من أسرار السياسة واللغة

من أسرار السياسة واللغة
        

          كانت اللغات الرسمية المعتمدة في المنظمات الدولية, هي الإنجليزية والفرنسية والروسية والصينية والإسبانية, وفي مطلع عام 1974, أضيفت إليها اللغة العربية, فأصبحت اللغات المتداولة رسميًا ست لغات, وهذا يعني أن اللغة العربية قد اتسع حضورها وانفسح إشعاعها.

          إن المسألة تعنينا هنا في سياقها الثقافي الإنساني, فالتحاق العربية برتل اللغات المعتمدة رسميًا يسبغ عليها سمة العالمية, ومن ثم يعيد إليها بعض الإنصاف التاريخي بعد حيف طويل سببته حقبة الاستعمار. ولكن القراءة الحصيفة للأحداث هي التي تقرن الثقافي بالسياسي, وجليّ هنا أن مساعي العرب إلى إدخال اللغة العربية, لم يكن لها أن تؤتي ثمارها - وقد طالت - إلا بفضل الزخم السياسي, الذي ارتقى بهم إلى منزلة عليا بفضل ما حققوه سنة 1973: من الناحية العسكرية أولاً, ثم من الناحية الاقتصادية على مستوى الطاقة عالميًا, وأخيرًا من حيث حسن إدارة الموقف الدولي, وبراعة توظيف كل الجوانب في مصبّ واحد, ولئن مثلت تلك الفترة لحظة رائعة تجلى فيها اتحاد الكلمة العربية, فإن الذي صنع جمالها هو التآزر الفعّال بين جمهورية مصر والمملكة العربية السعودية, إذ برزتا كقوتين نافذتين في القرار العربي وفي إدارة الشأن الدولي.

أين غصن الزيتون?

          علينا أن نسلم الآن بأن الذي جاء باللغة العربية إلى المنتظم الأممي, وكل المحافل الدولية هو الانتصار السياسي, الذي يغير معادلة التوازن بين الدول, وهذا من البديهيات, ومن شك فيه أو رام دليلاً آخر, فلنذكره بأن ذلك الوزن الجديد, الذي اكتسبه العرب هو الذي أثنى الإدارة الدولية, فلم ينته عام 1974 حتى استضافت الأمم المتحدة ياسر عرفات لتصغي إليه يومها لأول مرة, وذلك بتاريخ 13 نوفمبر 1974, فتحدث إلى العالم بلغة الضاد, وأسمع العالم كيف يتغنى السياسي بإيقاع اللغة الشعرية النابضة:

          (جئتكم وغصن الزيتون في يدي....)

          ليس من صراع سياسي إلا ووراءه صراع اقتصادي, وليس من صراع اقتصادي إلا وخلفه منازعات ثقافية ولغوية.

          وهناك - في العمل الدولي المشترك - نواميس ضابطة يؤسسها نص المواثيق, ويتداولها القائمون والمشرفون وصنّاع القرار, ويتماحك بها ذوو المصالح المتفاوتة, أو المتضاربة. وهناك أعراف تتخذ لنفسها بمرور الأيام سلطة تكاد تضارع سلطة المواثيق المثبتة, ولا يستنكف منها أحد, ولا يتبرّم طرف بذكرها, أو بالتفاوض حولها, كأعراف التداول على المناصب والخطط بحسب التوزّع الجغرافي, وهذه سنن إذا ضاق المجال عنها لم يتردد أولو الشأن في تجاوزها أو اختراقها, فما هي - في نهاية المطاف - إلا أعراف قد تتواتر وقد لا تطرد.

          ولكن في العمل الدولي المشترك أعرافًا أخرى يتم الاصطلاح عليها والتواضع حولها في ضرب من العقد الضمني بين الأطراف الماسكين بالقرار, ولا أحد يتحدث بها باسم المواثيق, ولا أحد يتخذها مرجعًا من مراجع العمل الدولي المشترك, وكل ما فيها هو سلطة العرف خارج حدود النص. غير أن هذه الأعراف كثيرًا ما تكتسب سطوة فائقة حتى تغدو اقتناعًا جماعيًا بالرغم من منافاتها لمبدأ المماثلة المطلقة بين كل شركاء العمل الدولي المشترك.

أعراف السلطة

          وتأتي مسألة اللغة في طليعة هذه الأعراف ذات السلطة العليا, والتي يتكتم عليها الأطراف فيدرجونها ضمن المسكوت عنه, فمن لم يستبصر بها عن استشعار دقيق ضلت به السبل, وقد تنزلق المسالك تحت الأقدام من حوله. ومما هو متعارف عليه في هذا الباب - على سبيل التمثيل وعلى سبيل الاستدلال في الوقت نفسه - أن الذي يتولى منصب الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة (لابد) أن يكون مجيدًا للغة الإنجليزية وللغة الفرنسية في الوقت نفسه, وبالكفاءة التداولية نفسها على الأقل, إن تعذّر أن يكون بالكفاءة البلاغية نفسها, فلو أن واحدًا منا قد احتكم إلى مواثيق الإنصاف المطلق, لكان من حقه أن يفترض بأن الذي يتولى منصبًا قياديًا في أي عمل دولي مشترك, يجب ألا يشترط في حقه إلا إتقانه لإحدى اللغات الرسمية الست, حتى ولو كانت واحدة بمفردها. غير أن للأعراف سلطة تفوق سلطة المنطق الخالص, وتفوق سلطة الحكمة المجرّدة.

          فإذا جئنا إلى منظمة العمل الثقافي الدولي المشترك (اليونسكو), وجدناها تقتدي بهدي المنظمة الأم, وتزيد عليها بعض التدقيقات الخفية ضمن دائرة المحجوب والمستور والمسكوت عنه. وبديهي أن تكون السلطة الخفية للجانب اللغوي أقوى في مجال التربية والثقافة والعلوم, مما هي عليه في حقل السياسة. وهنا ينبري أقنوم اللغة كأقوى ما تكون الأقانيم في المجال الدولي, فليس واردًا أن يتولى إدارة اليونسكو مَن لا يحذق الفرنسية أولاً, والإنجليزية تاليًا, ولا يتردد الفرنسيون في التذكير بأنهم متمسكون بأن يتقن المترشحون اللغة الفرنسية لإدارة هذه المنظمة (الدولية) التي تتخذ باريس مقرًا لها, وكم يلذ لهم أن يعيدوا هذا التذكير إبان كل حملة انتخابية, سواء على لسان مسئوليهم أو على لسان رجال الإعلام, وكل قارئ لما وراء الأحداث يستشف تنامي هذا الإحساس الفرنسي, ويستشعر تزايد إصرارهم عليه منذ ملحمة (الاستثناء الثقافي) في معركة (الجات).

          ليس هنا مجال الإطناب في أهمية العنصر اللغوي, من حيث النفوذ الأدبي, ومن حيث الاستثمار المادي, ولكن سرًا من الأسرار التي تفسر الترتيب الدولي في هذا المجال هو أن الفرنسيين - وقد رأيناهم, وخبرناهم, وماحكناهم بلغتهم, ففهمناهم من مواقع متعددة - لا يريدون أن يتحدثوا في بعض (الخيارات) التي يعتبرونها مصيرية بالنسبة إليهم, إلا بلغتهم, بالرغم من إتقانهم للغات الأخرى, ثمّ إنهم مع ذلك غير مستعدين بأن يتحاوروا في هذه (الخيارات) عن طريق وسيط يترجم لهم أو يترجم عنهم.

الفرنسيون يخسرون

          ومن تلك المفاتيح التفسيرية الخفية, أن الفرنسيين قد فقدوا زمام المبادرة في الشأن الدولي الكبير, وتأكدوا أن النظام الدولي الجديد بكل جحافله, من عولمة اقتصادية ونسقية أنجلوسكسونية, قد يجرفهم نحو زمرة المقامرين الخاسرين, وبحكم كل ذلك, لاذوا ببعض الفتات الثقافي على المائدة الكونية, وهم الآن يتمسكون في إصرار عجيب بالفرنكوفونية, كما لو أنها بديل في عصر البدائل منذ غاب الصراع الأيديولوجي المألوف. ومن هذا الباب, قد يفتح الباحث نفقًا قصيًا يجوس من خلاله إلى التوظيف الثقافي المسكوت عنه, وذلك بكشف التعالق المضمر بين تصوّر الفرنسيين لوظيفة اليونسكو, وتصوّرهم لوظائف منظمة الأقطار الناطقة كليًا أو جزئيًا بالفرنسية.

          ولكن الفرنسيين يحذقون لعبة الملاطفة, ويجنحون إلى الهدف الإستراتيجي, وإن كان على حساب الكسب التكتيكي, ولذلك لا يفتئون يذكّرون بأن المترشح لمنصب الأمانة العامة, لابد - في نظرهم - أن يكون متقنًا للغتي التداول - حسب عبارتهم - قاصدين بذلك الفرنسية والإنجليزية, والحقيقة أنهم يفضلون الفصيح بلسانهم على الفصيح بلسان غيرهم, ولاشك أنهم كانوا أكثر سعادة ببلاغة أحمد مختار مبو من ترحابهم بلكنة فريدريك مايور.

          فأين اللغة العربية من هذا الصراع الذي هو كصراع القمم?

          مضت فترة الزخم, فأصبحنا نسمع نغمات جديدة: عند كل ضائقة مالية تمر بها منظمة الأمم المتحدة, تعلو نداءات التقشف والضغط على الإنفاق, فتوشوش أصوات هامسة بالكلفة العالية التي سببها دخول اللغة العربية, أو غامزة بأن المترجمين المهرة بين لغة الضاد, ولغتين أخريين على الأقل نادرون, وتتكفل المجموعة العربية بتغطية الفائض من النفقات.

          إن الرصد الثقافي اليوم مهمة متحتمة على كل مفكّر ملتزم برسالته الحضارية: من أي منهل اغترف, وفي أي جدول أنزلته أقداره المعرفية, والمثقف العربي مسئول في هذا الزمن التاريخي بأضعاف ما كانت عليه مسئوليته أيام تحرير الأوطان, وأيام تشييد المؤسسة القطرية, وأيام التهاب الحميّات المذهبية.

خطاب الثقافة

          إن دخول مرحلة الحوار الثقافي بالنسبة إلينا - نحن حفدة العرب وورثة القيم - لا يبلغ سناه الأجدى, ولا تستصفى ثمراته أو تُستساغ أشارطه إلا متى ولجناه من الباب الكبير: باب الوعي بتناقضاته التي هي من تناقضات المصالح بين الأمم, وباب الوعي بالمسافة الفارقة بين خطاب الثقافة, وهي غاية في ذاتها, وخطاب الثقافة, وهي وسيلة تستدرّ بها المنافع السياسية, وتقيّد على (فواتيرها) ضريبة التقنيات وديون الاقتصاد. فإن لم يكن لكل ما أسلفناه من فائدة إلا أنه ييسّر لنا التمييز بين (حوار الثقافات) حين يتخذ خطابًا للهيمنة الثقافية عبر مسارب الاختراق, وبين مبدأ (حوار الثقافات) حين يكون بحق خطابًا للسّلم الثقافي, فيما بين الإنسان وأخيه الإنسان, فإن لنا فيه لخيرًا كبيرًا.

          إن التمسّك بحوار الثقافات, والسعي إلى إرسائه على قواعد النديّة لمطمح نبيل, والذي يزيده نبلاً وشرفًا, ويجعله مثالاً يقتدى به, أن العرب يرفعون شعاره من موقع العزة الحضارية, التي تمكّنهم من كل مقوّمات الهوية الثقافية المتميزة. وهل من أمة أولى من أمة العرب, بأن تعلن لواء المساواة الثقافية والموضوعية الفكرية والإيثار المعرفي?!, وقد أشهدوا التاريخ على فعلهم حين شيّدوا حضارة كانوا فيها على مدى القرون سادة القول, وبلغوا فيها سنم الريادة, ولم يجنحوا خلالها في يوم من الأيام إلى الإقصاء, من أي نمط كان: لا الإقصاء العرقي ولا الإقصاء المعرفي!. ويكفي أن بينهم روّادًا تألقوا على سنم الفكر الموضوعي برؤية إنسانية جامعة, وكان فيهم من صور من الحقائق الدائمة ما يحضّنا على استذكار أقواله:

          (إن اللغة يسقط أكثرها, ويبطل بسقوط دولة أهلها, ودخول غيرهم عليها, فإنما يقيد لغة الأمة قوة دولتها, وأما من تلفت دولتهم, وغلب عليهم عدوّهم, واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم, فمضمون منهم موت الخواطر, وربما كان ذلك سببًا لذهاب لغتهم, وهذا موجود بالمشاهدة, ومعلوم بالعقل والضرورة).

          هي حقائق دوّنها باقتضاب ابن حزم الأندلسي (384-456هـ), وسيستأنفها ابن خلدون  (732-808) باستفاضة باهرة, وبعقلانية تحرج كل العرب المعاصرين: من المثقفين صنّاع الأفكار, إلى السياسيين صنّاع القرار.

 

عبدالسلام المسدي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات