الهوية وثقافة العولمة

 الهوية وثقافة العولمة
        

البحث في الهوية لم يعد ترفًا فكريًا أو نظريًا, ولكن التطورات المتسارعة أصبحت تمثل تحديًا حقيقيًا لشعوب عدة, خصوصًا مجتمعات العالم الثالث.

          ازدادت حدة الاهتمام بموضوع الهوية منذ العقد الأخير من القرن الماضي بطريقة غير مسبوقة. فلا يختلف اثنان على أن هذا الموضوع أصبح يفرض نفسه فرضًا على واقع العديد من المجتمعات. فمع الانفتاح الكبير بين الشعوب وتطور وسائل الاتصالات, ونقل المعلومة, والتوسع الاقتصادي الكبير للشركات الغربية, على وجه الخصوص, في كل أنحاء المعمورة, دشّن العالم مرحلة جديدة تزامن الاهتمام بها وإشباعها بحثًا مع  تناول موضوع الهوية ألا وهي مرحلة العولمة, تلك الظاهرة التي لاتزال آخذة بالتبلور, وإن اتضحت بعض الجوانب منها, إلا أنها لم تأخذ مداها الكامل بعد.

          فمع الحديث عن العولمة, وانتشار بعض مظاهرها في العالم, انتشرت معها ثقافة جديدة أثرت في شعوب الكثير من الدول, خصوصًا الأجيال الجديدة التي باتت تتأثر إيجابيًا, وبشكل سريع مع هذه المؤثرات الثقافية, فأصبح الفارق بينها وبين الأجيال التي سبقتها واضحًا للعيان, خصوصًا من حيث المفاهيم والسلوك والتطلعات والعلاقات التي تربط الأفراد ببعضهم بعضًا, وإلى آخره من أمور...وفي هذه المقالة, سنسلط الضوء على هذه الثقافة ومصادرها, والأسباب التي دفعت بها لتتبلور بصيغتها الحالية, ومن ثم سرعة انتشارها الكبير في بقاع شتى من العالم.

          قبل الحديث عن الجوانب التي ظهرت من خلالها الثقافة الاستهلاكية, لابد في البدء من الإشارة إلى نقطتين مهمتين, الأولى هي: هل هذه الثقافة تشكّل ثقافة حقيقية بمعناها التقليدي? أي هل هناك قيم لها أصالتها تعكس روح المجموع بين أفراد المجتمع, ومن ثم هويته? وهل تعكس نفسها بفنون وإبداعات ذات مستوى مميز ورصين? والإجابة عن تلك التساؤلات بالنفي. فالثقافة الاستهلاكية ليست ثقافة تحمل مظاهر ثقافات الشعوب التقليدية من قيم واعتقادات وفنون, بل تعني بالدرجة الأولى بالجوانب الغريزية بالإنسان, وبالمظاهر والكماليات الشكلية التي تحدد قيمة الإنسان بمقدار ما يقتنيه من أشياء مادية أو مال, وحوّلت جميع مظاهر الثقافة, وأبرزها الفنون إلى سلعة تجارية. أما النقطة الثانية, وهي استكمال لما سبقها, فهذه الثقافة لا تمثل بعدًا أيديولوجيًا, أي أنها ليست أيديولوجيا أو فكرًا له رؤية للحياة, وقيم واعتقادات روحية يتوحد عليها الناس. فالناس غالبًا ما تتوحد بناء على الاعتقاد أو الدين أو الأيديولوجيا أو الأفكار العامة, وهذه الأمور لا تتوافر في هذه الثقافة. وعلى الرغم من أن ذلك يمثل جانبًا سلبيًا, فإنه ساهم في انتشارها بشكل كبير, فيما أنها لا تعتمد على معتقد فكري أو أيديولوجي يحل محل اعتقادات الشعوب, خصوصًا شعوب العالم الثالث, مما قد ينتج عنه تصادم بين معتقدات الأفراد واعتقادات قادمة من الخارج, استطاعت أن تخترق قيمها الاستهلاكية مختلف شرائح وفئات المجتمع بغض النظر عن انتماءاتها العقائدية والفكرية والسياسية.

الثقافة الاستهلاكية

          الاستهلاك كما هو معروف جزء أساسي من حياة الأفراد في أي بقعة كانت في العالم, فإشباع الحاجات الضرورية للإنسان, يقف كأبرز أولويات متطلبات الحياة منذ التجمّعات البشرية الأولى وإلى اليوم. لكن الشيء المميز في المراحل التي مر بها الإنسان منذ القدم, وإلى عهد قصير أن تلازم إشباع هذه الحاجيات مع ثقافة كان لها قيمها ومظاهرها الروحية أو الفكرية, والتي ميّزت شعوبًا عن أخرى, وكان لهذه الأمور دور في تطوير وسائل الإنتاج والنظم السياسية والاجتماعية, التي شهدها العالم, خصوصًا الغربي منذ عصر النهضة الأوربية, التي أرست خلال القرون الماضية شكل النظام السياسي والحقوقي, الذي جاء معه, وطال الجوانب الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية للأفراد. وقد ظلت أوربا إلى عهد قريب مصدرًا مهمًا للثقافة العقلية, والإنسانية التنويرية, التي انتشرت في أنحاء كثيرة من المعمورة, وساهمت في تطوير الكثير من مجتمعات العالم الثالث, وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة. أما اليوم, فنحن أمام ثقافة استهلاكية جديدة مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية. وهي نتاج لمجتمع جديد توافدت إليه جاليات من مختلف دول العالم تمثل ثقافات وهويات مختلفة منذ أن بدأ يتكون بشكله المؤسسي لفترة تقارب من ثلاثة قرون. هذا التكوين الهجيني فرض العديد من المتطلبات الثقافية من أجل دمج أو صهر هذه الجاليات أو المجاميع العرقية المختلفة ضمن مجتمع جديد, وخلق التجانس بينها من أجل استقراره, ومن ثم تطويره. وفي هذا الصدد سيتم استعراض عدد من العوامل التي ساهمت في تركيز المجتمع الأمريكي على نمط هذه الثقافة التي أصبحت بديلاً لثقافة أعراقه المختلفة, الأمر الذي أدى لظهور العملية التي اتسمت بها الفلسفة البراجماتية, التي تبلورت بشكل كبير في الولايات المتحدة الأمريكية.

          وقد قادت إلى نسبية القيم وتبدّلها مع التطورات المختلفة, وكذلك دور العلم التجريبي وتقدمه, وأثره في جوانب مختلفة من ثقافة المجتمع  الأمريكي الذي يمثل مجتمعًا مقتلع الجذور حضاريًا, أي لا امتدادات حضارية سابقة له.

          شكّل تعدد الأعراق والقوميات مشكلة كبرى لدى الأمريكيين الأوائل في كيفية التغلب على هذه المسألة, لأن كثرتها تعني تعدد الثقافات والهويات, وتعني أيضًا إمكان الدخول في صراعات أساسها عرقي وثقافي, ومن ثم سيكون عامل عدم استقرار, وتفكك داخل المجتمع, وقد يقود إلى حروب وصراعات, وهذا ما حدث بالفعل في الحرب الأهلية الأمريكية التي استمرت لسنوات طويلة, وكانت عامل تفكك واستنزاف للطاقات والمقدرات الاقتصادية, وما إن انتهت حتى أخذ المجتمع الأمريكي بالنهوض التدريجي, لكن جاء ذلك على حساب أمور كثيرة أبرزها الجانب الثقافي والمتعلق بهويات تلك الأطراف. فمن أجل الوصول لمجتمع مستقر, ولا يكون فيه للهويات والثقافات القومية المختلفة دور في إعاقته, تم التركيز على الجوانب العملية, وإهمال الأمور النظرية الأخرى, وأبرزها المتعلقة بثقافة وهوية القوميات المختلفة, لأنها كانت مصدر تفرقة وإعاقة لنمو المؤسسات الاقتصادية والسياسية المختلفة, ولن تشكّل عامل توحّد أو انصهار في مجتمع متعدد الأعراق. وكبديل لذلك, وجد الأمريكيون أنفسهم أمام السلوك العملي كمخرج للتغلب على هذه التعددية العرقية والثقافية, وبهذه الطريقة يمكن على الصعيد العملي إذابة الفروقات والاعتقادات, وبناء مجتمع يقدس العمل, ويقدمه على أي أمر آخر, ويجعل من الأمور الثقافية والفكرية والنظرية أمرًا ذاتيًا خاصًا للفرد, ولا علاقة له على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني والحقوقي وغيره.

          وللتدليل على ما سبق, يمكن أن نرى في الجوانب الفلسفية التي قدمها المفكرون والفلاسفة الأمريكيون, والتي تبلورت بالفلسفة البراجماتية انعكاسًا واضحًا لما سبق ذكره. فالفلسفة البراجماتية يقوم أساسها على الفعل, وتتشعب من ذلك موضوعاتها المختلفة والمرتكزة على هذا الأساس, ويرفض فلاسفتها الجوانب النظرية أو الاعتقادات المسلّم بها, أي رفض أي مسلّمات بديهية (نظرية أو فكرية), بمعنى أنها ترفض المسلمات والثوابت, التي يمكن توارثها بين الأجيال لأي مجتمع أو قومية معينة. وتحول الاعتقاد من جوانب نظرية إلى عملية, بمعنى أن صحة أي فكرة أو فرض أو اعتقاد معين, يتحقق من خلال السلوك العملي, فإذا أمكن تحقيقه عمليًا في الواقع, كان هذا الاعتقاد صحيحًا, وإذا لم يتحقق فهو باطل, بمعنى أن الحقيقة لم تعد تنتمي إلى ثوابت فكرية أو مسلمات معينة, بل أصبحت ترتبط بالسلوك العملي ففقدت إطلاقها وثباتها, وتحوّلت إلى حقيقة متعينة لها طابعها النسبي والمتغير مع الأحداث.

          إن أبرز الأفكار التي تقوم عليها الفلسفة البراجماتية, تجسّد عن حق طبيعة التحوّلات الثقافية والفكرية التي حدثت في المجتمع الأمريكي من أجل التغلب على مشكلة تعدد القوميات لولادة مجتمع جديد تتجاوز ما قد يحدث من إشكاليات في حال تكريس الهويات, وثقافة الأعراق والقوميات المختلفة. وقد ترتب على ذلك مشكلة تحديد الانتماء الذي غيّب في ظل الواقع العملي الجديد, فالهوية تمثل الإطار أو القالب, الذي يمكن أن ينتمي له, أو يشعر الإنسان أنه ينتمي إليه مع الآخرين من أبناء مجتمعه, أي هي أشبه بالرابطة القيمية والمسلكية والروحية بين أفراد المجتمع ككل, أو شريحة اجتماعية معينة, بحيث يرى الفرد نفسه من خلال المجتمع الذي يشاركه نفس القيم والاعتقادات والسلوك. لقد غاب ذلك الأمر في ظل الواقع الثقافي العملي الجديد, وأصبح المرء بشكل عام ينتمي لمنظومة من القيم الجديدة, ساهم في خلقها الواقع الجغرافي والاقتصادي, فأصبحنا أمام قيم الكاوبوي المغامر, الباحث عن الثراء والمال, الذي يستمد قوته وحماية نفسه بالدرجة الأولى من مسدسه.

غياب الجذور الحضارية

          ومن بين العوامل الأخرى التي دفعت إلى ظهور الثقافة الاستهلاكية الأمريكية غياب الجذور الحضارية للمجتمع الأمريكي من جانب والاعتماد على العلم التجريبي من جانب آخر. فبالنسبة لغياب الجذور الحضارية, لا يمثل المجتمع الأمريكي الهجين تطورًا حضاريًا متصلاً أو بالأحرى لا توجد حضارة بالمعنى الحقيقي وخاصة في المجتمع الأمريكي نفسه, وإذا كانت هناك حضارة فهي للسكان الأصليين, وهم الهنود الحمر الذين واجهوا أصنافًا عديدة من الإبادة على فترات مختلفة منذ أن تم اكتشاف الأمريكتين من قبل الأوربيين, وأدت في النهاية لضمور ثقافتهم وتاريخهم الحضاري. وبالمقارنة مع أوربا سنجد بأنها تطورت حضاريًا منذ الحضارات أو التجمعات السكانية القديمة فيها, وقد كانت الحضارة اليونانية أبرز حضارة ذات بعد إنساني تبلورت فيها الكثير من القضايا المتعلقة بالإنسان والوجود في العالم القديم. وجذور الحضارة الأوربية الحديثة تمتد من عند اليونان, مرورًا بالعصور الوسطى وعصر النهضة, ومن ثم عصر التنوير الذي شهد مولد التفكير العقلي المؤسس على العلم والتفكير العقلاني والنزعة الإنسانية, ولاشك أن هذا التطور, خصوصًا العلمي, تزامنت معه التحولات التي ظهرت في بنية النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي, وظهور الحقوق المدنية وغيرها من المظاهر الأخرى التي تشكل الكثير من مظاهر الحياة المعاصرة امتدادًا لها.

          أما بالنسبة للتطور العلمي الذي سار في خطى ثابتة في أمريكا, فقد كانت القارة الأمريكية أرضًا بكرًا وخصبة للمغامرة والاستكشاف الذي غلب عليه الطابع العلمي وأرضًا لاستقطاب المهاجرين, وعليه بدأت حركة لهجرة العلماء من مختلف بقاع العالم, خصوصًا من أوربا الحبلى بالأحداث والصراعات السياسية والعسكرية وعدم الاستقرار, ومن ثم تبعتها هجرة المثقفين والفلاسفة والمفكرين من شتى فروع المعرفة الإنسانية, وقد كان للتقدم العلمي التجريبي وازدهاره والتطور التكنولوجي الذي نتج عنه أخيرًا أثر كبير على العقلية والثقافة الأمريكية الدارجة. فالعلم التجريبي يبحث عن الأمور المادية ولا يتعلق مبحثه ونتائجه وقوانينه بما هو قيمي أو معنوي, وكان لهذا عظيم الأثر على طريقة التفكير التي دعمتها الروح البراجماتية, من حيث رفضها للاعتقادات القائمة على المسلمات والبديهيات, التي لم تضع عائقًا فكريًا أو أيديولوجيًا في وجه التطورات العلمية والتكنولوجية التي جاءت بأدوات يستخدمها المرء في حياته اليومية, أثرت بشكل غير مسبوق على طريقة حياة الفرد وعقليته وممارساته. ونظرًا للتطور غير المحدود للعلم والصناعة والتكنولوجيا, أصبح مسلك الإنسان وحياته كلها معتمدة عليه, بل ومتأثرة باستمرار بما ينتجه من أدوات وآلات تستخدم في حياة المجتمع العملية, فأصبح تأثير العلم على العقلية السائدة في المجتمع الأمريكي كبيرًا, ويعزز من مادية وواقعية التفكير, وصار مسلك الإنسان يعتمد على ما ينتجه العلم, وهذا بلا شك يترك آثارًا على تفكير الإنسان وحياته وقيمه. وقد عزز ذلك بالدفع في الثقافة الاستهلاكية القائمة على اقتناء المنتجات الصناعية والتكنولوجية, وأصبحت قيمة الإنسان أو الآخرين تحدد من خلال ما يتم اقتناؤه من أشياء.

          شكلت العوامل السابقة أساسًا لظهور الثقافة الاستهلاكية بشتى مظاهرها وممارساتها في الولايات المتحدة الأمريكية, والتي أخذت تشق طريقها أخيرًا إلى بقاع مختلفة من المعمورة. لكن تقتضي الموضوعية القول, إنه في مقابل الجوانب السلبية التي جاءت بها هذه العوامل تجاه مفهوم الهوية أو الثقافة ذات الأبعاد الإنسانية بقيمها واعتقاداتها. فقد ساهمت في بناء أقوى دولة في عالم اليوم الذي باتت تتزعمه, إذ تخلص الأمريكيون من أوهام العرق وتقيد العقل بمسلمات غير قابلة للجدل, التي يمكن أن تعيق عمل العقل وتطوره, وبنوا دولة يسودها القانون, وأصبحت أكبر دولة تستقطب الموهوبين والعلماء في العالم, من شتى ضروب المعرفة.

أين الهوية?

          ساهمت عوامل عدة في انتشار الثقافة الأمريكية في مختلف أقطار العالم, فالأمر لم يعد يتعلق  بشعوب العالم الثالث, بل هناك قطاع من مختلف الشعوب الأوربية والدول الصناعية الأخرى كاليابان وغيرها, أخذت تتأثر بهذه الثقافة, التي تنشر عبر وسائل الاتصالات المتطورة ونقل المعلومة والشركات الأمريكية المتعددة الجنسيات. فقد لعب اللاقط الهوائي (الستالايت) وشبكة الإنترنت دورًا مهمًا في توصيل الكثير من الجوانب المتعلقة بالثقافة الاستهلاكية, إذ تفتحت ذهنية الأجيال الجديدة على كم كبير من المعلومات المرئية والمقروءة, والتي تعكس في أغلبها جوانب مختلفة من الثقافة الأمريكية على وجه الخصوص, بحيث غابت عنها أي مفاهيم ثقافية ذات أبعاد فكرية وإنسانية, وتسيدت فيها مادة تحتوي على أنماط مختلفة من الاستهلاك, وتخاطب الغرائز الإنسانية, فنرى طغيان القيم الاستهلاكية والشكليات والكماليات والمظاهر والخواء الداخلي والفكري لدى الكثيرين ممن يتأثرون بهذه الثقافة التي شيّأت الإنسان وجعلته أسيرًا لغرائزه, وازدادت ظواهر العنف التي تتضمنها هذه الثقافة بين أبناء شعوب العالم الثالث, وأصبحت تشكل ظاهرة عالمية. في مقابل ذلك نرى تراجعًا كبيرًا في الثقافات التقليدية لتلك الشعوب, والتلاشي التدريجي لهوياتها وخضوعها للمؤثرات الخارجية الثقافية. وقد عزز هذا الأمر الانتشار الاقتصادي الكبير للشركات متعددة الجنسية, التي هي في أغلبها أمريكية, حيث أخذ يعمل الكثير منها هي في عدد من دول العالم الثالث عبر فتح المصانع والمصالح والشركات التجارية والبنوك وغيرها. فعلى الرغم من وجود جانب إيجابي في هذه المسألة, والمتعلق بنقل العلوم والتكنولوجيا وأساليب الإدارة الحديثة, فإن هناك جوانب سلبية أبرزها نشر جوانب من الثقافة القادمة من الخارج على حساب ثقافة وهويات شعوب دول العالم الثالث,. فهناك الكثير من الشركات التي تحرص على خلق نوع من القبول الثقافي لها ولإنتاجها, وما يهمها بالدرجة الأولى تسويق منتجاتها لهذه الشعوب, وهذا يعني الدفع بجوانب عدة من الثقافة الاستهلاكية التي تساعد على تسويق مصنوعاتها, وتحويل هذه الدول إلى أسواق تنشر من خلالها القيم الثقافية التجارية والاستهلاكية.

          ومن جانب آخر ونظرًا لقوة الولايات المتحدة الأمريكية السياسية والاقتصادية وقيادتها للعالم, أصبحت الدولة النموذج التي يتطلع لها الكثير خصوصًا من أبناء العالم الثالث لمحاكاته ونقله إلى بلدانهم, لدرجة أصبحت مقولة الحلم الأمريكي (The American Dream) تستحوذ على عقولهم, فهناك الكثيرون ممن يرغبون بالهجرة والعمل فيها, بل والحصول على جنسيتها, وآخرون يرغبون في محاكاة نموذجها الثقافي. ومع الأسف فإن ما تحاكيه الأغلبية هو أسوأ ما في ثقافتها من فنون ومظاهر مبتذلة وقيم استهلاكية, لأنها أسرع في التقليد, بينما يغيب عن هؤلاء أبرز العوامل التي ساهمت في تقدمها من تفكير علمي وتعليم عال وتطور صناعي وتكنولوجي وأساليب إدارة معاصرة وغيرها.

          ولعل أسوأ ما نراه عند من يحاكون هذا النموذج, قضية لها حضورها بينهم والتي تعكس بالفعل ما حدث في المجتمع الأمريكي سابقًا ألا وهي قضية الانتماء.

          فعندما بحث الأمريكيون عن وسيلة توحدهم الأعراق والقوميات والثقافات المختلفة التي تكون مجتمعهم رأوا ضرورة التخلي عن انتماءاتهم السابقة وخلق واقع جديد يعتمد على الممارسة العملية أساسًا, واستبعاد الجوانب النظرية التي يمكن أن تكون عامل تفرقة بينهم. فما يفتقر إليه الجيل الجديد في العديد من مجتمعات العالم الثالث هو الانتماء, فهم لا ينتمون إلى ثقافتهم وهويتهم التقليدية ولا يعيشون في مجتمات تحمل الثقافة الغربية الحالية ويستطيعون ممارسة طقوس وسلوك تلك الثقافة, فهم أقرب إلى العيش في حالة من الاغتراب والازدواجية. وعدم الانتماء يجعلهم يعيشون في حالة هي أشبه بالضياع وغياب أي رؤى اجتماعية توحدهم على قيم وأهداف مشتركة, بل على العكس من ذلك, فالثقافة الاستهلاكية تعزز الجوانب الفردية والذاتية والتي قد تصل إلى الأنانية وتقود صاحبها لتقديم اهتماماته الشخصية على أي اعتبارات تتعلق بالجماعة أو المجتمع. ولا يقابل ذلك محاولات جادة في كثير من دول العالم الثالث بالعمل على إيجاد جوانب نظرية وقيمية متطورة لتطوير مفاهيمها وثقافاتها بشكل يواكب التطور, الذي يسير بوتيرة سريعة, بحيث تحافظ على جوانب عدة من هويتها ومعتقداتها بما تضمه من قيم وممارسات وإرث ثقافي, خصوصًا العقلاني والإنساني منه.

          في الختام لا بد من الإشارة إلى أمرين مهمين. الأول:

          أن ما جاء في هذه المقالة هو محاولة تحليل للأسس والجذور التي قامت عليها جوانب من ثقافة العولمة الحالية, في ظل عالم تقوده الولايات المتحدة الأمريكية سياسيًا واقتصاديًا وليس نقدًا سلبيًا لها, وإن كان لنا وجهات تعترض على جوانب كثيرة منها, كما أنها لا تحلل هذه الثقافة من زاوية سياسية. أما الأمر الثاني فهو الكيفية التي يمكن أن نتعامل بها مع هذه الثقافة, ومظاهر مختلفة من الثقافات الأخرى بعد تحول العولمة التدريجي إلى أمر واقع. فهناك حتى الآن رؤيتان مختلفتان بشأن التعامل مع ما يحدث في العالم من تطورات وكلاهما خاطئ, الأولى ترفض بشكل تام, أي شكل من أشكال التعامل مع هذه الثقافة وحتى ثقافات أخرى قد يكون لها طابعها المميز, وتدعو إلى الانغلاق والتقوقع والانكماش الذاتي, والثانية التي تقلد النموذج الثقافي الغربي الحالي بحذافيره وتلغي هويتها وتراثها وقيمها بشكل تام, وكأنها ظاهرة مقتلعة الجذور في مجتمعاتها, وتعيش في حالة فصام معها. لا يمكن التعامل مع ثقافة العولمة من هاتين الرؤيتين, بل يجب التعامل معها من منظور عقلاني نقدي, وهذا يتطلب النظر للولايات المتحدة الأمريكية لا على أنها كتلة متكاملة من الشر أو الغطرسة السياسية, بل يجب التمييز بين ما يصدر عنها من أفعال وممارسات سياسية, وبين دراسة العوامل التي ساهمت في بروز هذا المجتمع الهجيني خلال فترة وجيزة وتسيّده العالم وقيادته علميًا وثقافيًا. فهناك من الأمور ما يمكن أن يصلح لنا ويطور أساليب الحياة والإنتاج في مجتمعاتنا, والمطلوب الأخذ بها وتطبيقها على واقعنا. وهي الأمور الجوهرية التي حققت العدالة والتقدم, منها استقلالية القضاء وسيادة القانون على الجميع, والأخذ بالعلم والتفكير العلمي والأساليب التربوية الحديثة, والحرص على التقدم الصناعي والعلمي إلى آخره من الأمور التي ساهمت في تقدم المجتمع الأمريكي وتطوره. وفي المقابل, يتم البحث في موضوع الهوية العربية والمحلية بشكل نقدي وجريء ليستوعب التغييرات التي تحدث في مجتمعاتنا, والعمل على المحافظة على الأوجه الإنسانية والحضارية في هويتنا وثقافتنا.

 

عبدالله الجسمي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات