العَرَق (قصة مترجمة)

 العَرَق (قصة مترجمة)
        

          كانت ترتعب من فكرة أن يلاحظ الناس رائحتها. لم يكن لذلك أدنى أهمية في المشغل حيث تعمل. فقد كان العرق ينزّ من كل فتاة هناك...وكانت أركان الغرفة الضيقة تمتلئ عن آخرها بسحب كثيفة من العرق الثقيل. ولكنها كانت تخشى من أن ينتبه الناس لتلك الرائحة الحمضية, الحارقة, في قاعات السينما وعربات الترام. إذا لاحظت أن شخصًا يشهق أو يزفر بطريقة ملحوظة, غمرها الشعور بالخزي والحرج, إذ ربما اعتقد الناس أنها تتكاسل عن الاغتسال, ولكن ذلك كان منافيًا للحقيقة, وحده الله يعلم كم يؤنّبها أفراد أسرتها على الوقت الطويل, الذي تقضيه في الحمام, تاركة أباها وأمها وشقيقها يتململون في انتظار خروجها, ليتمكنوا بدورهم من استخدامه. ومع ذلك, كانت تحسّ على الدوام بأن ذلك لا يعدو كونه مضيعة للوقت, لأن الرائحة لم تكن لتفارق أنفها, مهما فعلت. كانت أحيانًا تحاول أن تخدع نفسها بأن تلك الرائحة كانت تنبعث من الفتيات الأخريات فقط, وبأن أذيالها العالقة بأنفها, والمصاحبة لها أينما ذهبت, كبقايا لحن قديم, تعلق مقاطع منه بالذاكرة: كانت رائحتهن. ولكن في كل مرة تضغط بذراعيها على جانبي جسمها, كانت تشعر بالبلل يرسم بقعًا ودوائر على قماش فستانها, تحت الإبطين مباشرة, وكانت عندئذٍ, تعلم أنها في حال مزرية, كالفتيات اللواتي يظهرن في إعلان مزيل العرق, الذي تنشره المجلات الأمريكية, التي كانت تبتاعها أحيانًا من محلات (وول وورث).

          لم تكن أي فتاة أخرى في المشغل, تهتم بالرائحة, كنّ قد اعتدن عليها, بعد السنوات الطويلة التي أمضينها في ذلك المكان. هي وحدها, التي لم يمر على وجودها فيه أكثر من ستة شهور, وكانت تلك هي أول وظيفة تلتحق بها, كانت مقتنعة بأنها - مثلهن - ستعتاد الأمر بعد فترة, كان المشغل في الحقيقة مجرد قبو, وكان الجوّ به خانقًا لا يطاق في هذا الصيف الحار.

          كان الضوء الوحيد الذي يبدد ظلمة هذا المكان, هو ذلك المنبعث من الأنوار الكهربائية القليلة والمتباعدة, المعلقة في سقفه, كانت النوافذ الضيقة الصغيرة, المطلة على رصيف الشارع, مفتوحة على الدوام, ولكن الجو في الخارج كان رطبًا وثقيلاً, ولم تكن نسمة واحدة من الهواء النقي تتسرّب إلى المكان, كانت النار التي تظل مشتعلة في أركان القبو, لتسخين المكاوي, تجعل الجو أكثر وحشية, وكثيرًا ما تساءلت إذا ما كانت ستستطيع الصمود في هذا المكان لفترات طويلة, كتلك التي قضتها أغلب العاملات هنا.

          نصحتها (ماجي), التي تجلس بجانبها دومًا, بأن تتزوج: (لا تورّطي نفسك بالاستمرار في هذا العمل, لديك فتى يحبك, تزوّجيه, وانقذي نفسك من هذا الوضع, مادامت الفرصة لاتزال سانحة أمامك).

          أجابتها (جيني) في تردّد:) ولكني لا أعرف ما إذا كان (هاري) يفكر في الزواج أصلاً ...أم لا?...).

          - (طيب...عليك إذن أن تجعليه يفكر في ذلك, واظبي على إغرائه, إلى أن يقتنع بأن الطريقة الوحيدة للوصول إليك هي الزواج, لا تكرري خطأي, لقد ظللت أهمل الفرصة تلو الأخرى, ممنية نفسي - في كل مرة - بظهور رجل أفضل في حياتي, إلى أن فقدت نظارتي, خلال انتظاري الطويل هذا, ومازلت هنا في هذا المكان اللعين, المليء بالعرق. أعمل بأجر زهيد, ولولا أنني أحيك الأثواب والفساتين لبعض السيدات بعد ساعات العمل, لما وجدت ما أسدّ به رمقي, كم يدفعون لك يا جيني?.

          - خمسة عشر شلنًا في الأسبوع.

          - الأمر يا صغيرتي, لا يستحق كل هذا العناء, وأنت تعلمين ذلك جيدًا, اخرجي من الأمر برمته قبل أن يمتص كل الطاقة والنشاط من داخلك. انظري إلى (جو).

          أشارت إلى (جو) الساعي الذي جلس بجسده القوي الفتي, الذي بدأ يغزوه الترهّل, بجانب النار المشتعلة, يقرأ مجلة مصوّرة عن مغامرات (طرزان) مع وحوش الغابة, غير آبه للنار, ولا للهيبها الحارق, لم يكن يتحرّك من مكانه أبدًا, إلا إذا رنّ الجرس الموضوع بجانبه, معلنًا وصول طرد أو رسالة, فكان يقوم - عندئذ - من مكانه, متثاقلاً, ليسلم الطرود والخطابات إلى أصحابها, ثم يعود إلى مجلاته من جديد.

          انظري إليه, عندما جاء هنا منذ عشر سنوات, كان لايزال مراهقًا صغيرًا في الخامسة عشرة, يملؤه الحماس, والرغبة في تسلّق السلم الوظيفي والترقّي لعمل أفضل, ولكنه الآن يمضي أوقاته في القراءة, قانعًا بعمله كساع, لقد انتزع هذا الجو الكئيب منه كل أمانيه وأحلامه, لا ترتكبي الخطأ ذاته يا حبيبتي.

          عاهدت (جيني) نفسها بألا تقضي بقية حياتها في هذا المكان. (هاري) بدوره لم يكن يتلقى أجرًا مناسبًا إزاء الجهد الذي يبذله في عمله, ولكنها فكرت بأن من الأفضل أن تصبح زوجته, بدلاً من أن تئد نفسها في عرق وقذارة هذا المكان, حيث يشويها عرقها الساخن, الذي يظل يتصبّب منها, وهي منهمكة في الخياطة, يمر الوقت بطيئًا, إلى أن يبدأ الألم في إلقاء ظلاله على عينيها المرهقتين, ويتبلّد عقلها, للدرجة التي تجد معها نفسها تردّد دون وعي منها: (ليتها كانت السادسة والنصف, ليتها كانت السادسة والنصف, السادسة والنصف..).

          ارتفع صوت (ماجي) الحاد وهي تترنّم: (آه, لا أريد أن أموت, أريد أن أعود إلى وطني), بدت الأغنية, بطريقتها في الأداء, بلا لحن, وتفتقر إلى الموسيقى.

          علّق أحد خياطي الدور العلوي - الذي كان قد نزل إلى مشغل الفتيات ليسخّن المكواة الخاصة به - تعليقًا فجًا, بالغ الوقاحة, ردّا على أغنيتها, إلا أنها لم تعره أدنى اهتمام, وواصلت غناءها الرتيب, فبصق على النار في غيظ وحنق.

          كانت (جيني) تمقت هذا الرجل الطويل بوجهه النحيل القاسي, ذي الشفتين المفرطتين في الحمرة. حين كانت تمر بجانبه في الممر الطويل, لم يكن يتوانى عن مد يده قارصًا إياها قرصة سريعة, خفيفة, فعل ذلك أكثر من مرة, ثم حاول أن يقبّلها عنوة في إحدى المرّات, فعاجلته بصفعة على وجهه, ومنذ تلك الحادثة, دأب على السخرية منها, ولم يعد يناديها إلا باسم (العذراء) متهكمًا.

          قال لـ(جو) شيئًا, لم تتبيّنه جيدًا, عن الروائح الكريهة التي تنبعث من النسوة اللاتي يملأهن العرق, فازدادت كراهيتها له, هل يعتقد أن النساء فقط هنّ من يتعرقن في الحر? حين كانت تصعد إلى غرفة الخياطين لأمر ما, كانت تجد الرائحة ذاتها هناك أيضًا, ربما لم تكن في قوة الرائحة الجاثمة هنا في القبو, ولكنها, موجودة على أي حال.

          انتبهت على صوت (ماجي) وهي تصيح به في ضيق: (كفّ عن سخافاتك يا (ماك آرثر), لو أنك كنت تعمل بالقدر نفسه, وبالجدية نفسها, مثلنا جميعًا, لغطاك العرق مثلنا أيضًا).

          كانت الليلة, ليلة جمعة, اليوم الذي يتم فيه دفع أجور العاملين في المشغل, كان أجر (جيني) لهذا الأسبوع, يزيد شلنًا عن بقية الأسابيع, نظير عملها لساعتين إضافيتين.

          ساعتان من العمل المضني, الذي كاد أن يقصم ظهرها من فرط الألم والتيبس, كانت تدرك أن المنطق يحتّم عليها أن تستغل هذا الشلن في ركوب المواصلات, بدلاً من السير لمسافات طويلة, تعرق خلالها عرقًا غزيرًا, يزيد الأمر سوءًا, ولكنها عوضًا عن ذلك, ابتاعت في طريقها للمنزل زجاجة من عطر (زهور العاطفة), بذلك الشلن, ربما استطاعت باستخدامها له أن تزيد من حرارة العواطف بينها وبين (هاري). وفي كل الأحوال, ستصبح رائحة العرق أقل قوة, وتركيزًا.

          تناولت عشاءها بسرعة, ولكنها لم تكن سريعة بما فيه الكفاية, لتدخل الحمام قبل أخيها, الذي لن يغادره - مهما كانت الظروف - قبل مرور نصف ساعة على الأقل, تنهّدت في تعب وإرهاق, وتوجهت إلى الغرفة الضيقة الملحقة بالمطبخ, حيث الحوض الصغير الذي يغسلون فيه الأواني والأطباق, بدأت في ملء الحوض بالماء, وأخذت تخلع ثوبها, حين فاجأها صياح أمها: (جيني...لماذا تغلقين الباب?, دعيه مفتوحًا حتى يدخل الضوء إلى المطبخ, ليتمكن أبوك من قراءة الجريدة).

          شعرت (جيني) بغصة, كيف تغسل نفسها أمام والدها? زرّرت ثوبها, واكتفت بغسل وجهها ببعض الماء البارد, لم يكن بإمكانها أن تنتظر لحين خروج (بيتر) من الحمام.

          في حجرتها خلعت (جيني) فستانها, وتشمّمت إبطيها, فانتابها شعور بالغثيان والتقزّز, فتحت (زهور العاطفة), وسكبت القليل منها في راحتيها, وراحت تمسح العطر تحت إبطيها, وما بين نهديها, أعجبتها رائحة جسمها, وقالت لنفسها مؤكدة: (لو لم تكن هذه الرائحة قادرة على إغواء هاري, فلاشيء إذن سيمكنني من إغوائه).

          اصطحبها (هاري) للتنزّه في حديقة (كنجز بارك), اختار أن يجلسا في ركن قصيّ, بعيدًا عن ازدحام الناس في جنبات المكان الواسع, أخذ يلاطفها ويضع يده عليها, قالت له أخيرًا: (كفّ عن ذلك...), ولكنها لم تبد أي مقاومة حقيقية له, أو تحرّك ساكنًا. غشيتها سحابة من مشاهد غرفة المشغل المكتظة بالحائكات اللاتي يعلو وجوههن الإرهاق والعرق, هاجمتها رائحة الغرفة, الحامضة, الثقيلة, والقوية.

          كان الرعب من مصيرها المجهول في ذلك القبو الخانق, يفوق مشاعر احترام الذات, والتمسّك بالفضيلة, وجميع الأخلاق والمبادئ المغروسة بداخلها.

          رفع (هاري) رأسه عن كتفها فجأة, وراح يتشمّمها, وحين رأت منخريه ينقبضان في قرف, داهمها خوف وخجل مخزٍ, وتلوت أمعاؤها في عصبية, كدودة تتلوّى على سطح أوراق وردة, وجاءها صوته بعيدًا: (ما الذي فعلتيه بنفسك? لماذا تعطّرت بهذه الرائحة الرخيصة المنفرة يا جيني?).

 

فريد أوركوهارت   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات