الصمت .. رسالة إنصات للوجود
الصمت .. رسالة إنصات للوجود
ما أشد حاجة الإنسان المعاصر الذي يعيش في عالم مليء بالضوضاء إلى الصمت والسكون, لعله ينصت إلى صوته الداخلي العميق, وتهدأ روحه قليلاً. شاع استخدام كلمة (الصمت) في الفكر المعاصر وفي النقد الأدبي والفني, في التعبير عن المسكوت عنه في النص أو العمل الفني, أو ما قد يشير إليه النص بطرف خفي من خلال بلاغة جديدة مقابلة للبلاغة التقليدية التي يعرفها العسكري في كتابه الصناعتين: بأن البلاغة هي (إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ), فالبلاغة إبلاغ ناطق, والصمت قد يصبح في النص علامة يوازي النطق بها, فيصمت الكاتب أو الشاعر عنها ليلفت الانتباه إلى حضور مدلولها, ولذلك فإن البلاغة عند ابن المقفع قد تكون في السكوت والإشارة للمعنى, وهذا يذكرنا بالبيت القديم:
وهذا يعني أن دلالات الصمت مرتبطة بالسياقات التي توجد فيها, سواء كانت هذه السياقات نصية أو اجتماعية أو سياسية أو عقائدية. معنى الصمت وحين يصمت الإنسان يصغي للكون, ويشتد حضور الكائنات في وجدان الإنسان بل ويشتد حضور الإنسان أيضًا, وهو ليس حضور صورة الذات التي تنخرط في أفعال قد لا تعبر عنها, لكنه حضور الذات العميقة في العالم, ويقترب الإنسان في تجربة الصمت من المقدس, ولذلك يقترن الصمت بالتجربة الدينية بشكل عام, ويقترن أيضًا بالتجربة الجمالية في الفن أيضًا. ولذلك عبر تجربة الصمت والسكون تبدأ نسك الدين وتتفجر كلمات الشعر والموسيقى وتظهر الأعمال الفنية, فالصمت هو الينبوع لكل الأعمال التي تعبر عن وحدة الذات التي تعبر عن ذروة روحية, أو قمة التواصل مع الغير, حين يصير الصمت رسالة عميقة لمشاعر لا يمكن التعبير عنها بالكلمات, لأن الشعور بالصمت والسكون لا يكون عميقًا إلا حين يكون هناك توافق تام بين الجسم والعقل والروح, لأنه نتيجة لتلك الحالة من السلام الداخلي التي لا تقوم على نفي هموم الشخص بل استيعابها ضمن كلية الحياة, وهذا المستوى من الوجود لا يبلغه الشخص بسهولة, وإنما يحتاج إلى قدر كبير من التأمل والتدريب على فن الحياة. وما شيوع دروس تعلم الاسترخاء وتمارين التنفس وممارسة التأمل إلا تدريب على الصمت والسكون والإنصات للعالم. والصمت هنا ليس صمت الحواس فقط وإنما الصمت عن التفكير فيما يدفعنا الآخرون للتفكير فيه, فكل حاسة لها قدرة على الصمت وقراءة الوجود من خلال المتخيل, فهي تجربة تحررنا من أسر الأشياء التي تمارس حضورها الكثيف علينا, وإفساح المجال لحضور الذات والروح والمعنى, بدلاً من هذا الحضور الضاغط للأشياء الاستهلاكية, والصمت هو حضور للوجود الإنساني وتنقيب عن معناه وقد يكون فيها تصحيح لمسار حياة الإنسان والدخول إلى عالم الصدق والتحقق. أنواع الصمت وإذا مارس الإنسان تجربة الصمت فإنه يدرك أنواع الصمت في الكون, فيفرق بين صمت الليل وصمت الصحراء وصمت الغابة وصمت البحر وسكونه, وإدراك الإنسان لهذه الأنواع المختلفة من الصمت يجعله يشعر بالخشوع والرهبة إزاء عظمة الخالق الذي أبدع كل هذا, ولذلك اهتم علماء الأنثروبولوجيا بطقوس الصمت في المجتمعات البشرية لاسيما تلك البعيدة عن أساليب الحضارة المعاصرة فوجدوا أنها ترتبط بطقس الموت, حيث يجتمعون لوداع الميت في طقس الصمت الذي يتحول إلى تواصل بين الميت والحي, ونجد هذا لدى شعب التاماريا في إفريقيا, والصمت هنا هو طقس, وهو الوعاء الذي يحمي الحقيقة ويخلع عليها هالة من القداسة. والسكون والصمت في الصيد هو صمت ترقب فالصياد يمسك أنفاسه ويبقى بلا حراك وينصت للأصوات التي تصدر عن الغابة ويميز عن طريقها بين زمجرة النمر وخفقة أذني الفيل وحفيف العشب تحت حوافر الظباء, ولذلك فهم أناس قليلو الكلام, وقد لاحظ علماء الأنثروبولوجيا أيضا أن هذه الشعوب تخفض من أصواتها وتخفف من وقع خطواتها عند هبوط الليل, لأن هناك اعتقادًا سائدًا أن أرواح ما تحت الأرض تظهر في الليل على هيئة فراشات بيضاء, تضع أجنحتها على أراضيهم وأشجارهم وصخورهم وكل ما هو أثير لديهم, وهي تكره الضوضاء التي تصدر عن البشر, ولذلك يعود العالم إلى حالته البدائية التي لم تزل جميلة تفيض بالسكون, حين يكون كل ما يتسنى سماعه هو صوت الريح, وهو يمر عبر كل ما يكسو سطح الأرض, فيجعل كل الوجود ينطق بلغات لا حصر لها, ويساهم السكون في سماع ما يتعذر سماعه. والصمت في الحياة اليومية قد يكون الملاذ الأخير في كثير من المواقف التي يمر بها المرء, لأن هناك أشياء لا يمكن للإنسان أن يتكلم عنها, لأنها تؤلمه أشد الألم, وحين يبوح بها ينتج عنها ألم أشد مثل الصمت الذي يلجأ إليه الشخص الذي يقع في قبضة العدو ويتم تعذيبه, لأن الكلام تحت التعذيب يعني التعاون مع العدو, وهذا يعني نفي الذات الإنسانية وسحق كل آمالها في الحرية والحياة. وحين يعيش الإنسان تجربة تتضاءل معها لغة الكلام, يصبح الصمت هو الممكن الإنساني لنقل كثير من المشاعر وما لا يمكن قوله. والفن يستفيد من هذا حيث يجعل الصورة الصامتة في السينما تنقل لنا عوالم كثيرة لا يتيسر نقلها بالكلام, فالمشاهد الصامتة التي تنقلها الكاميرا أبلغ من أي تعبير, ونجد هذه أيضًا في الصورة الشعرية والموسيقى, ولذلك يطلق على الفن تمييزًا عن لغة الكلام أنه تفكير بالصور. ونحن حين نتحدث للآخرين ننقل عشرة في المائة من المعلومات من خلال الكلام والباقي ينتقل للشخص من خلال نغمة الصوت وحركة الجسد ودرجة الانفعال, وكل هذا يثير مستويات أخرى من الفهم لدى البشر, لذلك فإن لغة العيون وحركات اليدين, واختلاجات الوجه تنقل ما لا ينقله الكلام. موسيقى الصمت وفن الموسيقى في جوهره يسعى لاستلهام نغماته من بئر الصمت, لأن البناء الموسيقي للأصوات والنغمات يقوم على تأكيد حضور السكون لكي ننصت للموسيقى, ودون الصمت لا نستطيع أن نتواصل مع الموسيقى التي تخاطب الحياة الداخلية للإنسان, وتصبح أصوات الموسيقى وكأنها صوت الشهيق والزفير لإيقاع الحياة لكل الكائنات, ويساعدنا الصمت في الوصول إلى حال من السمو الروحي فيتحكم الإنسان في حواسه وغرائزه دون أن يكبتها, فيكتم المرء أصواته الداخلية - شهواته الجسدية - لكي يصل إلى أقصى درجة من درجات الإنصات, وتصير قوى الإنصات أكثر حدة وأكثر انتباهًا وحساسية لأقل تغيير في النغمات الموسيقية التي يستمع إليها. وفي هذه اللحظات تصبح معجزة التنفس محسوسة عند أي إنسان, ونتدرب من خلال هذا الاستماع الصوفي للموسيقى التي تصدر من الآلات الموسيقية أو من البحر أو من الغابة على التوافق النغمي مع الكون, ويصبح التنفس (الشهيق والزفير) امتدادًا لإيقاع الكون المتواصل ويصبح الصدى لحركة الروح في العالم. وإذا كان الصمت يرتبط بالتأمل فإنه يرتبط بصورة أشد بالحب, وهو في الأصل تجربة تحرر الذات من همومها الضيقة والانفتاح على كل ما يختلف معها. ودون تجربة الحب لا نرى الآخر أو نستمع إليه, ومن لا يستطيع أن يحب فهو مسجون في أسر ذاته, ومنع عن نفسه بوابات الرحمة, لأن الإنسان حين ينصت للموسيقى أو للآخر بكل حواسه تتحول كل الأصوات إلى ذبذبات وموجات تجعله على صلة مباشرة بالعالم, ويختفي الخوف أو القلق من الموت, لأنه يشعر بالسكون اللانهائي للكون, فيشعر أن كل شيء لا يموت, لكن تختلف نغماته التي يصدرها في كل مرحلة من وجوده, ويشعر الإنسان حين ذاك أن الزمان بمفهومه المادي لا وجود له مثلما أن الموسيقى هي استعارة أو مجاز للزمن والزمن هو مجاز أو إشارة للخلود. ويحل محل الخوف والقلق فرحة غامرة, لأن الإنسان استعاد مكانه في الكون بوصفه جزءا من العالم, وتربطه به علاقة محبة صافية. ويعبر الفنان المعماري في كل عصر عن الصمت بوصفه هو الحياة من خلال الفراغ الذي يستخدمه, ولذلك يقال عن فن العمارة إنها فن الفراغ, حيث يستخدم الفنان الكتلة في خلق فراغات تتيح حرية أكبر للإنسان في علاقته الحيوية بالمكان الذي يعيش فيه, ويمكن تصور الأبنية التي تحيط بنا من كل جانب في المدينة المعاصرة, على أنها ثرثرة سخيفة يهرب منها إلى حكمة الصحراء أو حكمة البحر, حيث لا يجد البصر شيئا, وكلما قل الفراغ في المكان صار يخنق الإنسان حتى لو كان مليئًا بكل ما هو ثمين. والصمت تجربة إنسانية تنصت للوجود ولكل ما يحيط بالإنسان من نبات وحيوان وجماد وإنسان, ولا تعني عدم الكلام, وإنما الصمت هو إفساح الوجود للغات عديدة أخرى تختلف عن لغة الكلام, مثل لغة الإشارة ولغة الجسد, مثل حركة الأصابع واليدين وحركة الرأس وغيرها من اللغات, مثل لغة البانتو مايم (وهي لغة تستعيض عن الكلام بحركات الجسد, وهي اللغة التي اشتقت منها لغة الصم والبكم), ولكن نتحدث هنا عن الصمت الذي يلجأ إليه من لديه القدرة على الكلام والإفصاح عن نفسه, لأنه يجد فيه تعبيرًا بليغًا عما يريد أن ينقله, أو أن ما لديه من تجربة لا تستوعبها الكلمات. وفي بعض المواقف الإنسانية يستعيض الإنسان عن الفعل بالكلام, لذلك فإن الصمت مرتبط بالفعل الحي والمباشر, والكلام هو نوع من أنواع الفعل الإنساني الذي يعتمد على الوجود اللفظي. والصمت قد يكون تعبيرًا سلبيًا عن الوجود ويعبر عن الجهل, وقد يكون تعبيرًا إيجابيًا, ويعبر عن العلم, ويصبح موقفًا مما يحدث حين يجبر الإنسان على الصمت عندما يتساوى الموت مع الكلام, ويصبح له حينذاك دلالة سياسية. الصمت والتصوّف يحتل الصمت مكانة مهمة في التجربة الصوفية في مختلف الديانات, ونجد في التصوّف الإسلامي أن الصمت رياضة روحية تتجاور مع الجوع والعزلة والخلوة والسهر والذكر, وكلها رياضات روحية يراد بها إعداد الباطن وتهيئته لتلقي أنوار المعرفة عن الله, ونجدها بشكل واضح عند ابن سبعين (توفي 669هجري), ومحيي الدين بن عربي (توفي 638 هجري), وقد تناول الصوفية موضوع الصمت ضمن حديثهم عن الزهد, وحفظ اللسان والعزلة, ومعظم ما كتب عن الزهد يبدأ بالصمت بوصفه بوابة الدخول للزهد والورع, ونجد هذا واضحًا في كتاب الإمام أحمد بن حنبل (الزهد), حيث يركز الحديث على الصمت, وكذلك الإمام المحاسبي يجعل من الصمت البداية للزهد في كتابيه: (المسائل في الزهد), و(الوصايا), ولذلك يقول في كتاب المسائل: (ومما يعينه على الابتداء - أي الزاهد - قلة الكلام فيما لا يعنيه وإقباله على ما يعنيه من طول الصمت على الفكرة, ويبين أنه إذا أحكم التفكير, هجم على لطيف الحكمة, وبعدت منه التهمة, وتنبّه من ساعات الغفلة), وهو بهذا يجعل من الصمت مدخلاً للحكمة. يقول الحلاج عن الصمت في قصيدة من بحر الوافر:
ويقول ابن الفارض من بحر الطويل
ويقول الإمام الشافعي من بحر الطويل
ويقول أبو العلاء المعري من بحر الخفيف
وقد تحدث الجاحظ في كتابه (الرسائل) عن الصمت: (وأعلم أن الصمت في موضعه, ربما كان أنفع من الإبلاغ بالمنطق في موضعه, وعند إصابة فرصته, وذاك صمتك عند مَن يعلم أنك لم تصمت عنه عيًا ولا رهبة, فليزدك في الصمت رغبةٌ ما ترى من كثرة فضائح المتكلمين في غير الفرص, وهذر مَن أطلق لسانه بغير حاجة). ويرتبط الصمت بالسكينة, فيقول الله تعالى في وصف الجنة: لا يسمعونَ فيها لغوًا ولا تأثيمًا * إلا قيلاً سلامًا سلامًا . وقد ورد الصمت كأمر إلهي للسيدة مريم في القرآن الكريم, حيث يقول الله جل وعلا: فكلي واشربي وقرّي عينًا فإما ترينَّ من البشرِ أحدًا فقولي إنّي نذرتُ للرحمنِ صومًا فلن أكلّم اليوم إنسيّا . وحينما بشّر الله سبحانه وتعالى زكريا بيحيى أمره أن يكفّ عن الكلام ثلاثة أيام متتالية. قال ربّ اجعل لي آيةً قال آيتُكَ ألاّ تكلّم الناس ثلاثةَ أيامٍ إلا رمزًا واذكر ربّك كثيرًا وسبّح بالعشي والإبكار . قوله تعالى: (إلا رمزًا), الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين, وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين, وأصله الحركة, في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة. وأكبر الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها: (أين الله)?, فأشارت برأسها إلى السماء فقال: (اعتقها فإنها مؤمنة). فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة, الذي يحرز الدم والمال, وتستحق به الجنة, وينجّى به من النار, وحكم بإيمانها, كما يحكم بنطق من يقول ذلك, فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة. وروي عن سيدنا أبي بكر الصديق بيتان من الشعر عن الصمت, وهما من بحر الطويل:
وكان من أكثر الصحابة صمتا حتى أنه كان يضع حصاة في فمه, تجعله يتذكر أن يفكر قبل أن يتكلم. وقد فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الكلام والصمت, حيث قال: رحم الله امرأً قال خيرًا فغنم, أو سكت فسلم . (تحقيق الألباني (حسن). انظر حديث رقم: 3492 في صحيح الجامع). فجعل حظّ السكوت السلامة وحدها, وجعل حظّ القول الجمع بين الغنيمة والسلامة, وقد يسلم مَن لا يغنم, ولا يغنم إلا مَن هتكوا سترًا كان مسدلاً عليهم بالصمت.
|