جمال العربية

جمال العربية
        

أقباس نورانية من (ترجمان العشاق)
صوت ابن عربي

          الاقتراب من تخوم العالم الرحب لمحيي الدين بن عربي - شيخ مشايخ الصوفية وإمام أئمة الطرائق الإسلامية - اقتراب محفوف بالمخاطر. نحن هنا مع لغة توحي ولا تقول, فاتحة أبوابًا مشرعة للتأويل, وفضاءات من التوهج الروحي والمعنى الرمزي. ونحن بإزاء قراءتين: قراءة تأخذ بالظاهر, فتجد غزلاً وأطلالا وظعنا وأسماء وأمكنة عربية, وقراءة تتأنى وتجهد نفسها - أكثر فأكثر - لتصبح مع الأفق الصوفي الكاشف والمكشوف, ولتنهمر عليها عطايا نفس كبيرة, وطبيعة شديدة الخصوبة والحساسية, وفكر عميق يجول ويصول ويُشرّق ويُغرّب, قابض بمجامعه على قلب قارئه وعقله, ومرتفع بهما معًا إلى حيث يتسع الوجود الأشمل, وينداح النور الكلي.

          يقول ديوانه (ترجمان الأشواق) الصادر عن دار صادر, إنه عاش بين 560 - 638 هجرية, 1164 - 1240 ميلادية, وهو محيي الدين بن العربي, الحاتمي, الطائي, الأندلسي. ولد بمرسية من بلاد الأندلس, وانتقل إلى إشبيلية في الثامنة من عمره, فقرأ بها العلوم على مشاهير زمانه. ثم سافر إلى مصر ودمشق وبغداد - حواضر العالم العربي الثقافية الكبرى - وجاور في مكة, وأقام في بلاد الروم طلبًا للعلم والسياسة, توفي في السادسة والسبعين, وكانت وفاته بالشام, وقبره بالصالحية في مسجد يعرف باسمه في سفح جبل قاسيون.

          وهو اقتراب - كما قلت - محفوف بالمخاطر إن لم نتنبّه إلى حقيقة الظاهر والباطن في أشعاره وأقواله وشروحه وتفاسيره. الظاهر غزل يمكن أن ينطبق عليه مفهوم الغزل الحسّي, أما باطنها فالهداية - كما يقول الشيخ محيي الدين - (إلى أسرار الهيام بالمعارف الإلهية والواردات الباطنة والأسرار الجمالية العليا).

          ويحذرنا ابن عربي نفسه في مستهل ديوانه (ترجمان الأشواق) من الوقوع في الزلل ومجانبة الصواب والوقوع في المحظور حين يقول: (لما نزلت بمكة سنة خمسمائة وثماني وتسعين, ألفيت جماعة من الفضلاء, ولم أر فيهم مع فضلهم مثل أبي شجاع ابن رستم الأصفهاني, وكان لهذا الشيخ بنت تقيّد النظر وتزين المحاضر, علمها عملها, عليها مسحة مَلَك وهمة ملِك, فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد, فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني, ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية, والتنزلات الروحية والمناسبات العلوية, جرْيًا على طريقتنا المثلى. والله يعصم قارئ هذا الديوان من سبق خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية والهمم العلية, المتعلقة بالأمور السماوية).

          وفي قصة شعرية تمتلئ بالإضاءات والأقباس النورانية, وتفيض بالدلالات والمعاني الرمزية, وتتوهج بحقيقة الحب الإلهي والوجد الصوفي يحكي ابن عربي ويقول:

          (كنت أطوف ذات ليلة بالبيت فطاب وقتي, وهزني حال كنت أعرفه, فخرجت من البلاط من أجل الناس وطفت على الرمل, فحضرتني أبيات فأنشدتها أُسمع بها نفسي ومن يليني لو كان هناك أحد, فقلت:

ليت شعري هل دروْا أيّ قلبٍ ملكوا
وفؤادي لو درى أيّ شِعْبٍ سلكوا
أتُراهم سلموا أم تُراهم هلكوا
حار أربابُ الهوى في الهوى وارتبكوا


          فلم أشعر إلا بضربة بين كتفيّ بيدٍ ألين من الخزّ, فالتفت فإذا بجارية من بنات الروم لم أَرَ أحسن منها وجهًا, ولا أعذب منطقًا, ولا أرقّ حاشية, ولا ألطف معنى, ولا أدقّ إشارة, ولا أظرف محاورة منها, قد فاقت أهل زمانها ظرْفًا وأدبًا وجمالاً ومعرفة. فقالت: يا سيدي كيف قلت? فقلت:

ليت شعري هل دروا أيّ قلب ملكوا


          فقالت: عجبًا منك وأنت عارف زمانك, تقول مثل هذا?

          أليس كل مملوك معروفًا? وهل يصحّ الملك إلا بعد المعرفة وتمنّي الشعور يؤذن بعدمها, والطريق لسان صادق, فكيف يجوز لمثلك أن يقول هذا? قل يا سيدي, فماذا قلت بعده? قلت:

وفؤادي لو درى أيَّ شِعْبٍ سلكوا


          فقالت: يا سيدي, الشّعب الذي بين الشفاف والفؤاد هو المانع له من المعرفة, فكيف يتمنى مثلك ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المعرفة, والطريق لسان صدق, فكيف يجوز لمثلك أن يقول هذا? يا سيدي, فماذا قلت بعده? فقلت:

حار أربابُ الهوى في الهوى وارتبكوا


          فصاحت وقالت:

          يا عجبًا, كيف يبقى للمشفوف فضلة يحار بها, والهوى شأنه التعميم بحذر الحواس, ويُذهب العقول, ويُدهش الخواطر ويذهب بصاحبه في الذاهبين, فأين الحيرة وما هنا باقٍ فيحار, والطريق لسان صدق والتجوّز من مثلك غير لائق, فقلت:

          يا بنت الخالة, ما اسمك? فقالت: قُرة العين, فقلت: لي!

          ثم سلّمتُ وانصرفت. ثم إني عرفتها بعد ذلك وعاشرتها, فرأيت عندها من لطائف المعارف ما لا يصفه واصف.

          هذا هو ابن عربي خيالاً ووجدًا ولغةً وبراعةَ تصوير, وافتنانًا وإدراكًا لكون الخيال أعظم قوة خلقها الله, فبه ظهرت القدرة الإلهية والاقتدار الإلهي. وابن عربي - في نثره وفي شعره - لم يحبّ أحدًا في الحقيقة سوى الله, لكنه احتجب عن الله تعالى بحب زينب وسعاد وهند وليلى والدينار والدرهم - كما يقول أستاذ الفلسفة الإسلامية د.محمود قاسم في كتابه عن (الخيال في مذهب محيي الدين بن عربي) وهو يتحدث عن الحب الإنساني والحب الإلهي - فكل هذه الضروب من الحب ليست إلا صورًا أو رموزًا لحقيقة كبرى لا يمكن التعبير عن جمالها وجلالها, إلا إذا سلك العاشق لها سبيل الغزل والتشبيب لكي يصوّر فيها - ما استطاع - ما يختلج بفؤاده من حب وهيام.

          من هنا يمكن تذوق كثير من الآثار الشعرية لابن عربي وتفسيرها, (في الحب الذي وجده ذوقًا, ففاق كونه عشقًا مفرطًا, وهوى مقلقًا, وغرامًا وتحولاً, وامتناع نوع, دون أن يتحدد المحبوب).

          يقول ابن عربي:

كلّ ما أذكرُه من طللٍ أو ربوع أو مغانٍ, كلُّ ما
وكذا إن قلتُ ها أو قلتُ يا وألا, إن جاء فيه, أو أما
وكذا إن قلت هي أو قلت هو أو همو, أو هنّ جمْعًا, أو هُما
وكذا إن قلت: قد أنجدَ لي قدر في شعرنا أو اتهما
وكذا السُّحبُ إذا قلت بكتْ وكذا الزهر إذا ما ابتسما
أو أنادي بحداةٍ يمّموا بأنة الحاجز أو وُرْقَ الحمى
أو بدور في خدودٍ أفلتْ أو شُموسٍ أو نباتٍ أَنْجَما
أو بروقٍ أو رعودٍ أو صبًا أو رياحٍ أو جنوبٍ أو سَمَا
أو طريقٍ أو عقيقٍ أو نقًا أو جبالٍ أو تلالٍ أو رِما
أو نساءٍ كاعباتٍ نُهّدٍ طالعاتٍ كشموسٍ أو دُمَى
كلُّ ما أذكرهُ مما جرى ذكره أو مثله أن تفهما
منه أسرار وأنوارُ حَلتْ أو عَلتْ جاء بها ربُّ السَّما
لفؤادي أو فؤادٍ مَنْ له مثل ما لي من شروط العُلَما
صفة قدسية عُلويةٌ أعلمتُ أنّ لصدقي قِدما
فاصرفِ الخاطر عن ظاهرها واطلب الباطن حتى تَعْلَما


          وفي موضع آخر من ديوانه البديع (ترجمان الأشواق) يقول ابن عربي:

ناحت مطوّقةٌ فحنَّ حزينُ وشجاه ترجيع لها وحنينُ
جرت الدموعُ من العيون تفجَّعا لحنينها, فكأنهن عيونُ
طارحْتُها ثُكْلاً بفقد وحيدها والشّكْلُ عن فقد الوحيد يكونُ
طارحْتُها, والشّجْوُ يمشي بيننا ما إن تبينُ, وإنني لأبينُ
بي لاعجٌ من حُبِّ رملةِ عالجٍ حيثُ الخيامُ بها وحيثُ العينُ
من كلِّ فاتكة اللِّحاظِ مريضةٍ أجفانُها لظُبى اللّحاظِ جُفونُ
مازلتُ أَجْرعُ دمعتي من غُلّتي أُخفي الهوى عن عاذلي وأصونُ
وصلوا السُّرى قطعوا البُرَى فلعيسهم تحت المحاميل رنّةٌ وأنينُ
عانيْتُ أسباب المنية عندما أرخوْا أزمّتها, وشُدّ وضينُ
إنّ الفراق مع الغرام كقاتلي صعبُ الغرام مع اللقاءِ يهونُ
مالي عذول في هواها, إنها معشوقةَ حسناءُ حيث تكونُ


          وهي أبيات عامرة بنفحات الوجد وحرارة المعاناة وفرح المعاينة والانكشاف, تقدم مثالاً دالاًّ لامتداد خيوط التجربة, فيما ظاهره حب إنساني, وهو في جوهره عشق إلهي, ووجد صوفي, من هنا كان لهذا الشعر - وكثير غيره في إبداع ابن عربي - توهجه من خلال قيم التعبير وجماليات التصوير, ونفاذه إلى أغوار الحسّ والتذوّق, وأعماق القلب والوجدان.

          هذه الخيوط والروافد في شعر ابن عربي وغيره من شعراء الصوفية مستمرة وممتدة في رحلة الإنسان مع الكون, ما بقى هذا الإنسان, وما استمرّ انخلاعه وانخطافهُ نحو المجهول, واحتضانه لطمأنينة الإيمان واليقين, وتوهجه بالمحبة الكاشفة, التي تنفض عنه الخوف, وتملأ زوايا نفسه بالخشوع, وتفجّر هذا الشعر الأصيل النبيل, المشرق بعطاء الرحلة والمثقل بمخاطر الترحال.

          فمادام المحبوب هو الحق, فإن العارف يظلّ دائم المشاهدة له. وكلما ازداد مشاهدة زاد هيامًا ووجدًا, فالاشتياق يهيج باللقاء, ويُظمئه الوصال, وتُشعله المعاينة, وكلما اجتمع العاشق بمحبوبه, أدرك أنه لا يشبع من مشاهدته, ولا يروي ظمأه منه, فكلما نظر إليه, زاد وجدًا به وشوقا مع حضوره معه.

          يقول محيي الدين بن عربي في واحدة من روائعه الشعرية وتجليّاته الصوفية:

مَرضي من مريضة الأجفانِ علّلاني بذكرها علّلاني
حفتة الوُرْق بالرياض وناحت شجوّ هذا الحمامِ مما شجاني
بأبي طفلة لعوبٌ تهادَى من بنات الخدور بين الغواني
طلعت في العِيان شمْسًا, فلمّا أفلتْ أشرقت بأُفق جَناني
يا طلولاً برامةٍ دارساتٍ كم رأتْ من كواعبٍ وحسانِ
بأبي ثُمّ بي غزالٌ ربيبٌ يرْتعي بين أضلعي في أَمانِ
ما عليه من نارها فهو نورٌ هكذا النور مُخمدُ النيرانِ
يا خليليْ عرِّجا بِعناني لأرى رسْم دارها بِعياني
فإذا ما بلغْتُما الدارَ حُطّا وبها صاحبيَّ, فلْتبكياني
وقِفا بي على الطلول قليلاً نتباكى, بل أَبْكِ مما دهاني
الهوى راشقي بغيرِ سهامٍ الهوى قاتلي بغير سنانِ
عرّفاني إذا بكيْتُ لديْها تُسْعداني على البُكا تُسْعداني
واذكُرا لي حديث هندٍ ولُبْنى وسُليْمى وزينبِ وعِنانِ
ثم زيدا من حاجرٍ وزَرُودٍ خبرًا عن مراتعِ الغزلانِ
واندُباني بشعر قيسٍ وليلى وبميٍّ, والمُبْتَلى غَيْلانِ
طال شوقي لطفلةٍ ذات نثْرٍ ونظامٍ, ومنبرٍ, وبيانٍ
من بنات الملوكِ من دار فُرسٍ من أجلِّ البلادِ من أَصبهانِ
هي بنتُ العراقِ بنتُ إمامي وأنا ضدّها سليلُ يماني
هل رأيتم, يا سادتي, أو سمعتم أن ضدّيْن قطٌّ يجتمعانِ
لو ترانا برامةٍ نتعاطى أكؤسًا للهوى بغيرِ بَنانِ
والهوى بيننا يسوقُ حديثا طَيّبًا مُطربًا بغيرِ لسانِ
لرأيتم ما يذهبُ العقلُ فيه يمنٌ والعراقُ مُعتنقانِ
كذب الشاعر الذي قال قبلي وبأحجار عقله قد رماني
أيها المُنّكحُ الثريّا سُهيْلاً عَمْرَكَ اللهَ, كيف يلتقيان?
هي شاميةٌ, إذا ما استهلّتْ وسهيْلٌ, إذا استهلّ, يماني!


          أي من هذه النار الذكيّة المتوهجة, والأقباس النورانية الفياضة, والشعر العالي المتسامي, ركاكاتُ بعض أدعياء الشعر وثرثراتهم, التي يحاولون بها الاجتراء على حمى الصوفية والشعر الصوفي, تساندهم هرطقة من يروْن في هذه الثرثرات مقامات وأحوالاً وطرائق, ويساعدون في إفساد ما تبقى - لدى قلّة قليلة في زماننا - من ذوق وقدرة على التمييز? شعر (ابن عربي) كفيل وحده بكنْس كلّ هؤلاء الأدعياء والمجترئين, وحماية كلّ إبداع حقيقي من الزائفين والمُضلّين, والمتمسّحين, بالأعتاب, وهم لا يملكون شرف الانتساب!

          ورحم الله ابن عربي وهو يقول:

اللهُ أنشأَ من طيٍّ وخولانِ جسمي, فعدّلني خلْقًا وسوّاني
وأنشأ الحقَّ لي رُوحًا مُطهّرةً فليس بُنيانُ غيري مثْلَ بُنياني!


 

فاروق شوشة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات