هل توجد نظرية نقد عربية?

هل توجد نظرية نقد عربية?
        

سؤال ساخن وملحّ, بدأت أطرحه على نفسي منذ أكثر من عقدين من الزمن,
ثم بدأت أسمعه من بعض الدارسين والمشتغلين بالصحافة الأدبية منذ تلك الآونة تقريبًا. وتتفاوت الإجابة عليه بين أغلبية منكرة وأقلية آملة.

          وهو سؤال خطير لأنه يتعلق بالهوية القومية والمصير ويرتبط باللغة والإنجاز الحضاري لأبناء أمتنا, ولذا ليس هينًا أو سطحيًا, ولكنه السؤال أيضًا بهذه الصيغة: (هل يوجد نقد عربي?) يشفّ عن نبرة واضحة من التفاؤل توحي بشيء من الاطمئنان لوجود إبداع عربي, فالإبداع الأدبي العربي قد أثبت وجوده واكتسب عالميته وأخذ يعمق مساراته بشكل يدعو إلى قدر غير قليل من الثقة, ولكنه يوحي - بجانب هذا الاطمئنان - بقدر آخر من القلق على الفكر النقدي والتوتر تجاهه والتساؤل عن قضاياه.

          لكن هذا السؤال يتضمن شيئًا من التناقض يبدو جليًا للوهلة الأولى, لأن افتقاد النظرية ليس مقصورًا على النقد الأدبي فحسب في حياتنا العربية المعاصرة بل يكاد يكون شاملاً لجميع المجالات, فمن الطريف في الفلسفة مثلاً أن هذه الإشكالية طُرحت في إحدى الصحف ذات الاهتمام الثقافي منذ فترة وجيزة: هل هناك نظريات فلسفية عربية, ولماذا?

          وتباينت الإجابات بشكل فادح من مُنكر ومتردد ومؤكد, بوجود نظريات فلسفية عربية, وهذا يرتبط بطبيعة هذا السؤال, فمثلاً لا توجد لدينا نظريات علمية ينتجها المجتمع العلمي العربي, لأن هذا المجتمع لم يتكون أصلاً حتى ينتج نظريات ومنجزات ومؤسسات, وليس لدينا نظريات في مجالات أخرى ترتبط بالواقع اليومي المعاصر, ولكي نُشبع هذه الحاجة نعود دائمًا إلى استحضار تراثنا وحضاراتنا وذخيرتنا المكنوزة المستدعاة دائمًا لتعويض هذا النقص, فلماذا على وجه التحديد نتوقع في جانب معرفي واحد, المتصل بالفكر الأدبي, أن تكون هناك نظريات عربية, بينما لا توجد في بقية المجالات المعرفية والإنسانية الأخرى بشكل واضح وقاطع?

          ولكن هل تنفصل حركة النقد عن إطارها الفلسفي ومرجعيتها العلمية في المعارف المخالفة, حتى يمكن أن ننتظر منها بزوغ نظرية عربية لم تظهر ملامحها ولم تتجلَّ في أي جانب آخر من الجوانب المعرفية?!

          إنها حزمة من الأسئلة المتشابكة التي يترتب بعضها على بعضها الآخر, ولابد أن نواجهها بقدر من الصبر والتأمل.

          لنبدأ أولاً بمحاولة تحديد المفاهيم, لأنها خطوة إجرائية ضرورية, إذا اجتزناها بنجاح, أصبحنا نتكلم لغة تواصل لا تقاطع, نتكلم عما نقصده عندما نتفق على مصطلحاتنا.

          ما النظرية?

          في تقديري أن النظرية ينبغي أن تتوافر لها أربع خصائص حتى تستحق هذه التسمية لأننا في لغتنا العادية نطلق على أي فكرة نظرية.

          الخاصية الأولى أنها إنسانية عامة, كانت في مرحلة من المراحل مرتبطة بالعقل البشري, ثم أصبحت في المرحلة الحالية لا ترتبط بالعقل أو المنطق, وإنما بالعلم.

          الخاصية الثانية أن تكون علمية لا أيديولوجية, قد يشوبها قدر كبير من التكييف الأيديولوجي في نشأتها أو تطورها أو في تلقيها, ولكن تصبح نظرية بقدر ما تحققه من درجة علميتها.

          الخاصية الثالثة أن تكون شارحة للظواهر التي تتناولها, وفي حالتنا هذه للظواهر الأدبية بصفة خاصة.

          الخاصية الرابعة أن تكون قابلة للتجاوز والتحول والتغير من عصر إلى آخر.

          وعندما يتبين أن النظرية لم تعد تفي بهذه الشروط تتقادم, ويصبح من الضروري تقديم نظرية أخرى تتفادى عيوب النظرية السابقة وتحل محلها, وهذا يحدث بشكل واضح ومسلم به وبديهي في العلوم الطبيعية, ويحدث بشكل تقريبي في العلوم الإنسانية أيضًا.

          نظرية النقد ترتبط بالأدب والفن لتجيب عن عدد من الأسئلة الأساسية, مثلاً, ما الأدب? سؤال الماهية الذي طُرح منذ منتصف القرن, ومازال يُطرح حتى الآن, وإذا أخذنا بمنطق فلسفة الظواهر, اكتفينا بسؤال آخر يحل محل سؤال الماهية وهو: ما مظاهر هذا الأدب على الأقل? وهذا سؤال أكثر علمية وأقل جوهرانية.

          وعلى هذا, فإن سؤال الظواهر والأجناس الأدبية هو السؤال الأول في أي نظرية نقدية.

          السؤال الثاني: ما شبكة علاقة هذا الإنتاج الأدبي بالأطراف المختلفة له, علاقته بالحياة, وعلاقته بمبدعيه, وعلاقته بمتلقيه, لابد للنظرية أن تقدم تصورًا لهذه الشبكة عن علاقة الأدب بالأطراف المتعددة.

          السؤال الثالث: ما الوظائف التي تناط بالإبداع الأدبي? وظائف جمالية, فنية, ووظائف اجتماعية.

          السؤال الأخير: ما علاقة الأدب النوعي بغيره من الفنون التي تحقق بعض هذه الوظائف الجمالية المختلفة? علاقة الأدب بالموسيقى, علاقته بالفن التشكيلي وغير ذلك من الفنون, بما فيها الفنون المحدثة من سينما وغيرها.

          أظن أن أي نظرية نقدية, لكي تكوّن منظومة من المبادئ المتجانسة والمتكاملة وتحقق شروط النظرية, ينبغي لها أن تقدم تصورًا أوليًا عن هذه الجوانب, يضيء ويكشف عن طبيعة فهمها والإطار المعرفي الذي تندرج فيه.

          المسألة الأخرى أننا ونحن نتحدث عن نظرية, نصفها بأنها عربية, وإذا اتفقنا على مفهوم النظرية, فلنتفق على مفهوم العروبة, ما مفهوم العروبة?

          هل هو الانتماء العرقي لمجموعة من القبائل والطوائف المتجانسة والمتداخلة لدى شعوب مختلفة في منطقة جغرافية واحدة? أم هو هوية قومية, قوامها اللغة والثقافة بكل مكوناتها الدينية والمدنية?! ربما كان مفهوم العروبة أقرب إلى هذا الجانب الفلسفي منه إلى الجانب العرقي السابق, لأننا مثلا كمصريين مثل السوريين والعراقيين اختلطت أجناسنا, وفكرة الصفاء العرقي أسطورة, ومن يزعمها فهو عنصري, وقد أكدت ذلك الأنثروبولوجيا بشكل علمي, لم نعد في موقف يسمح لنا بأن نعيد الحديث عنه. إذن تصبح العروبة هي هوية قومية, قوامها اللغة والثقافة, بكل مكوناتها الدينية والروحية, ومنظومة القيم التي تتمخض عنها هذه الثقافة هي التي تمثل العروبة.

          ولابد أن تتميز العروبة عن الهويات الأخرى, فهي بالضرورة محلية ومحددة لا تذوب في غيرها, يمكن أن تتفاعل مع كل العناصر المجاورة والمتعاملة معها, ولكن لا تذوب أو تتلاشى فيها وإلا لن تحقق وجودها.

مصطلح مغلوط

          النتيجة التي نستخلصها من هذا التعريف المبدئي, أن مصطلح نظرية نقدية عربية يصبح مصطلحًا مغلوطًا, وقد كتبت مقالاً منذ خمسة عشر عامًا بهذا العنوان, لأني لاحظت في هذا المقال التناقض بين طرفي العنوان نفسه, فلكي تكون نظرية فلا بد أن تكون إنسانية وعامة لكل الشعوب, ولكي تكون عربية لابد أن تكون قومية مرتبطة بهوية قومية محددة مما يجعل الجمع بينهما تلفيقًا للأضداد.

          وعندما نستعرض تاريخ النظريات بالفعل, لا يكون بوسعنا أن نتحدث عن نظرية فرنسية في العلم أو إنجليزية في الفن, لأنها إما أن تكون نظريات علمية أو لا, أما أين نشأت? وفي أي لغة نبتت? ومن رحم أي ثقافة تولدت? فهذا موضوع آخر لا يبرر أن نصفها بالصفة القومية, أو ننسبها إلى هوية أو لغة, ولكن من الملاحظ في النطاق العالمي أن هناك إسهامات جذرية مؤسسة تقوم بها شعوب مختلفة.

          وفي النظريات النقدية - على وجه الخصوص - هناك بالتأكيد إسهامات فرنسية وإنجليزية وألمانية وأمريكية في نظريات النقد المعاصر. فهل توجد إسهامات عربية في نظريات النقد المعاصر?

          إن النظرية منظومة فكرية متجانسة لها شروطها, ولا بد لانبثاقها من توافر قدرة على التفكير المنظم  حول مجموعة من المبادئ المتماسكة, والوصول بها إلى درجة عالية من التجريد والتكامل من ناحية, وقابلية التطبيق العملي في الممارسة من ناحية ثانية, وهذا يقتضي مساحة هائلة من الحرية, ليس بوسع أي منظر أن يلتزم بثوابت أو أن ينطلق من مسلمات لا يستطيع تجاوزها, لأنه حينئذ سوف يصبح شارحًا لا منظرًا.

          فالشرط الأساسي للتنظير امتلاك الحرية, والقدرة على التجرد من الأيديولوجيا ابتداءً من العقائد الدينية إلى التيارات السياسية والميول الشخصية والأهواء الوطنية.

          وامتلاك الباحث لحريته الكاملة هو المنطلق الأساسي للموقف الفلسفي, لأن الموقف الذي يبدأ بافتراض مسلمات وثوابت لا يستطيع تجاوزها, لا يعلو إطلاقًا على كونه شارحًا لهذه المبادئ والمسلمات.

          في فكرنا العربي وفي تقديري - وأرجو ألا أكون مخطئًا - لدينا العقول الناضجة والمواهب الحقيقية والقدرات المتمثلة بأشخاص منا نستطيع أن نشير إليهم بذواتهم, حيث يتوافر لهم هذا القوام الفلسفي, ويمتلكون شجاعة الحرية بكل ما يترتب عليها.

          الشرط الثاني: أن الأبنية النظرية لا تولد مرة واحدة وإنما تتخلق دائمًا في بيئات وأرحام مساعدة تحتضنها, بمعنى أن أي بناء نظري لا يبدأ من الصفر, ودائمًا يعتمد على منجزات سابقة يختارها الباحث بعناية ثم يتم الاتكاء عليها طبقًا لمفهوم فكرة التراكم المعرفي, ويوظف بعض هذه القطع التي اختارها ثم يصنع منها النموذج النظري, محققًا ما يسمى في الابستمولوجيا بالقطيعة المعرفية.

          ومن المعروف أن مصطلح القطيعة المعرفية مصطلح سيئ السمعة في الثقافة العربية, لأنه دائمًا ما يُفهم بأنه إلغاء الماضي وتجاهل التراث, والقفز عليه, وهو ليس من ذلك في شيء, فالقطيعة المعرفية هي أن تتشبع بكل إنجازات الماضي ثم في لحظة معينة تتركها جانبًا وتقفز قفزة عالية لكي تبني تصورًا مخالفًا لها, لكن لولا هذا التراكم لما كان بوسعنا كمنظرين ومثقفين أن نحدث قطيعة, فأنا أقاطع ما أعرفه وأتجاوزه ولا أقاطع ما أجهله.

          إذن نقول إن شرط النظرية الثاني هو التراكم المعرفي, أي نبني أبنيتنا منطلقين من منجزات الآخرين, لأن كل عمل أو فكرة يبدأ من نقطة الصفر لا يمكن أن يؤهل أحدًا لبناء نظري شامل.

          وربما كان لدينا خاصية تساعد على خاصية التراكم المعرفي وهي خاصية الوفاء, ممثلاً لنا أساتذة لأجيالنا, فكلنا نتصور أنفسنا امتدادًا لمدرسة المفكرين العرب الكبار, امتدادًا لمدرسة طه حسين مثلا إلى أحمد أمين وعباس العقاد وزكي نجيب محمود وغيرهم.

          من هنا فإن التراكم المعرفي يتحقق لدينا إلى حد ما, كما أن شرط القوام الفلسفي يتحقق, وبالرغم من أن شرط التراكم العلمي لم يتحقق بالقدر المنشود, لم يصب خلقًا فينا, ولم يصبح طبيعة بحثية لنا, ولا بد أن نلح على جعله طبيعة بحثية فينا تدخل في تقاليدنا العلمية القومية.

          الشرط الثالث: وهو شرط إشكالي, ولكني أصرّ عليه وأطلق عليه تجاوز الحواجز. التفكير المحلي المحدود لا يمكن أن ينتج قامة فكرية على المستوى الإنساني, إلا إذا تجاوز الحواجز, وأهم هذه الحواجز في تقديري ثلاثة:

          الحاجز الأول: هو حاجز التواصل المباشر مع الإنتاج الإنساني. لابد أن يكون للمفكر قناة تصله بالإنتاج الإنساني عبر لغة أخرى غير لغته, التي ينطق ويكتب بها. وهناك مَن سيقول لي إن الترجمات تقوم بهذه الوظيفة, لكن الترجمات تقدم له ما يريده المترجمون, وما يسمح به الآخرون, ولا تقدم لنا ما نحتاج إلى معرفته في اللحظة التي نحتاج فيها إلى معرفته, ولذلك لابد أن يكون لنا, أقصد للمثقفين والباحثين والمفكرين, ولمن يريدون أن يكون لهم قوام نظري, وإسهام إنساني, قناة توصلهم بشكل مباشر مع الإنتاج الإنساني, هذا حاجز لابد من تجاوزه.

          الحاجز الثاني: وهو أصعب وأدق هو الحاجز النفسي والأيديولوجي, فمثلاً نحن نمر بمرحلة أصبح العداء فيها للغرب عمومًا ولأمريكا على وجه الخصوص شعارات يومية نرددها جميعًا صباحًا ومساءً نلعن بوش, ونسب الاستعمار, ونعادي الغرب, ونتخذ موقفًا معاديًا منه, حيث يتواطأ علينا ويحاربنا ويتهمنا بالإرهاب, ويسحق شعوبنا, للوهلة العامة, كل هذا يكوّن حاجزًا نفسيًا وأيديولوجيًا, وكل مَن كانوا يتغنون بالتواصل العاشق مع الغرب, أصبحوا يخجلون من ذلك الآن, وأنا منهم أصبحت أخجل من هذا التواصل, لا أقوى على البوح به, لأن الظروف النفسية والقومية والوطنية لابد أن تضعنا في هذا المأزق, فهل هذا يؤدي بنا إلى أن نكرّس دعاوى القطيعة عن السياق الإنتاجي المعرفي العلمي في العلوم الطبيعية والإنسانية, لأن هذا الغرب الملعون يشن علينا الحروب?!

          وللإجابة عن هذا السؤال, أود أن نتذكر موقفًا مماثلاً, وجد جيل الروّاد نفسه فيه, جيل طه حسين الذي نتخذه نموذجًا, نشأ في وطن احتله هؤلاء الأوربيون, ولم تكن دولة أمريكا قد استكملت شروطها حينئذ, فماذا كان الموقف من المحتل? كانوا يعادونه وطنيًا, ثم يصادقونه صداقة وطيدة وحميمة وخصبة علميًا ومعرفيًا وثقافيًا, كيف أمكن حل هذه الإشكالية بهذه السلاسة لدى أبناء هذا الجيل? لم يكن يمنع الشباب العربي الذي يحارب قوى الاستعمار الغربي أن يطرحوا مثلا أسئلة حول سر تقدم الإنجليز السكسون, أو أن يتغنّوا بالثقافة الفرنسية وأن يتغنّوا بالثقافة والإنجازات الفكرية والعلمية والإبداعية الغربية, لأن هذا شيء وذلك شيء آخر, هم فعلوا ذلك لامجرد حيلة ذكية للتخلص من مأزق, وإنما بحثًا عن أدوات المقاومة الحقيقية, لأن مقاومة الاحتلال لا يمكن أن تأتي من امتلاك سلاح فقط لا تنتجه أنت, ولا أدوات لا تتحكم في تكييفها, ولكن أن تمتلك العلم والفن والمعرفة.

          الحاجز الثالث: ما يمكن أن أسميه حاجز الأفق, مثلا نحن نتحدث في النقد الأدبي, فهناك آداب إنسانية غنية مثل أدبنا, ولكي يكون نقّادنا ومنظرونا على مستوى أن يضيفوا ويسهموا في النظرية المعرفية النقدية, لابد لهم أن يأخذوا بعين الاعتبار, لا المنجز العربي في آدابنا فحسب, ولكن المنجز الإنساني أيضًا, حتى يستطيعوا أن يستنبطوا قوانين الإنتاج. فالفكر المحلي لا يكفي لإبداع فكرة عالمية إنسانية, فمثلاً نحن لم نبدع مسرحًا بالقدر الكافي, حاولنا أن نستزرعه في البيئة العربية طيلة قرنين تقريبًا ولم ننجح في الاستزراع, (فالصوبات المسرحية) فشلت إلى حد كبير, وانتهى الأمر إلى أن المسرح أصبح مجرد عروض فكاهية أو استعراض أجسام وأغاني...إلخ, لكن هل نيأس من نظرية المسرح, لأننا لم نستزرعه بعد في بيئتنا العربية بالصرامة الكافية, ولا نجد وريثًا لإبداع توفيق الحكيم في الوقت الراهن, ولكن المسرح العالمي يمدّنا بالتيارات الأخرى, وفي تقديري أن دارس النقد الأدبي لابد أن يتجاوز أفقه المحلي المحدود, حتى يستطيع أن يقدم إسهامًا نظريًا يعتد به.

          ويمكن اعتبار الأدب الإبداعي الذي يكتب بلغات أجنبية إبداعًا عربيًا بنسبة ما, وبالتالي, فإن النقد الذي يكتب بلغات أجنبية يمكن اعتباره نقدًا عربيًا إلى حد ما.

          يمكن الإقرار - على سبيل المغامرة - بأن لدينا بالفعل إسهامات نظرية نقدية في النقد العالمي, وسيظهر ذلك عند طرح ثلاث مدارس أو ثلاثة تجليات لهذه الاسهامات.

          المدرسة الأولى هي ما أطلق عليها نقد الاستغراب, أي النقد المكتوب باللغات الغربية, ويقوم به العرب الذين قدموا إسهاماتهم النظرية النقدية باللغات الغربية, وأهمها الإنجليزية والفرنسية, وأخصّ بالذكر هؤلاء النقاد الثلاثة الذين لا اختلاف على عروبتهم, ولا على قدر إنجازهم وإسهاماتهم الحقيقية في تنمية النظريات النقدية العالمية, وأولهم - بلاشك - هو إدوارد سعيد, حيث قدم نظريته الأساسية التي انطلق منها عن الاستشراق, النقد ما بعد الكولينالي تقريبًا البطل الأساسي فيه هو إدوارد سعيد, كما أنه أحد أهم مؤسسي النقد الثقافي وتحليل الخطاب, إدوارد سعيد تلبس بالأيديولوجيا العربية مدافعًا شرسًا عن الحق العربي في فلسطين, ولكن ذلك لم يطمس على الإطلاق قوامه الفكري النظري, وتلك هي عبقريته.

          لقد استطاع أن يجمع بين هذين النقيضين, حماسه الشديد, ودفاعه العارم عن الحق العربي, والوجود العربي والهوية العربية, ابتداء من كتاباته عن الاستشراق وقدرته على تمثيل ذلك بطريقة علمية موضوعية تحظى بتقدير كل الشعوب الغربية, لقد عرفناه بعد أن عرفه العالم واعترف له, بعد أن تكون وأصبح أحد مؤسسي الفكر النقدي العالمي.

          لا نستطيع أن نسلب صفة العروبة عن إدوارد سعيد, ولا نستطيع أن نقول إن إسهاماته القوية الفعّالة في مجالات النظرية النقدية المعاصرة غير عربية, صحيح أن معظم تمثيلاته ونماذجه وتحليلاته لم تكن عربية. فهو لم يتشبّع بالثقافة العربية, مع أنه تربى في مراحل التعليم الأساسي في مصر في الأربعينيات والخمسينيات, ثم انتقل إلى أمريكا في سن مبكرة لكنه, كان يقضي كل إجازاته على مقربة من مصر في بيروت والشام, لأنه منع من دخول مصر بسبب مشكلة تجارية, يقضي الوقت يناقش شارل مالك الفيلسوف الشامي العظيم لكي يدافع عن الناصرية وهو في بيروت, إدوارد سعيد ملحمة مدهشة ورائعة.

          النموذج الثاني, ربما ليس معروفًا مثل إدوارد سعيد, لكنه بالغ الأهمية, وهو مصطفى صفوان, وهو أحد مؤسسي النقد البنيوي الفرنسي, وهو الذي كتب الفصل الخاص بالنقد البنيوي في الكتاب التجميعي التذكاري, الذي أشرف عليه (تودوروف), وهو تلميذ (لاكان) العالم الفرنسي العظيم, وورث مذهبه ونمّاه, وورث عيادته في باريس, وهو الذي يديرها الآن, مصطفى صفوان يعتبر من المساهمين الأساسيين في النظريات البنيوية, وما بعدها في المجال الفرنسي, صحيح أن بعض أفكاره ونظرياته لا تروق لنا, قد نتحفّظ عنها, مثل دعوته التي انطلق بها منذ أعوام عدة عن ضرورة الترجمة باللغات العامية, ونموذجه الذي قدمه عن ترجمة هاملت بالعامية المصرية, لكننا لا نستطيع أن ننكر إنجاز مصطفى صفوان في النقد العالمي.

          النموذج الثالث: ليس بعيدًا عن ذلك, وهو إيهاب حسن فيلسوف ما بعد الحداثة, وصاحب نظريات النص, وأحد أقطاب الفكر النقدي الأمريكي, صحيح أنه يتحفّظ عن عروبته ومصريته, ومن حقه أن يتحفظ, ومن حقنا أن نقبل أو أن نرفض ذلك, لكن ما يكتبه يعد عربيًا مصريًا إلى حد ما, ويمكن أن يعد من نقاد الاستغراب أيضًا.

          المدرسة الثانية من التيارات التي أسهمت في تنمية وتطوير الفكر النقدي النظري المعاصر, تنقسم إلى طائفتين, ففي النقد العربي - مثلاً - تزدهر خاصة في المجال الأكاديمي المدرسة الأسلوبية, وهي تقدم لنا ظاهرة مدهشة لإمكان الإسهام النظري والتطبيقي في الفكر النقدي العالمي, لا أعرف لماذا ظفرت الأسلوبية بهذا القبول والترحيب والشيوع والانتشار في كل الأوساط الثقافية العربية.

          المدرسة الأسلوبية نشأت في الفكر العربي منذ جيلين, منذ أمين الخولي, أحمد الشايب, الزيات وعدد من الذين رغبوا في تخليق أسلوبية عربية, لكنها انتشرت وازدهرت وأثمرت في النصف الثاني من القرن العشرين عبر مجموعة من مراكز الإنتاج العلمي في الدراسات الأكاديمية, والدراسات التطبيقية في مختلف الأقطار العربية من أقصى الشمال الإفريقي في المغرب, حيث ازدهرت المدرسة الأسلوبية, ومازالت تزدهر على يد أقطاب مثل عبدالسلام المسدي, محمد الهادي, الطرابلسي, وحمادي صمود, ومحمد العمري, والحميد الحمداني, في الشام هناك دارسون أسلوبيون على قدر كبير من التمكّن العلمي, مثل منذر العياش, الذي ترجم الأساسيات في الدراسات الأسلوبية, وغيرهم من الدارسين.

          والمدرسة الأسلوبية نستطيع أن نتمثل منجزها الحقيقي في كتابة أمثال شكري عياد, مصطفى ناصف, محمد عبدالمطلب, سعد مصلوح, وكاتب هذا المقال.

          إن التنمية المعرفية والنظرية والتطبيقات الخصبة الغنية, التي قام بها النقاد الذين يتناولون الشعر والقصة والرواية والخطاب الأدبي عمومًا بالتحليلات الأسلوبية, يمكن أن تمثل إسهامًا حقيقيًا في الفكر النقدي المعاصر.

          المدرسة الثالثة والأخيرة, والتي أجد أنها تقدم نموذجًا حقيقيًا لهذا الإسهام العربي في النظريات النقدية المعاصرة, هي من أطلق عليهم نقاد الشعرية, والشعرية مصطلح لا يتوقف عند جنس الشعر فقط, وإنما يشمل السرديات وغيرها من أنواع القول, ولو ذهبت أعدّد أقطابها, فلن يمكن الوفاء بأهم ما لديهم, لكني لا أستطيع أن أنسى أسماء كبرى مثل, عزالدين إسماعيل, جابر عصفور, محمود الربيعي, صبري حافظ, كمال أبو ديب, محمد مفتاح, محمد برادة, عبدالفتاح كيليطو, سعيد يقطين, فيصل دراج, عبدالله الغذامي, حتى بعض المبدعين الكبار الذين أضافوا للدراسات الشعرية إنجازًا عظيمًا مثل أدونيس في كتاباته عن الشعرية, ويليهم أجيال جديدة من الشباب الباحثين والنقاد, وأعتقد أن كتاباتهم تقدم إضافة حقيقية للنظرية الشعرية, يمكن أن تجسد لنا هذا الإسهام العربي, فقط المشكلة تكمن في سجن اللغة, فأي كاتب, أو كاتبة, ذكي يخرج برواية, لأن الروايات شيء سهل, وعائدها الإعلامي والأدبي والمعنوي ميسور جدًا, ومن السهل للغاية أن تجد مَن يترجمها, لكن مَن الذي ترجم فصلاً من الفصول العميقة الفكرية الحقيقية, التي قدمها أمثال محمود أمين العالم, وغذى بها كل هذه الأجيال?!

 

صلاح فضل   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات