: خالد بن زيد، وهو مجهول.

وأنا أضيف إلى نقد ابن حزم للسند: أن الحديث لا يحصر اللهو الحق في هذه الثلاثة، وإنما يقول: إنها "من الحق"، ولم يقل إنها كل الحق، أو جميعه ـ وفي الحديث الآتي يجعلها أربعة، لا ثلاثة! ويغاير فيها.

14 ـ حديث: كل شيء ليس من ذكر الله فهو لعب لا يكون أربعة: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعليم الرجل السباحة.

وهذا الحديث "مغشوش مدلس دلسة سوء، لأن الزهري المذكور في رواته ليس هو ابن شهاب، لكنه رجل زهري مجهول اسمه عبدالرحمن".

ولهذا الحديث طريق آخر في رواته: عبدالوهاب بن بخت، وهو غير مشهور بالعدالة.ثم إن هذا الحديث ليس فيه تحريم.. فاللعب ـ كما في هذه الرواية ـ و"السهو واللغو" ـ كما في روايته الأخرى ـ غير التحريم.. بل إن استثناء هذا الحديث لأربعة أنواع من اللعب، واستثناء الحديث السابق لثلاثة أنواع من اللهو، دليل على أن الحصر غير مراد.

15 ـ حديث عائشة، رضي الله عنها: قال رسول الله، "صلى الله عليه وسلم":من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه.

في رواة هذا الحديث: هاشم، وعمر، وهما مجهولان، ومكحول لم يلق عائشة.

وأنا أضيف إلى نقد ابن حزم للسند: أن هذا "الحديث" يكفر بالمعصية، فيجعل اقتناء المغنية مخرجا من الملة، يستوجب عدم الصلاة على صاحبها بعد موته، وهو ما ترفضه كل فرق أهل السنة والجماعة.

16 ـ حديث عبدالله بن عمر: قال رجل: يا رسول الله، لي إبل فأحدو فيها? قال: "نعم"، قال:

أفأغني فيها? قال: اعلم أن المغني أذناه بيد شيطان يرغمه حتى يسكت.

في رواة هذا الحديث عبدالملك، وهو هالك. والعمري الصغير، وهو ضعيف.

وأنا أضيف إلى نقد ابن حزم للسند: أن معنى هذا "الحديث" غير مستقيم، وتتنزه عنه بلاغة الرسول، "صلى الله عليه وسلم"، فصحة العبارة كانت تقتضي أن الشيطان يمسك بفم المغني حتى يسكت، لأن الفم هو أداة الغناء، لا أذناه، فليستا أداة الغناء!.. ثم لم يغضب الشيطان من المغني حتى يسكت، بينما العكس هو المنطقي?!

17 ـ حديث أبي هريرة: قال رسول "الله صلى الله عليه وسلم": يمسخ قوم من أمتي في آخر الزمان قردة وخنازير" قالوا: يا رسول الله، يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله? قال: "نعم، ويصلون ويصومون ويحجون" قالوا: فما بالهم يا رسول الله قال: "اتخذوا المعازف والقينات والدفوف، ويشربون هذه الأشربة، فباتوا على لهوهم وشرابهم فأصبحوا قردة وخنازير.

هذا الحديث مروي عن رجل لم يسم ولم يدر من هو.

وعلاوة على نقد ابن حزم للسند .. فهذا "الحديث" لا يتسق مضمونه مع ثوابت عقائد الإسلام، فالذي يحبط الإيمان والعمل الصالح، في الإسلام، هو الشرك والكفر والردة، وليس اقتراف المعصية.. وفي ألفاظ "الحديث" تلفيق يشي بالغفلة، لأنه يضع "الدفوف" بين المحرمات، بينما الإجماع منعقد على حلها، حتى من الذين يحرمون أدوات الموسيقى الأخرى.. وأخيرا، فهذا المأثور يتحدث عن توظيف المعازف والقينات والدفوف في تهيئة مجالس الخمر التي تدوم حتى الصباح، فتحريمها هنا لما عرض لها من المقاصد والوظائف المحرمة، وليس لذاتها.

18 ـ حديث أبي أمامة: قال رسول الله، "صلى الله عليه وسلم": تبيت طائفة من أمتي على لهو ولعب، وأكل وشرب، فيصبحون قردة وخنازير، يكون فيها خسف وقذف، ويبعث على حي من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم باستحلالهم الحرام، ولبسهم الحرير، وضربهم الدفوف، واتخاذهم القينات.

في رواة هذا الحديث، الحارث بن نبهان، وهـو لا يكتب حديثه. وفرقد السبخي، وهو ضعيف وسلـيم بن سالم، وحسان بن أبي سنان، وعاصم بن عمر، وهم غير معروفين.

وعلاوة على نقد ابن حزم لسند هذا "الحديث" فإن في متنه تخليطا كبيرا، فهو يتحدث عن قوم يستحلون المحرمات، وهذا كفر يخرج أصحابه من الملة، بينما هو يتحدث عن طائفة من أمة محمد، "صلى الله عليه وسلم"! ثم هو يضع الأكل والشرب والدفوف في سياق الكبائر المحرمة، وهذا مما لم يقل به عاقل، ثم هو ينسب إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، التنبؤ بهلاك طائفة من أمته ـ أي من المؤمنين ـ بما هلكت به الأمم السابقة، الذين أشركوا وطغوا أو بغوا.. وهذا العقاب مما رحم الله منه أمة محمد، ولم يقع فيها على كثرة ما ارتكب فيها من الأعمال التي أشار إليها "الحديث"!

19 ـ حديث أبي أمامة: قال رسول الله، "صلى الله عليه وسلم": إن الله بعثني رحمة للعالمين، وأمرني بمحو المعازف، والمزامير، والأوثان، والصلب، لا يحل بيعهن ولا شراؤهن ولا تعليمهن ولا التجارة بهن، وثمنهن حرام.

في رواة هذا الحديث القاسم، وهو ضعيف.

تفاسير قرآنية

20 ـ أما التفسير المنسوب إلى عدد من المفسرين للقرآن الكريم، والقائل إن المراد باللهو في الآية: سورة لقمان، الآية: 6ومن الناس من يشتري لهو الحديث هو الغناء.. ففضلا عما في هذا التفسير من تعارض مع الأحاديث النبوية الصحيحة التي جاء فيها الكلام عن "الغناء" باسم "اللهو" ـ "ما كان معكم لهو?.. فإن الأنصار يعجبهم اللهو.. هل من لهو? قد رخص لنا في اللهو عند العرس" ـ فإن ابن حزم يراه مجرد تفسير مفسرين، وليس حديثا عن رسول الله، "صلى الله عليه وسلم"، ولا ثبت عن أحد من الصحابة، وإنما هو قول بعض المفسرين، ممن لا يقوم بقوله حجة، وما كان هكذا لا يجوز القول به، ثم لو صح هذا التفسير لما كان فيه متعلق، لأن الله تعالى يقول في الآية.. عن مقاصد اتخاذ هذا اللهو:  سورة لقمان، الآية: 6ليضل عن سبيل الله سورة لقمان، الآية: 6 ، وكل شيء يُقتنى ليضل به عن سبيل الله فهو إثم وحرام، ولو أنه شراء مصحف أو تعليم قرآن".

هكذا أورد ابن حزم ـ وهو الخبير الحجة في نقد النصوص ـ كل ما يتعلق به دعاة تحريم الغناء من المرويات، وأبرز عللها، فأسقط حجيتها عندما أثبت افتقارها إلى شروط الثبوت!، ثم عقب على كل ذلك بقوله: "ولا يصح في هذا الباب شيء أبدا، وكل ما فيه فموضوع. والله لو أسند جميعه أو واحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله، "صلى الله عليه وسلم"، لما ترددنا في الأخذ به، فلا حجة في هذا كله لوجوه:

أحدها: أنه لا حجة لأحد دون رسول الله، "صلى الله عليه وسلم".

والثاني: أنه قد خالف غيرهم من الصحابة والتابعين ـ "الذين رووا حل الغناء، في أحاديث صحيحة.. واستمعوا له واستمتعوا به".

والثالث: أن نص الآية  سورة لقمان، الآية: 6ومن الناس من يشتري لهو الحديث يبطل احتجاجهم بها، لأن فيها  سورة لقمان، الآية: 6ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وهذه صفة من فعلها كان كافرا بلا خلاف، إذ اتخذ سبيل الله هزوا. ولو أن امرءا اشترى مصحفا ليضل به عن سبيل الله ويتخذه هزوا لكان كافرا. فهذا هو الذي ذم الله تعالى، وما ذم قط، عز وجل، من اشترى لهو الحديث ليتلهى به ويروح نفسه، لا ليضل عن سبيل الله تعالى، فبطل تعلقهم بقول كل من ذكرنا.

وكذلك من اشتغل عامدا عن الصلاة بقراءة القرآن، أو بقراءة السنن، أو بحديث يتحدث به، أو بنظر في ماله، أو بغناء، أو بغير ذلك فهو فاسق عاص لله تعالى، ومن لم يُضع شيئا من الفرائض اشتغالا بما ذكرنا فهو محسن.

إن رسول الله، "صلى الله عليه وسلم"، قال: إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن نوى باستماع الغناء عونا على معصية الله تعالى فهو فاسق، وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوى به ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك على البر، فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق. ومن لم ينو طاعة ولا معصية، فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلى بستانه متنزها، وقعوده على باب داره متفرجا، وصباغة ثوبه لازورديا أو أخضر أو غير ذلك، ومد ساقه وقبضها، وسائر أفعاله. فبطل كل ما شغبوا به بطلانا متيقنا، ولله تعالى الحمد، وما نعلم لهم شبهة غيرما ذكرنا.وإذا كان الإمام البخاري قد عقد في صحيحه، لهذا الموضوع، بابا جعل عنوانه "كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله"، فمعنى ذلك أن اللهو ـ أي الغناء، كلاما ولحنا وأداء ـ الذي لا يشغل عن طاعة الله ليس باطلا، ومن باب أولى ليس مكروها ولا حراما.. وإنما هو من المباحات.

إبداع إنساني

وإذا كان سقوط "أدلة" التحريم، بتجريح أسانيد مروياتها كافيا في البرهنة على إباحة الغناء ـ حتى ولو لم يرد عن الشرع سنن في الإباحة، وتطبيقات عملية لهذه السنن، لأن الغناء ـ كغيره من المناشط الدنيوية الداخلية فيما هو متجدد ومتغير من الإبداعات الإنسانية، أي أنها مناشط دنيوية، لا شعائر دينية ـ يكفي في حلها وإباحتها ألا تخالف ما جاء به الشارع، ولا يشترط لهذه الإباحة وهذا الحل أن تكون مما جاء به الوحي ونطق به الشارع ـ كما هو الحال في الشعائر الدينية والمناسك العبادية، التي هي توقيفية، وكل ما لم يرد فيها دين وشرع فهو رد ـ إذا كان هذا كافيا في حل الغناء وإباحته، كما هو كاف في السياسة ـ مثلا ـ التي تكتسب حلها ـ بل وشرعيتها من عدم مخالفتها لما ورد، وليس من ورودها عن الشارع ـ كما قال الإمام السلفي أبو الوفاء ابن عقيل البغدادي "431 ـ 513 هـ، 1040 ـ 1119 م" في مناظرته لأحد فقهاء الشافعية ـ وهي المناظرة التي نقلها الإمام ابن قيم الجوزية "691 ـ 751 هـ ، 1292 ـ 1350 م": "فالسياسة العادلة هي ما كان من الأفعال، بحيث يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول ولا نزل به وحي، وهي شرعية لأنها لم تخالف ما نطق به الشرع، لا لأن الشرع قد نطق بها".

إذا كان كافيا في حل الغناء، وإباحته في ذاته، عدم مخالفته لما ورد عن الشارع ـ وهو ما ثبت بسقوط وتجريح أسانيد المرويات التي تحدثت عن التحريم، والتي "شغب" بها دعاة التحريم كما يقول ابن حزم.. فما بالنا وقد صحت عن رسول الله، "صلى الله عليه وسلم"، الأحاديث التي أباحت الغناء، واستحبته، والممارسات التي وضعت تلك السنن في التطبيقات بمجتمع النبوة وصدر الإسلام?!

 

محمد عمارة