إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

أوراق عن الحزن والفراق

          أحلِّفك أيتها الأيام السوداء بظلمتك وبياض شعور رءوسنا, كم لاقينا من الظلم والتشرد والتجويع وضياع الهوية والوطن, أتذكرهم واحدًا واحدًا, هؤلاء الذين كنت معهم وكانوا معي صلاح? لا أدري أين هو? ضاع مع ضياع ملامح طريق الحرير, وشهاب ذهب ضحية الحروب, ورائد الذي غادر مع الريح الشمالية إلى عنوان مجهول, ومكي! أين مكي? الذي قضيت معه سنوات رطبة من الفقر والتشرد والحرمان, من البكاء حتى بح الصوت, ومن اليأس حتى الموت.

          إن الذي جرى لا يمكن أن يجري حتى في الكوابيس, إنه كابوس طويل العمر, عمر حياتنا الضائعة.

          أحلِّفك أيتها الشوارع الضائعة من تحت أقدامنا, أيتها الطرق الكالحة, والأشجار الميتة, والأنهر المغادرة إلى خارج البلاد بلا عودة, كم مرّ بك من ظلم وطوفان وقتل وتدمير.

          مرّت سنوات بقيت فيها بلا أصدقاء, فقدتهم جميعًا, فمن مات مات, ومن توارى هربًا, ومن تلاقفته مثرمة الظلم دون أدنى ذنب, بقيت وحيدًا وحدة البعير المبعد, ألعق حزني لوحدي وعلي أن أجد لي أصدقاء, أن أصنع لي أصدقاء, ولكن هيهات, فمقاسات الصديق الذي أبحث عنه لا يمكن أن تتوافر في أسواق القرن الحادي والعشرين والعولمة ومطاعم الوجبات السريعة.

          أخيرًا, جاء بي القدر إلى هنا - طهران - عاصمة القرميد الحزين, والأنهر التي تبكي ليلاً ونهارًا على أمجاد الحضارات, في مدن الطوفان, أتيت أبحث عن شيء مفقود منذ عشرات السنين, ضاع مع مراكب الشمس الفرعونية وسفن العاج والحرير والتوابل, أتلمس صخور سواقي طهران, علّني أعثر على بؤبؤ لعين التاريخ في هذا الزمن المسلوب, أتصفح سواقيها التي تبكي ليل نهار, وأزهارها التي تضحك حتى في الخريف.. جئت هنا ولم يكن لي أي سابق علم بأنني سأجيء إلى هنا بعد سنوات من البعد والحصار, بعد أمد طويل وأنا الغريب.. غريب غربتين, غربة الروح والوطن, الروح التي ضعت فيها بحثًا عن منفى الجسد, والوطن الذي عشت فيه غربة أبدية لا يمكن أن أعود منها إليه.

          تجربة أضعت فيها كل ما ربحت من تجارة, وخسرت فيها التجار - الأصدقاء - الذي تواروا في المجهول أتذكرهم واحدًا واحدًا, ولكن لم أعثر ولو على واحد منهم.. أفتش عنهم في سماء طهران الصيفية الحالمة, وفي ثلوجها التي تتكور على قلبي, أذرع شوارعها بحثًا عن خطا ضائعة وعن طرق مسدودة, وعن أحلام ترملت قبل أن تكتمل. عشت في داخلي عصور الجليد والطوفان والنار وعصورا حجرية لا ترحم, بحثًا عن عصر الربيع الدائم والفردوس المفقود على أعتاب الدكتاتوريات وأسمال الحضارات.

          فجأة تذكرت صديقي مكي المفقود في الزمن الضائع والمحنط في أوراق مذكراتي, وقصاصات الورق التي كنا نتبادلها في درس اللغة العربية, والتي اصفرّت وكلحت ولكنها مازالت تنطق بحروف خضراء في زمن قاحل, تذكرت مرة أخرى أقراني الذين سقطوا في وديان المجهول.

          عدت إلى مكتبي مسلوبا من القدرة على التحمل, وعلى التمتع بسليقة النسيان, أجول بكل زوايا ذاكرتي لأجد مكانًا فارغًا أستريح فيه من همومي, ولكن هيهات, فذاكرتي مشغولة ومؤثثة بالحزن الفاخر.

          رحت أتصفح أوراق الماضي الصفراء, وفجأة جاءني سعد, قال لي إن هناك مواطنًا يبغي طلبًا, إنه ينتظر في الخارج وهذه هي أوراقه. أوغلت نظري في الوثائق!! عرفته من طفولته المحنطة في وثيقة شهادة الجنسية العراقية.

          هرع مكي إليّ والبكاء يتكسّر في صدره, وياليتني أستطيع أن أبكي, فالدمع يشح عند غلبة الحزن ويبخل عند الطلب

 

لؤي صادق الزبيدي