(بدايات) أمين معلوف... هوية متأرجحة بين الجذور والمنافي

بدايات) أمين معلوف... هوية متأرجحة بين الجذور والمنافي
        

          المتتبع لروايات الكاتب اللبناني أمين معلوف, لابد أن يلاحظ اهتمامه المفرط بقضية الهوية والانتماء, وما يحيط بهما من التباسات ومفارقات. فهذه القضية بالذات باتت الهاجس الأساسي الذي يقف وراء كتاباته.  

          إنها الفكرة المحورية التي تدور حولها سائر أعماله, بدءًا من ليون الإفريقي وسمرقند, وصولاً إلى موانئ الشرق, وصخرة طانيوس, ورحلة بالداسار وغيرها.

          فالقاسم المشترك بين كل هذه الأعمال هو نبذ التعصب والانغلاق بكل أشكاله الطائفية والوطنية والقومية والعرقية, والانحياز إلى المناطق المشتركة التي تجمع بين البشر, والجماعات, وتقيم بينهم أوثق الوشائج.

          إن أدب أمين معلوف بهذا المعنى هو المعادل الإبداعي لفكرة حوار الحضارات, وهو بالتالي الرد الحاسم والبليغ على هنتنجتون, وأمثاله من المنادين بمبدأ الصراع الأبدي بين البشر, الذي تتولى حسمه القوة المهيمنة, لا الحوار والتفاعل والتكامل. على أن ذلك الرد لا يتم في إطار وعظي وإرشادي, بل في سياق أعمال روائية مميزة, يتقاسم بطولتها رجال ونساء يغادرون أوطانهم باستمرار, أو يتمزقون بين أكثر من وطن, كما هي الحال مع المؤلف نفسه. فمعلوف المولود في لبنان والمتحدر من عادات وتقاليد وقيم مشرقية وعربية, لا يجد حرجًا في اكتساب الهوية الفرنسية الغربية, وفي الكتابة بلغة غير لغته الأم, ولا يكفّ في جميع كتاباته عن دحض الهويات الصافية, والدعوة إلى (عولمة) ثقافية وإنسانية تزول معها الحدود والعوائق الفاصلة بين بني البشر بعيدًا عن العولمة الأخرى القائمة على الهيمنة والاستحواذ والقهر. فالهويات الخالصة هي الهويات القاتلة, وفق تعبير المؤلف, لأنها الوجه الآخر للتعصب والعنصرية والتمحور حول الذات, وإلغاء الآخر, ونبذه وكسر شوكته. لهذا السبب, ينحاز معلوف إلى فكرة الهوية المركبة والمتحولة في وجه الهوية المغلقة والنهائية, ويرى حياة الإنسان شبيهة بالطريق الذي يفضي من مكان إلى مكان, ومن حلم إلى حلم, لا بالشجرة التي تظل أسيرة إقامتها وترابها الفقير. وإذا كان البعض لا يوافقون الكاتب نظرته إلى الحياة والعالم, فإن أحدًا لا ينكر عليه نزوعه الإنساني, ودعوته إلى الحرية, والتسامح والوئام بين بني البشر.

الجذور والمنافي

          يشكّل كتاب أمين معلوف الأخير (بدايات) استمرارًا طبيعيًا لمشروعه الفكري والإبداعي, وتأكيدًا على فكرة الهوية المتأرجحة دائمًا بين الجذور والمنافي, وبين الرسوخ والاهتزاز. فالكتاب الجديد هو محاولة مضنية لاكتشاف الذات, لا من خلال ذاتيتها الصرف, بل من خلال السلالة والعصب, والوقوف على المصائر المختلفة لأولئك الذين وفّروا للمؤلف فرصة الوجود, ومنحوه شكله ولونه وفئة دمه, كما منحوه موهبة الكتابة, وطريقة التعبير والرؤية إلى العالم. إنه كتاب في السيرة الجماعية, وفي تقصي الملامح الملحمية للسلالة الغاربة, التي أسهم أبناؤها - كلٌّ على طريقته - في إنجاز مشروعه الشخصي, ومغامرته الخاصة, بقدر ما أسهم في تعبيد الطريق أمام الحفيدالقادم. وإذا كان المؤلف يعود غير مرة إلى الكتاب التاريخي, الذي وضعه عيسى اسكندر المعلوف حول تاريخ العائلة وتحوّلاتها, مشيرًا إليه بعنوان (الشجرة), فإنه في رسمه لشجرة العائلة عند نهاية الكتاب لا يتبع نظام الأصول والفروع التقليدي, بل يضع نفسه مكان القلب, ويحوّل أسلافه إلى أوردة وشرايين, تحيط به من كل جانب. إلا أن خوفه من سوء الفهم, أو من الاتهام بالغرور والأنانية, يدفعه إلى التوضيح إلى أن ما فعله هو نوع من خارطة الطريق, التي تسهل على القارئ تتبع المشهد العائلي الذي لا يتجاوز الأجيال الأربعة الأخيرة, دون الوقوع في متاهة الجذور المتقاطعة.

          ليست مهمة هذه المقالة استعادة وقائع الرواية - السيرة - التي تضج بعشرات التفاصيل والجزئيات والأخبار المتناثرة والمتداخلة. فالقراءة النقدية في الأساس, لا تهدف إلى رواية العمل الأدبي مرة ثانية, وإلا أصبحت بديلاً متعذر التحقق عن العمل نفسه, بل تهدف إلى استقراء العناصر والخطوط والرؤى التي تتشكل من تضافرها الخارطة الموازية لكل إبداع. لذلك فإن تفكيك الخارطة البشرية لكتاب أمين معلوف يتيح للقارئ أن يطل على جوهر مشروعه, وعلى المعاني العميقة لكتاباته المختلفة. على أن ما يعنينا في هذه الخارطة, ليس التتبع المرهف لعشرات الأسماء الواردة في سياق الكتاب, بل الإشارة إلى تبدّل المصائر والأمكنة, وتنوّع الخيارات من جيل إلى جيل, ومن فرد إلى فرد. فطنوس الجد الأكبر للمؤلف ينتمي إلى قرية صغيرة في الجبل اللبناني, ويعيش في كنف التحوّلات الهائلة التي حدثت لهذا الجبل إثر الحروب الطائفية الثلاث, التي مزّقت لبنان في القرن التاسع عشر. لكن معلوف يعرف كيف يمازج ببراعة سردية فائقة بين تاريخ العائلة وتمزّقاتها, وبين تاريخ المنطقة برمتها, حيث النظام الجديد الذي أعطي للبنان تحت اسم المتصرفية, وحيث تحوّلت الدولة العثمانية إلى ما يشبه (الرجل المريض) وما يتبع ذلك من تدخل الدول الكبرى بذريعة حماية الأقليات في لبنان, وصولاً إلى الحرب العالمية الأولى, وما رافقها من مجاعة وفقر وزحف لأسراب الجراد على ما تبقى من أسباب الحياة, ولقمة العيش.

          إلا أن الذريعة الفنية الموازية, التي وقفت وراء الكتاب برمته, هي المخزون الكبير من الرسائل والأوراق, التي تركها وراءه بطرس المعلوف - ابن طنوس وجد أمين لأبيه - لكي توفر للمؤلف المادة الغزيرة والملائمة للشروع بالكتابة. فلقد تلقّف أمين معلوف بذكاء لمّاح المغزى الحقيقي لهذه (التركة) الهائلة من الأوراق, التي تركها وراءه ذلك الرجل, الذي لعب وسط محيطه دور المعلم والمربي, وصاحب المدرسة العلماني, والمتسامح, والبعيد عن التعصّب. لقد قرأ الحفيد أوراق الجد كما لو أنها رسالة شخصية إلى مَن يهمه الأمر من الورثة القابعين في عالم الغيب, والذين عليهم انتشال تاريخ العائلة من النسيان, والوقوف على المعاناة العظيمة التي عاشها الأسلاف, وعلى القيم والمبادئ السامية التي دافعوا عنها.

حلم السعادة والشقاء

          لقد شكّل بطرس المعلوف المتشبث بالهوية, والمترنّح تحت سيف التخلف الاجتماعي, وسيل الاتهامات بالمروق والإلحاد أحد ركنيّ الرواية الأساسيين, فيما شكّل أخوه جبرائيل المهاجر إلى هافانا الركن الآخر للرواية نفسها. على أن الأخوين المقيم والمهاجر تقاسما معًا نصيبهما من الحلم والخيبة, من السعادة والشقاء, ومن الانتصار والهزيمة. إنهما معًا وجها السلالة المتعارضان والمتكاملان في الآن نفسه. الأول رأى قدره في مواجهة التخلف والفقر والانغراس في تربة الوطن الأم, والإصرار على قيادة مؤسسة تربوية تسهم في تعليم الناشئة, وانتشالها من وهدة الجهل, والثاني رأى قدره على هيئة سفينة تحمله إلى البعيد, حيث سيتمكن خلال سنوات قليلة من تحقيق طموحاته في العاصمة الكوبية, والتحوّل إلى واحد من الأثرياء الكبار, ومن الأعلام الذين يشار إليهم بالبنان في هافانا.

          إلا أن كلا منهما يموت في شرخ شبابه, حيث يقضي جبرائيل - الذي غيّرت كوبا اسمه إلى غابرييل - في حادث سير مروع, ويقضى بطرس بعده بسنوات قليلة في نوبة قلبية قاضية.

          لم يبذل أمين معلوف كبير جهد لكي يضع القارئ أمام صورة وطنه المنقسمة بين الإقامة والهجرة, وبين الجذور والمنافي, من خلال المصير المتشابه لبطرس وغابرييل. إضافة - بالطبع - إلى المصائر الأخرى التي جعلت ثالث أبناء طنوس يتحول إلى مبشّر بروتستانتي متعصب لخياراته الجديدة, فيما يصر الرابع على كاثوليكيتة الموروثة حتى النهاية.

          كما أن لعبة شد الحبال المتواصلة بين أتباع الكنيسة البابوية, وأتباع مارتن لوثر, تفضي في النهاية إلى وضع شديد الغرابة والالتباس, تتمزق فيه العائلة بين القيود الرسمية التي تلحقها بالبروتستانتية, والواقع التاريخي الذي يشدها إلى الكثلكة. هذه الفسيفساء العجيبة من الانتماءات المذهبية والسياسية والعرقية والجغرافية هي التي تحكم المشرق, وتلقي بظلالها على شعوبه وجماعاته منذ مئات السنين, وهي نعمة الشرق, ونقمته في آن واحد. ذلك على الأرجح ما يسعى أمين معلوف إلى قوله في سيرته الروائية (بدايات) كما في جميع أعماله الأخرى.

          قد يكون هذا التنوع مصدرًا للتفاعل الخلاّق بين المجموعات التي تتشكل منها خارطة لبنان, ومعها المشرق العربي برمته, ففوق هذه الأرض الغنية بالأنبياء والقدّيسين, تتحاور الثقافات, وتتداخل الخبرات الإنسانية, وتتلاقح الرؤى والمعارف والحدوس. لكن هذا المختبر المتنوع من الثقافات المختلفة قد يتعرض للاحتلال في أي وقت, مهددًا بأوخم الانفجارات والعواقب داخل جغرافيا ملتبسة الخرائط والتسميات. وهو ما يعبّر عنه المؤلف بقوله: (في ذهن أجدادي كان لكل من هذه الانتماءات المتنوعة خانة خاصة: فدولتهم هي تركيا, ولغتهم هي العربية, وولايتهم سورية, ووطنهم جبل لبنان, تضاف إليها - بالطبع - طوائفهم الدينية المختلفة, التي يقيمون لها في حياتهم وزنًا أكثر من سائر انتماءاتهم. ولم تكن هذه الانتماءات تعيش في تناغم, كما تشهد المذابح الكثيرة التي ذكرتها آنفًا, ولكن تلك التسميات تميزت مرونتها كما الحدود, وقد تلاشت هذه المرونة مع صعود الحركات القومية). وعبر هذه الجملة الأخيرة, يكشف أمين معلوف دون مواربة عن ضيقه بكل أنواع أيديولوجيا القومية, وبـ(الوطنيات) الضيقة التي تولد في تربتها بذرة التعصب والانغلاق والفاشية.

          لكن معارضة معلوف للأيديولوجيا المغلقة, والهوية المتقوقعة, لا يعني بأي وجه تنكّره الكامل لفكرة الانتماء أو لفكرة الوطن, وإلا لأصبح كتابه برمته من دون مسوغ أو هدف. فكتابه الأخير هو في الكثير من وجهه مديح للسلالة, وانتصار لمساقط الدماء الأولى, وينابيعها الأصلية, وإلا فما الذي يدفع المؤلف المقيم في باريس منذ ثلاثة عقود لتجشم عناء السفر إلى هافانا, متعقبًا آثار عمه الأكبر غابرييل, ومتنقلاً بين الشوارع والأزقة والمكتبات وأرشيف الصحف, للعثور على أخبار ذلك الرجل الذي قضى قبل أكثر من ثمانية عقود? إن ذلك الجزء من الرواية الذي يتعقب فيه معلوف أثر عمه الغائب عبر متاهات العاصمة الكوبية, وصولاً إلى مؤسسته التي أصبحت أثرًا بعيد عين, وإلى منزله الذي تحوّل إلى متحف, وإلى الجسر الذي قضى فوقه في حادثة سير مروعة, وإلى المقبرة التي دفن فيها هو الجزء الأكثر رومانسية وشاعرية وشجنًا في الرواية برمتها. ذلك أنه يحاول عبر تلك المجازفة أن ينقذ أسلافه من العدم المطلق, وأن يرتق أوصال ذلك الجسد الجماعي الموزع بين الأوطان والمنافي بكل الوسائل الممكنة. لقد حاول أمين معلوف أن يسدد تلك الديون المتراكمة, التي تركها أسلافه في ذمته, وهم الذين ناضلوا بدأب مأساوي لكي تئول حيواتهم إليه, وكي يمكّنوه من أن يحصل على الكنز الذي تركوه وراءهم قبل أن يغيبوا. وليس أبلغ من تركه يتحدث بنفسه عن المعنى الذي يقف وراء ذلك التقصي المضني وراء مصائر أجداده: (قد يقول بعضهم: وماذا إذن? فلندع الأموات - كما يقول تعبير مبتذل - يدفنون الأموات, ولننصرف إلى حياتنا, ولكن إذا كان النسيان مصير كل شيء, فلماذا نبني? ولماذا بنى أسلافنا? لماذا نكتب? ولماذا كتبوا هم? في هذه الحال, ما جدوى غرس الأشجار ولم الإنجاب? ما فائدة النضال من أجل قضية والحديث عن التقدم? وفي كل الأحوال إن اقتفاء الأصول هو بمنزلة الانتصار على الموت والنسيان).

 

شوقي بزيع   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





 





 





معلوف يضيق بكل الوطنيات الضيقة التي تولد التعصب