واحة العربي

 واحة العربي
        

للأخطار.. جمالها أيضًا

          ظللت عدة سنوات أكتب باب (جبر الخاطر) في واحدة من صحفنا, معتمدًا على إحساس بأن أي كاتب - والمبدع أدبًا بالذات: في حاجة إلى من يجبر بخاطره, لاسيما هؤلاء الذين لا يملكون القدرات المادية أو الوظائفية - أي تلك التي تعتمد على مناصبهم الخطيرة ذات التأثير في الاهتمام به, وبإبداعاته, ولم يطرأ في بالي أن الخاطر المطلوب جبره يتعاوم مع الخطر في بحور اللغة, بل قد يتعالى على الخطر ويسحبني إلى أجواء التخاطر, تلك الأجواء التي مرت بي - وبك أيضًا, حينما - في إحدى المرات - طاف في بالي (عبدالظاهر) الذي كان يعمل في مشروع السد العالي جنوب أسوان, في القطاع ذاته, الذي كنت أعمل به, عملي كان إداريًا, وعمله كان مع العمال وراء آلات تحريك الرمال, لم نكن صديقين  بالمعنى العميق, ثم لم تلبث الأمور أن تغيرت وتفرقنا في مجالات أعمال متناثرة في المواقع المصرية, ولم يطف في بالي هذا الرجل أبدًا طوال عدة سنوات, ثم لم يلبث أن طاف في ذهني ذات صباح, في القاهرة, كنت أتجول هائمًا وخاضعًا لهذا النوع من المتعة, التي لا نحب أن نتحدث عنها - في منطقة السيدة زينب ثم الموسكي, ويسارًا إلى ميدان العتبة, وظل عبدالظاهر يتطاير ويعود فيحط على أغصان عقلي, ثم توقف عن التحليق لأقع في حالة اندهاش لا تفسير لها, فقد رأيت عبدالظاهر قادمًا من بعيد متوجهًا - في ابتسامة سمراء شديدة العذوبة - نحوي, وفاتحًا ذراعيه أيضًا.

          ومع أن هذه الحروف الثلاثة: الخاء والطاء والراء - تصنع مصدرًا لكل ما هو مقلق أو مرعب: الخطر, فإن لغتنا العربية تميل إلى معالجة الخطورة بالمخطرة, انظر إلى صديقك الذي ينجح في امتحان, أو ينتصر في مباراة حينما يخطر في مشيته, أي يتبختر, وهو الفعل الذي يستخدم في الأسلوب المدرسي دون الكلام العادي, حتى يصل بنا الأمر - عندما يرتفع قدر أحدنا ويعظم, أن يصبح خطيرًا, أي ذا شأن مؤثر مع استبعاد مؤقت لمعنى الخطورة النابعة من الأفعال الشرسة أو الشريرة, وربما يكون هذا الخطير يمتلك قدرة استشفافية, ليرى ما لا يراه الآخرون أو يدركونه دون استخدام العين أو الحواس الأخرى. إنه أمر نادر لكنه معروف ولم يستطع العلم الحديث أن يفسره, الله هو الأعلم الأعلى دائمًا, مع أهمية أن نعرف أن التخاطر مجرد جزيئة بسيطة من الاستشفاف الإنساني الخطير.

          وقد استدرجتني خطورة الخطر والمخاطرة والتخاطر إلى عمتي واسمها خطيرة - بنت عم والدي, ومع أننا نطلق كثيرًا من الأسماء والألقاب ذات المعاني الشائكة أو المازحة, فإن خطيرة كانت تكمن في المعاجم اللغوية دون إدراك منّا, أنها - في صيغة الخطّار المذكر: الأسد, أو السبع, والخطار أيضًا العطار تاجر العطور ذات الروائح الجميلة, وبالذات المسك, إلاّ أني فوجئت أكثر بأن الرمح الفاتك بالأجساد يحتل معنى الخطار أيضًا, وكذلك المقلاع الذي مارسنا اللعب به في بدايات حياتنا صيدًا للعصافير أو إسقاطًا لثمار النخيل والأشجار من بلح وجميز, فإذا ما تقلص هذا الخطّار وعاد ثلاثيًا: خَطْر: يصبح العارض من السحب أو الغيوم الناتجة من الاهتزاز, هل المقصود بذلك ما يتلبّد به الجو نتيجة للزلازل أو القنابل - والتي أخطرها في تاريخ البشرية حتى الآن: تلك التي ألقيت على هيروشيما ونجازاكي إنهاء للحرب العالمية الثانية? أو ما حدث من أشهر في جنوب شرق آسيا?

          عذرًا, علينا أن نعود إلى الخطر البسيط, بعيدًا عن الخطر المقلق المؤلم, أقصد: المخطرة المشار إليها من قبل, ولكي نتمخطر في بعض السطور راودتني تلك المحفّة ذات الأذرع من الأمام والخلف, على ظهر دابتين (في قريتنا كنا نستخدم الحمير لقلّة الخيول), لترقص فوقها - في حالة استعراضية من طقوس حفلات الزواج - راقصة جميلة, وخلفها تجلس العروس متألقة في طريقها إلى بيت عريسها, وكنا نطلق عليها : التختروان, وفوجئت بأن هذا معنى التختروان المباشر: في اللغة الفارسية, وكان يركبها ذوو الشأن من الرجال والنساء - في حال استعراض لذوي الخطورة, في مناسبات الفرح أو الزهو أو الانتصار, وعندما تضغط على التختروان بالصوت والإحساس المعنوي فسوف يقودنا إلى المصدر العربي, حتى أن الخطر - رجاء كسر الطاء - تعني مباشرة: المتبختر, وتعني عندي الآن تواصلها مع التختروان, مع محاولة عدم الانزلاق مع التختروان إلى التخت, والتي تعني - في معناها الأول - العرش الخاص بالملوك, ثم تعني - بعد ذلك السرير, أو أريكة الجلوس, ثم لا يلبث التخت أن يصبح اصطلاحًا في الموسيقى العربية, إنه الجماعة عازفة الموسيقى المصاحبة للقائم بالغناء مع المنشدين والمساعدين, وكانت هذه الجماعة تتألف من رئيس (هو المايسترو الآن - أي قائد الأوركسترا) وثلاثة ممن يضربون على الآلات الوترية: القانون والعود والكمان, ومن ضابط ينقر بالدف لضبط الإيقاع, ثم يضاف إليهم صاحب ناي أو مزمار, وعدد آخر - إلى جانب هؤلاء - للترديد الصوتي لبعض أجزاء الدور - أي الكورس.

          ومع أن التخت المشار إليه جاء نتيجة الولع بالتختروان, ونابعًا من المعاني والإشارات المتوالية, المتولدة من الخطر والخطورة, فإن هذا التوليد سوف يقودنا إلى متاهات بعيدة, تكمن فيها - كمثال - التختة بصفتها سبورة تعليمنا المبكر أو المقعد الخشبي الذي كنا نجلس عليه, علينا أن نغلق باب المخاطرة في التوليد اللغوي الآن.

كلمات لها معنى

  • لا يفوق ابتسامة الأنثى جمالاً, سوى تلك البداية المبكرة للابتسامة التي تتهادى على شفتي طفلة وليدة, عندما تمعن فيك أولاً, مع أهمية أن أسنانها لم تظهر بعد.
  • كل الجبال ذات الصخور تحترم جلستك على خشونة وشراسة تكويناتها حينما تمعن في غروب الشمس, أو ترنو إلى بدايات شروقها.
  • لقد انقلبت المعاني, حيث أصبح الهجر يستهلك سعرات حرارية أقل بكثير من التواصل العصري.
  • إياك أن تمعن كثيرًا في التفكير, العقل قابل للاعتصار, لاسيما أن خلايا المخ لا عضلات فيها.

 

محمد مستجاب   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات