صحوة خلية وحيدة

صحوة خلية وحيدة
        

          رأيتني في المنام الممطوط أغتسل وأتطهّر استعدادًا لصلاة عيد الأضحى, كنت في المنام متشككًا أن هناك عيد أضحى في تلك الأيام, لكنني كنت أغتسل وأتوضأ وأهيئ نفسي لتأدية صلاة العيد, بينما أرى شمس النهار في منتصف السماء تمامًا, بما يوحي بأن ظهيرة اليوم فاتت لتوّها, أو شارفت على الاقتراب. أتهيّأ لسماع صوت المؤذن القوي المتميز, الذي ينادينا بصوته المجلجل في صحونا أو منامنا خمس مرات كل يوم من غير مكبّر للصوت, لينبهنا لمواعيد الصلاة. كنت واثقًا أنه مؤذن مظلوم في حياته, لأن صوته القوي الصافي واضح الحروف, يستحق أن ينطلق من مكبّر صوت محترم كجهاز التلفاز أو الإذاعة أو حتى من مسجد الحسين بن علي, أو السيدة زينب - رضي الله عنهما وأرضاهما - بدلاً من تلك الزاوية المتواضعة الكائنة وسط المنطقة شبه العشوائية, المعزولة, التي نسكنها في وسط المدينة, وفي البعيد من كل الزوايا, كنت ألمح بنايات عالية, وأتخيّل ملامح أنصاف الأكابر أو الأكابر الغافين, أو الغافلين عنا, فأتخيّل صورة مَن كان في السابق يؤذن في مالطة, بالرغم من عدم استجابة سكانها لندائه, لكنه يواصل مكتفيًا بالقلة التي تستجيب, وهم من غالبية ناس منطقتنا الودعاء, وكأنما المساحات المسكونة حولنا من كل النواحي لا تنشغل بدعواته, وكأنه يؤذن لفقراء منطقتنا العشوائية وحدهم, أو أن للآخرين لغة غير لغتنا, وكنت أتصوّر أن بناياتهم الشامخة التي تحاصر منطقتنا شبه العشوائية, هي التي تتشابه مع مالطة, التي لم تطأها قدماي, أو فكرت مرة في زيارتها لضيق ذات اليد, وتقوم بدور بحر يحيط بجزيرة فقراء, نعيش أو نتعايش في جنباتها لرعاية عيالنا, ولا يحق لنا الشكاية من أصحاب ذلك البحر القادر على اغتصاب حدودنا حتى لو رموا علينا مخلفاتهم. يتأكد لي في الكابوس أن الدنيا حظوظ, وأن وراء تلك القسمة غير العادلة حكمة تجل عن إدراك أمثالنا من البشر الساخطين, أو الباحثين عن عدل مطلق, لم يتحقق على سطح أرضنا الظالم أهلها وناسها في الصحو, أو في المنام أبدًا, كأنه من الممنوع أن يعترض أي واحد منا على أنواع الغبن والأذى, أو حتى عمل ردود أفعال متواضعة تشبه من حيث الشكل, الاحتجاج على مَن يستبدّون بنا مثلاً, أو يستبيحون بيوتنا, بينما يعيشون حولنا ليضيّقوا علينا الخناق يومًا في إثر يوم, وكنا نعرف أن الكلام في الفراغ أهون من فعل اليد القادرة على التغيير, وأفعل من الخرس والكتمان في القلوب, بديلاً عن القول, وفي بعض حالات الصحو, كنت أراني مثله تمامًا على نحو غامض, أؤذن في مالطة, التي صارت تخصّني, وأراها وهي تحاصرني وتحصرني, ولا يفصلها عني غير فاصل وهمي, صحيح أن منطقتنا شبه العشوائية المعزولة في بطن تلك المدينة, كانت تتكلم اللغة نفسها, التي ينطقون بها, أو يقرأونها, وأن التواصل بيننا وبينهم كان ممكنًا لو فكّروا في الانشغال بمواجعنا وهمومنا, لكنهم كانوا يتجاهلوننا بأوامر صدرت لهم في السابق من آبائهم ليتعاموا عنا بقصد, وعندما غامرنا بالذهاب إليهم مرات عدة لنحاورهم في احتمال أن تصيبهم أضرار قد تفرزها جراثيم أو أوبئة محتملة تتخلق أو تتوالد في البؤرة المهملة, لو بقي الحال على ما هو عليه, أبعدونا وأعادونا إلى حيث نعيش, وصرت مثل غيري, ممنوعًا بشكل غير رسمي, ولكنه متعمّد, لا أتمكن من الوصول لعقول المحكومين من ناسهم بفعل مجموعة الفعلة, لأصير مثل مؤذننا المغبون, الذي يتصامم الناس عن سماع صوته في المحيط الذي يلتف حولنا ويضيق حدودنا لصالحه, وكنت أحيانًا أمنع نفسي من الاسترسال في التفكير على هذا النحو حتى لا أصاب بالجنون, أو تدهمني سكتة قلبية مثل تلك التي دهمت الآلاف من الناس في منطقتنا العشوائية المدفونة في قلب المدينة, وقد تدنّت متوسطات أعمار سكاننا عن نصف متوسطات أعمار سكانهم هناك.

          لعل الهم الأكبر الذي انشغل به هؤلاء, الذين رحمهم المولى من شركائي في منطقتنا, هو سؤالهم المتكرر لذويهم قبل الموت عن المدافن, التي سوف يوسدون فيها أبدانهم, كلنا كنا نعرف أن المنطقة الضحلة, التي تجمعنا كانت معزولة مهملة وغير محسوب لها حسابات, صحيح أنها في البدايات تمدّدت وتوسعت ولملمت الآلاف وآلاف الآلاف, لكن أرضها ضاقت وصارت هشّة ومعجونة بالنشع دومًا بسبب زحف المخلفات الظاهرة والمخفية من تلك المساحات المحيطة بها, ودون مراعاة أو رادع أو حقوق جيران لهم شفعة, وكانت المحصلة في نهاية الألفية الثانية مؤسفة, ويصعب التنبؤ بما يمكن أن يصير إليه حالها في مستقبل الأيام.

* * *

          في الكابوس البغيض, رأيتني ممدًا على (درابة) الغسل, أستشعر دفء الماء, الذي ينصب على بدني (بكوز) نحاس أعرفه تمامًا, وأعرف أنه كان يخص أمي - رحمها المولى - وكانت تستخدمه لسقايتي لو بحت لها بعطشي, وكثيرًا ما كانت تسألني إن كنت أشعر بالعطش, فأكتشف أنني بالفعل أرغب في شرب ماء كوزها الرطب فأرتوي, كما كان دفء الماء المصبوب من الكوز نفسه على بدني العريان, ينعشني عندما تصبّه المرحومة أمي على رأسي, وتدغدغني بأصابعها الطريّة, والحنونة قبل أن تملأه مرة أخرى, وتصبّه على بدني في سنوات طفولتي المبكّرة, فأضحك وتضحك هي أكثر عندما أتعلق بها, فتحتويني في حضنها الدافئ, وتجفف بدني المبلول بثوبها الجاف قبل استخدام المنشفة, لكنني في الكابوس الممطوط لم أكن بقادر على الحركة أبدًا أو الضحك أو التنفس في الوقت ذاته, كل ما كنت أشعر به هو أنني قادر على سماع أصوات متداخلة أعجز عن التمييز بينها كلما زاد الصخب, أقول لروحي بيني وبينها, إنه الموت وقد جاء في موعده المكتوب بالقطع دون أن أحسب له أي حساب شأن كل سكان المنطقة العشوائية, الذين سبقوني بالرحيل ليرتاحوا من هموم الدنيا, ولينعم الصالح منهم بالجنة, وأنا بالقطع منهم, كنت أتمنى لو سمعت صوت المؤذن ينادينا للصلاة, فلربما يساعدني صوته على الصحو مرة أخرى, لكنه لم يفعل, بالرغم من أن الوقت بحساباتي طال وطال, وبدني الممدد فوق (درابة) الغسل مستكينًا ومستسلمًا لكفّين خشنين لرجل لم أعرفه في حياتي أبدًا, لكن صوته لم يكن غريبًا عني, كان يتنحنح قبل أن يأمر مساعده ليساعده برفع ساقي أو ذراعي أو رأسي ليخلص من مهمة بدت له أصعب من كل المهمات, التي أنجزها في حياته, مغسلاً, لا يضمن لزبائنه الجنة, ولعله تهيأ لي أنه كان صوت مؤذننا, وقد وظف نفسه مغسلاً ثم لحادًا تسكن يداه أبدان التعساء في المدافن الرطبة الموحلة, وعندما لفلفني هو (بطاقات) الكفن, سمح لهم بأن يحملوني إلى مدافننا الرطبة فحملوني, كنت أرى المدفن المفتوح أمامي مثل فم أفعى ضخم جاهز لابتلاعي, لكن الرجل لم يتركني أواجه الرعب وحدي, وصار يوصيني ويمليني كيف أردّ على من يسألني عن يميني, وعن يساري ليتأكد لهم إيماني, فتأكد لي أنه هو بعينه المؤذن المغبون ساكن منطقتنا العشوائية.

* * *

          في الكابوس الممطوط والمتجهم, كنت أشعر بأن أنفي وفمي وخلايا جسمي نفسها كانت مكرهة على ابتلاع الطين الرطب من كل الزوايا, بالرغم من أنني بُشِّرت بالجنة, فشعرت بالنشوة للحظات خاطفة وتذكرت دغدغات أصابع أمي الحنون وهي تحتويني في صدرها بعد الاستحمام بمائها الدافئ, لكن الفرحة لم تكتمل أبدًا, لأن مكونات المدفن كانت تتداعى وتتداعى وتحاصرني وتحصرني, وكأنها مكلفة بإزهاق الروح, التي أرهقت منذ ساعات, ولو كان بإمكاني أن أصرخ ما ترددت, وبنصف الوعي أو ربعه أو هامشه الباقي, كنت أسأل نفسي كيف يموت الإنسان في اليوم الواحد مرتين?

* * *

          لابد أن بقايا الخلايا الحية في بدني كانت تستعيد, بالرغم من ضراوة الكابوس الممطوط, ما كان قد جرى لي في السابق عندما كنت أنعم بالحياة, وأتعايش بالرغم من العسر مع مفردات الواقع الصعب, ولابد أن الخلايا الحية الباقية في الكابوس كانت تخصني وتعرف أسراري ومواجعي وتاريخي, الذي انقضى, وأسماء عيالي وزوجتي وخسائري ومكاسبي وبعض أحلامي وأمنياتي المشروعة, التي لم تتحقق أبدًا, وتلك التي بدا لي أنها تحققت ولو بشكل جزئي كان يكفيني أيامها, ويبعث في القلب شيئًا من الفرح, صحيح أن أيام الفرح كانت قليلة, لكنها كانت تكفيني على كل حال لمواصلة مشاويري, باعتباري ساكنًا بالمربع العشوائي, يستجيب لمشايخ المنطقة المهمّشة عندما يؤكدون لنا (أن القناعة كنز لا يفنى).كنت أفتقد ملامح زوجتي أم عيالي وصوتها المألوف خلال تلك الفترة الحرجة, التي أوشكت أن أنعزل خلالها تقريبًا عن الإحساس, أو العجز التام عن الحركة بما أوحى لكل مَن رأوني بأن أجلي انقضى, أتحسّس بالأذنين نبرات صوتها الملتاع بين الأصوات, فلا أتسمّعها, أتذكّر أنها كانت قد اتفقت معي على شراء أرض لبناء مدفن جاف بين مدافن تلك المدينة, التي تحاصرنا, فتطمئنني في كل مرة بأنها ستدبر أمورها على أحسن وجه إذا انقضى أجلي أو جاء يومي قبل يومها, وتؤكد قائلة باقتضاب:

          - ومن حر مالك أشتري لك, وباسمك مقبرة صحراوية هناك.

          أسألها أحيانًا عن كم المدخرات التي تمكنت من توفيرها خلال السنوات الفائتة, فتبتسم وتهزّ رأسها بما يفيد بعدم رغبتها في البوح, من ناحيتي كنت أتقبّل المسألة واثقًا أنها سوف تدبّر أمرها وأمري, وتفاجئني بأنها اشترت الأرض يومًا بمبالغ كانت بحساباتي واعترافاتها فروقًا بين ما كنت أدفعه لها مصاريف بيت وعيال في مدارس, وإيجار مسكن وأثمان ثياب لها ولنا, وما أنفقته بالفعل:

          - خيرك الكثير في ذمتي ليوم الدين, ومن آمنك لا تخونه, فلا تحاسبني, بيني وبينك ربنا المطّلع على ما تخفي الصدور, كانت هي بالنسبة لي مأمونة إلى حد أنني لم أفكر مرة في أن أخفي عنها أي مبالغ أحصل عليها من عملي أو بدلات سهري أو مكافآتي عن الأعمال الإضافية, التي أجهد نفسي لإنجازها لتكفينا وتسترنا وتغطي مطالب الحياة, وختامها بما يليق بنا, تظهر مودتها لي, وتدعو مولانا الكريم بأن يزوّد أرزاقنا, ويحنّن علينا قلوب كل المسئولين, فأفرح وأسرّ لها أن علاوة استثنائية سوف تضاف لمرتبي أول السنة المالية الجديدة, ألاحظ فرحة تقاطيعها الدقيقة, وأقول لنفسي إنها وفيّة قطعًا, وراضية بالمقسوم لها معي. أواصل حياتي مطمئنا في حضنها الدافئ, وأمني نفسي بأن يكون مأواي عندما ينتهي عمري مدفنًا جافًا كسكان مدينتنا المحاطة بصحراء مترامية, والتي نتعايش في قلبها العشوائي, مكرهين أو عاجزين بالفعل عن تبديل مساكننا, شبه المدفونة ببطن المدينة الرطب, والمشبّع بكل أنواع النفايات والمخلفات دون أن يكون لنا حتى حق الحلم في تبديلها أو تعديلها, وعزاؤنا حكمة تقول: إن عرض الدنيا زائل, وأن العبرة في الختام المحتوم, ومحظوظ محظوظ مَن يقنع بأقل القليل, ويرضى به, فيكون مصيره المؤكد هو نعيم الآخرة وخلود الروح وسط جنات تجري من تحتها الأنهار.

          لكن ما جرى لي في تلك الرحلة غير المتوقعة, جعلني أراجع حساباتي في الوقت الضائع - كما يقولون - بينما كتل الطمي تحيط ببدني, وتكبس عليه, وتنفذ من فتحتي الأذنين والعينين والأنف ذي المنخارين والفم أيضًا, أجاهد أن أتململ فلا أستطيع, ويتأكد لي أنني بدأت مشوار التحلل أسرع مما كنت أتوقع في أعتى كابوس صادفته في حياتي, وصحيح أن عمري الذي عشته كان مشحونًا بكل ألوان الكوابيس المتتابعة المكررة, التي أعجز أحيانًا عن لملمة تفاصيلها أو بعض تفاصيلها في أي صحوة فزع للفرار منها, لكن الصحو المفزوع نفسه كان مخرجًا ومهربًا بالنسبة لي أحيانًا, ربما لأنني كنت أتمكن من تحسّس بدني, أو القدرة على تجفيف دمع العينين الباكيتين من قسوة ما شاهدت واستشعرت, لعل بقايا الخلايا الحية التي تخصني في الكابوس تأكدت أن العودة للحياة مستحيلة, فاختارت السكوت الكامل استسلامًا ممقوتًا بحساباتها هي نفسها, لكن لم يكن لديها اختيارات بديلة بالقطع, وعلى نحو خاطف تشدّدت خلية حية واحدة, واتخذت موقفًا مغايرًا, فظلت يقظة ترقب وتحصي وتحاول أن تصل إلى موقع أفضل كي تتاح لها الفرصة من خلال عزمها المتواضع لعمل معجزة لا يتوقعها البدن كله, وقد حاصرته من كل الجهات كتل الطين اللزج, ولا أدري كيف تمكنت تلك الخلية الوحيدة من هزيمة الاستسلام الكامل أو كسر حالة السكون المقيت, وكانت المحصلة صحوة مفزوعة للبدن المحبوس في الكابوس الممطوط تعيد ربطه بالحياة, وتنفض عنه علامات الموت ليعيش مرة أخرى, يفكر في الخلاص من كل ما رآه من الجمود في سكون بلا أمل في الحركة أو القيام, يعود النبض للقلب, وتصحو الذاكرة ويفيق الدماغ, فأقوم وأتحرّك لأؤكد لروحي أنني عدت للحياة مرة أخرى, وتخلصت من الكوابيس المجانية مهللاً بفرح طاغ, وصارخًا لنفسي ولمن يحيطونني بأنني سأواصل الحياة مرة أخرى وأعيش.

 

أحمد الشيخ   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات