أزمة التعليم العالي.. مقاومة الإصلاح والتطوير

أزمة التعليم العالي.. مقاومة الإصلاح والتطوير
        

أعداد الجامعات العربية في تزايد ومع ذلك فإن مستواها يواصل الانخفاض
كيف يمكن إن نواجه هذه المشكلة?

          إن المفارقة اللافتة للنظر هي أنه كلما تميزت الجامعات بمستواها العلمي ظهرت الحاجة إلى مزيد من التطوير والاستمرار في البحث عن الحقيقة والإنجاز الأفضل, ذلك لأن عدم الاهتمام بالجودة في الأداء والإنجاز يعتبر مؤشرًا أكيدًا على التراجع والتدهور, إذ إن أساس التطور في المجتمعات الديناميكية, ينبع أصلاً من صراع قوى الإنتاج المبنية على مبدأ المنافسة. والمنافسة تقوم أصلاً على تحقيق الأفضلية من خلال الجودة والابتكار وتحسين كفاءة الأداء. وبالتالي, فإنه لا يمكن في مثل هذا النظام التنافسي الوصول إلى أي مراتب متقدمة إلاّ بالبحث والتطوير وعمليات التقويم الذاتي.

          ومن هنا, فإننا يجب ألا نستغرب كثيرًا عندما نرى وجود مقاومة شديدة ضد الإصلاح والتطوير في المجتمعات المتخلفة تنمويًا والراكدة اقتصاديًا واجتماعيًا. هذا هو رد الفعل الطبيعي في معادلة الصراع على الوجود. ويرجع السبب, بالطبع, إلى انعدام أو ضعف مبدأ المنافسة أصلاً في مثل هذه المجتمعات, فلا توجد حوافز تشجيعية للتطوير أو التميز الفعلي, ولا تتوفر الثقافة المحلية اللازمة للجودة, بل على العكس من ذلك, فإننا قد نجد أحيانًا ثقافة معاكسة تمامًا وهي مبنية على مفهوم (الكسب الأقصى بالجهد الأدنى).

          هذا بالإضافة إلى شيوع ثقافة التخوف من (تهميش الثقافة والهوية المحلية) بسبب (الغزو الثقافي) و(العولمة), دون طرح أي بدائل عقلانية متوازنة, بل على العكس, هناك تطرف سلبي واضح إزاء التفاعل مع الحضارة الإنسانية والتبادل الثقافي, وكأن الحل الوحيد هو انعزالنا كليًا عما يجري حولنا, أو الدخول في معركة خاسرة في صراعنا الوجودي على هذا الكوكب.

          لقد تناول العديد من تربويينا وأكاديميينا قضية (الأزمة) التي يمر بها التعليم بمجمله في العالم العربي, من حيث التردي الواضح في نوعيته وجودته, والذي يعكس إلى حد كبير ما تدل عليه المؤشرات والإحصاءات, من تعثر المجتمعات العربية في مسيرتها التنموية, فهي إما مازالت تراوح في مكانها, أو تتراجع موشراتها مقارنة بالمؤشرات العالمية في الدول الأخرى.

          بادئ ذي بدء, إننا لا نستطيع أن نتكلم عن سوية التعليم دون الرجوع إلى معايير ومرجعيات متفق عليها دوليًا. فعندما يتكلم التربويون في الولايات المتحدة الأمريكية عن تدني مستوى الطلبة الأمريكيين في الرياضيات, أو تدني مستوى طلبتهم في مدى فهمهم لما يجري حولهم في العالم, فإنهم يعتمدون معايير ومقاييس خاصة بهم, من الواضح أنها أعلى بكثير من المقاييس الخاصة بنا. وهنا يبرز السؤال المهم: ألم يحن الوقت لكي نطور نحن العرب معايير ومرجعيات متطورة خاصة بنا, نعتمد فيها معايير للأداء والجودة معتمدة دوليًا?

          إن المؤشرات الإحصائية هي التي تتكلم! فماذا يعني وجود 68 مليون أمي في العالم العربي الآن? ماذا تعني نسبة تكاثر ونمو سكاني تبلغ حوالي 2.5% أو أكثر? إذ سيبلغ بحلول عام 2010 عدد السكان من الفئة العمرية (5 ـ 18 سنة) حوالي 110 ملايين شخص!? وهذا يعني بأبسط أحواله, أن على الدول العربية توفير مبلغ لا يقل عن 40 مليار دولار لمواجهة الزيادة الكبيرة في عدد طلبة التعليم الأساسي, والتي تبلغ نسبتها حوالي 9% وهي من أعلى النسب في العالم.

          وماذا عن دور الجامعات ومؤسسات التعليم العالي? إن عدد الجامعات العربية ارتفع من حوالي 12 جامعة عام 1945 إلى حوالي 240 جامعة بالإضافة إلى أكثر من 600 كلية عام 2004, ومن المتوقع أن يبلغ عدد طلبة التعليم العالي حوالي 6 ملايين طالب بحدود 2010. ومع كل هذا النمو المذهل في أعداد الطلبة والجامعات, تبقى معدلات الإنفاق السنوي على طالب التعليم العالي العربي متدنية جدًا, مقارنة بنظيراتها في الدول المتقدمة, حيث يبلغ متوسط هذا الإنفاق حوالي 2500 دولار سنويًا في حين يصل الإنفاق في جامعات بعض الدول المتقدمة إلى حوالي 45.000 دولار.

استراتيجية التعليم العام

          وهناك إحصاءات مثيرة أخرى في هذا المجال, تشير كلها إلى وجود مشاكل بنيوية حقيقية في التعليم والتعليم العالي على وجه الخصوص, وإلى اختلالات في النسب والموارد والإمكانات. وإذا لم يتم التصدي لهذه التحديات والمشكلات الآن فمتى? إن (الأزمة) موجودة وحقيقية وإذا لم يتم (الإصلاح) فإنه قد يصبح من الصعب جدًا, بل من المستحيل, معالجتها, وستكون النتائج وخيمة وستؤدي إلى مزيد من التراجع, أو في أحسن الأحوال إلى استمرار حالة الركود والجمود.

          يؤكد أغلب الخبراء في التخطيط التربوي ورسم الاستراتيجيات العليا للتعليم العام  أن التعليم العالي ما هو إلا حلقة من حلقات السياسة التربوية في أي بلد. إذ إن هذا المفهوم الجديد يسمى الآن (التعلم بلا حدود Borderless Education) ويعني عدم الاعتراف بأي فواصل بين شتى مراحل الدراسة, الحضانة, الابتدائية, الثانوية, المرحلة الجامعية الأولى ومرحلة الدراسات العليا. إن تبني مثل هذا المفهوم سيحدث تحولاً جذريًا وبنيويًا في رسم الاستراتيجيات العامة للتعليم في أي بلد. كما يتطلب إعادة نظر شاملة في السياسات التعليمية وهياكلها الإدارية وقوانين التعليم الأساسي والعالي والأنظمة المعمول بها.

          إن التركيز على التعليم المبكر (3 - 5 سنوات) في العديد من الدول المتطورة قد أحدث طفرة كبيرة في المستوى التعليمي العام فيها, كما أنه ساهم في القضاء, إلى درجة كبيرة, على الأمية الرقمية. إن الفجوة الرقمية أو ما يسمى بالإنجليزية (Digital Divide) هي الآن واحدة من أهم المؤشرات على تدني أو تطور المستوى المعرفي في أي بلد.

          وحسب تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 فقد بلغ - مثلاً - عدد أجهزة الحاسوب لكل ألف شخص عربي 18 جهازًا, بينما يرتفع هذا الرقم إلى 380 جهازًا في بعض الدول المتقدمة. كذلك تبين أن نسبة مستخدمي الإنترنت من العرب هو 1.6% لكل ألف شخص, بينما يصل هذا الرقم إلى 30% في الولايات المتحدة الأمريكية.

          لا يختلف اثنان على ضرورة أن تقوم مؤسسات الدولة الوطنية بالدور الأساسي في تخطيط ورسم الاستراتيجيات العامة. يجب أن يتم ذلك بمشاركة فاعلة وحقيقية من المؤسسات المدنية والمنظمات غير الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص, ففي الولايات المتحدة مثلاً نجد مؤسسات حكومية فيدرالية هي المسئولة عن السياسات التربوية العامة, مع استقلال ومرونة كبيرة لكل ولاية, ولكل مؤسسة تعليمية, حكومية كانت أم خاصة.

          لقد ثبت عبر حقب التاريخ أن (المركزية) والسيطرة والتحكم التفصيلي في شئون مؤسسات التعليم العالي هي أسلوب غير مجدٍ على المدى البعيد, ويتناقض كليًا مع فلسفة استقلال المؤسسات التربوية. المهم هنا هو أن تكون الدولة قادرة على بلورة رؤية فلسفية واضحة لسياسة التعليم ككل بكل مراحله, وأن تقوم مؤسسات الدولة - على حد تعبير الباحث العراقي إحسان فتحي - بدور الراعي والمنسق وليس بدور الشرطي والجلاد

الجامعة والاستقلال

          وبالرغم من أن قانون التعليم العالي في العديد من الدول العربية ينص على أن هيئة الاعتماد تكون تحت (إشراف المجلس) فإنه يجب التأكيد - كما أشرنا - على ضرورة إعطاء هذه الهيئة المتخصصة درجة من الاستقلال, لحمايتها من الضغوط وحتى تكتسب القدر الكافي من المصداقية والقدرة على تطوير عملها مع الزمن حتى تستطيع أن تقوم بدورها الكامل ليس فقط كأداة للترخيص بل لتحفيز التنافس والتطور المستمرين.

          وبصورة عامة, ومن أجل أن يقوم المجلس بالمهمات الموكلة إليه, فإنه يحتاج إلى توفير خدمات كثيرة للجامعات, وليس الاكتفاء باتخاذ قرارات الموافقة أو عدمها.

          فالجامعات تحتاج إلى توافر آليات مستقلة ومتخصصة وذات مصداقية لتقييم أدائها المؤسسي, وإلى تقييم برامجها وتقييم أداء طلبتنا وتقييم مشاريع بحوثها. ومن خلال هذه الآليات تستطيع الجامعة أن تقارن كل جانب من جوانب أدائها بالجامعات الأخرى المحلية والإقليمية والدولية, وأن تطور ذاتها باستمرار فتحصل بجدارة على تمويل الدولة لبرامجها التدريسية, وتمويل مشاريع بحوثها من الجهات المعنية, إلى اجتذاب المنح والوقفيات. وهذا يتطلب وجود هيئات متخصصة محلية وإقليمية للتقييم, تعمل وفق قواعد معلنة وشفافة, وذات قدر كافٍ من الاستقلال عن الجامعات وعن مجلس التعليم العالي حتى ولو كان بعضها ممولاً من المجلس أو تابعًا له مؤسسيًا. ومن خلال هذه الحلقات الوسيطة, تتحول العلاقة بين الجامعة والدولة إلى علاقة مشاركة وتعاون, ويكون دور المجلس موجهًا نحو تنظيم وتحفيز نشاطات التعليم العالي بدلاً من التحكم الخانق فيها.

          كما أنه يجب التمييز بين دور المجلس في مراقبة عمل الجامعات كمعاهد للتدريس وبين توجيه وتمويل نشاطات البحث العلمي, الذي يتولاه عادة مجلس أو هيئات مستقلة.

          وكما هو معروف فإن نشاطات البحث العلمي ليست محصورة بالضرورة داخل الجامعات, إذ هناك العديد من المؤسسات الحكومية والخاصة خارج إطار الجامعات تقوم بنشاطات بحثية واسعة. وتقدم الجامعات من جانبها للباحثين المتطلبات البحثية الأساسية من تمويل محدود وتوفير للدعم الفني والإداري, في حين تتولى تمويل مشاريع الأبحاث بشكل رئيسي وعلى أسس تنافسية واسعة جهات خارجية حكومية أو خاصة, محلية أو إقليمية أو دولية.

حرية البحث

          وهذا يعني أن الجامعة ومجلس التعليم العالي مسئولان عن توفير البيئة اللازمة لعمل الباحثين, بما في ذلك حرية البحث, كما أن مجلس التعليم العالي لا بد أن يكون معنيًا بصورة غير مباشرة بأداء الجامعة البحثي كونه جزءًا لا يتجزأ من أدائها العام, إلا أن تحميل المجلس صلاحية الإشراف على توجيه وتمويل البحوث بدلاً من توكيل الأمر إلى مجلس مستقل ومتخصص هو خلط مضر ومبالغة خانقة في المركزية والتقييد.

          التركيز واجب أيضًا على دور المجلس في وضع سياسات تمويل الجامعات الحكومية, أو وضع الأطر اللازمة لتحفيز دور القطاع الخاص في إطار من الضوابط اللازمة لتأمين المصلحة العامة, وتمكينه من القيام بدور حقيقي, في بناء بيئة تنافسية للتعليم العالي, تقوم على التنوع والتجديد الحقيقيين, ومنع طغيان وتدخل المصالح التجارية في القيم والحياة الأكاديمية, وكذلك التعاون مع الجامعات والقطاع الخاص لإحياء القيم والتجارب الإسلامية والعربية الأصيلة من أجل اجتذاب وتشجيع الوقفيات الداعمة للجامعات وبرامجها, وكذلك تشجيع إنشاء الجامعات الخاصة غير الربحية.

          وبالرغم من تولي المجلس مسئولية وضع الأسس العامة والعادلة المتعلقة بقبول الطلبة في مؤسسات التعليم العالي فإنه قد يكون من المفيد حماية للمجلس من أي ضغوط قد تمارس عليه أن ينص قانون التعليم العالي بوضوح على أن هذه الصلاحية تؤكد ضرورة الموازنة بين الحاجة إلى نشر التعليم العالي بين المواطنين من جهة, وقدرة استيعاب الأقسام العلمية وضرورة المحافظة على المستوى النوعي للبرامج من جهة أخرى. التجارب العربية تدل على أن التعامل مع هذه المسألة مجرد قرار إداري أو سياسي, لا يؤدي إلا إلى المزيد من تدني مستوى التعليم وإضعافه.

          لقد آن الأوان لمؤسساتنا التعليمية والجامعية منها بالذات, أن تسعى لتعليم عال له وظائف محددة المعالم, واضحة الأهداف, تمكنها من مواجهة تحديات العصر, عبر إعداد الفرد القادر على المساهمة الفعالة في شتى الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, لتأخذ الأمة مكانتها اللائقة في التطور العلمي الحديث, وتستوعب التقنيات, وتصبح مؤهلة لمواكبة التطور السريع في ظل المتغيرات العالمية المذهلة.

          إن عليها أن تسعى لتعليم له رسالة واضحة, وأهداف محددة وإجراءات ونظم سليمة وسياسات قبول ملائمة وبرامج وخطط دراسية فعالة. كما عليها أن توفر مرافق وتجهيزات كافية وهيئات تدريس كفؤة وطرق وتقنيات تدريسية متطورة, دون إسقاط لوعيها الدائم بخصائص الواقع الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة. وأن يتم التركيز على تحقيق نتائج واضحة للعملية التعليمية بكل أبعادها من إعداد جيد ومهارات متطورة للخريجين والدارسين وتنمية للإبداع, وبث للحيوية في المناخ الفكري والثقافي, إلى جانب تعزيز قنوات الاتصال والتفاعل البناء مع جهات العمل ورجال الأعمال وتلبية احتياجات سوق العمل وتقديم الاستشارات والخدمات المناسبة.

          إن الربط الوثيق بين برامج وأنشطة التعليم الجامعي وسوق العمل والإنتاج وميادين الحياة العملية أمر لا بد منه في ضوء الوظيفة الأساسية للتعليم الجامعي اليوم, وهي إعداد الكوادر البشرية رفيعة المستويات العلمية والثقافية والتدريبية لاقتحام ميادين التنمية في كل المجالات. فالتحديث والتطوير في التعليم العالي من خلال التكنولوجيات المتقدمة, يؤدي بالضرورة إلى تغييرات اجتماعية واقتصادية وثقافية كبرى, من أبرزها تغيّر طبيعة المهن, والاتجاهات الاجتماعية المتعلقة بها والمترافقة معها, والمشاركة في خلق جيل عربي جديد يعتمد على العقلانية في التفكير ويتبنى الثورة المعلوماتية كأساس للنهوض بالمجتمع.

 

أمين محمود   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات