استحالة تحديد المستقبل

استحالة تحديد المستقبل
        

يمر العالم الآن بمرحلة تتميز في رأي الكثيرين بتفكك النظريات والاتجاهات الفكرية الكبرى في كثير من مجالات المعرفة, بل وفي المبادئ والمسلمات والمعتقدات الأساسية, التي يرتكز عليها التفكير البشري.

          لقد ازدادت حركات العنف والإرهاب زيادة واضحة تنم عن مدى خطورة هذا التفكك في القيم المتوارثة. وهذه كلها عناصر تميز ما أصبح يطلق عليه اسم عصر ما بعد الحداثة, الذي يمثل نوعا من التمرد والرفض لتلك القيم باعتبارها أنساقا جامدة لا تتلاءم مع التغيرات المتسارعة, التي يمر بها عالم اليوم. ويعتبر ظهور هذا الاتجاه علامة مميزة على بدء عصر فكري جديد, يختلف كل الاختلاف عن عصر الحداثة, التي اندثرت أو(ماتت) حسب ما يقول البعض, ويحمل هذا العصر الجديد ثورة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية متحررة تماما من كل قيود الماضي, التي كانت تخضع الإنسان لكثير من عوامل القهر والكبت وإن كان هذا (الماضي) يبدي بالرغم من ذلك, بعض الاهتمام بالمستقبل وتوقعاته وإرهاصاته. وسواء أردنا, أو لم نرد, فإن ما بعد الحداثة تعتبر الآن أحد أهم, التيارات الفكرية أوالفلسفية, التي يمكن لنا - في رأي أتباعها وأنصارها -  أن نفهم في ضوئها وبشكل أفضل طبيعة العصر, الذي نعيش فيه والمستقبل, الذي سوف يتطور إليه, أي أن معرفة المبادئ والقيم, التي تقوم عليها ما بعد الحداثة هي المفتاح, الذي يؤدي إلى استشراف مستقبل العالم على الرغم من أن هذه القيم لم تتحدد بعد بل وقد يصعب تحديدها بدقة في الوقت الراهن, خاصة أن الآراء لم تتفق بعد على تعريف واحد لما بعد الحداثة وهل هي حركة? -  كما يرى الكثيرون - أم تيار فكري أم مذهب فلسفي? وإن كان الكثيرون يرون أنها مجرد حركة فكرية, لن تلبث أن تزول, شأنها في ذلك شأن كثير من الحركات, التي سارع بعض الكتاب والمفكرين إلى اعتناقها والتحمس لها, إلى أن ظهر تهافتها وزيفها.

من التنوير إلى الحداثة

          والمهم الآن هو أن ما بعد الحداثة تمثل اتجاها قويا يدعو إلى تحرير الإنسان من الأفكار والاتجاهات والقيم السابقة, بل ومن دعاوى العقلانية والتمركز حول الذات والمبادئ التي كانت تسود العالم منذ عصر التنوير في أوربا في القرن الثامن عشر و..., التي تزعم ما بعد الحداثة أنها في طريقها إلى الزوال والاندثار, بعد أن استنفدت أغراضها وتعداها الزمن وتجاوزتها الأوضاع المتغيرة الحديثة. فالقيم, التي نادى بها عصر التنوير, والتي تسود الحياة الفكرية الآن تؤمن بوجود حقيقة موضوعية تتسامى فوق الأشخاص وآرائهم وأهوائهم, وأن التفكير المحايد غير المنحاز وغير المتحيز, والذي يعتمد على المنهج العلمي التجريبي هوالوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة الموضوعية, كما أنه هوالطريق الوحيد, الذي يؤدي إلى التقدم مما يعني أن المستقبل سيكون أفضل وأكثر حرية وازدهارا وسعادة من عالم اليوم ومن الأمس. وقد ساعد على ترسيخ هذه الدعاوى ثورات الشعوب في الماضي والحاضر, ويستوي في ذلك الثورات الكبرى والانتفاضات الشعبية المحدودة. وتعلي فلسفة التنوير من شأن القيم الفردية, التي تميز الفرد عن الجماعة العرقية أوالدينية, التي ينتمي إليها بحكم المولد, والتي تدفع إلى التعصب. فهي قيم تحقق للفرد مكانته وكرامته وتميزه وتفرده عن الجماعة وعن غيره من الأفراد. ولكن على الرغم من ذلك, فإن العقلية العلمية تستطيع من خلال دراستها للتنوع البشري والفوارق بين الأفراد, أن تصل إلى تحديد العناصر العامة والمشتركة والكامنة وراء هذا التنوع والاختلاف, وإلى العامل الإنساني المشترك, الذي يوحد بين الجميع. وهذه العناصر العامة المشتركة هي الأساس, الذي ترتكز عليه مبادئ المساواة في الحقوق. فالعقلانية والموضوعية والفردية والعمومية الشاملة تعتبر إذن أهم القيم والمبادئ, التي تحكم المجتمع البشري وتوجهه حسب التفكير السائد في عصر التنوير, والممتد حتى الآن فيما يعرف باسم (الحداثة).

          ما بعد الحداثة تبدأ إذن من التشكك أوعدم الوثوق في كل تلك المبادئ العامة والأسس الكلية الشاملة, التي سادت عصر التنوير ووجهت الفكر الحديث, كما أنها ترفض التسليم بوجود مجموعة المبادئ والمعتقدات والمسميات الفكرية العامة, التي يمكن لها أن تسيطر على الفكر الإنساني. فكأن ما بعد الحداثة تنظر إلى كل هذه الأمور على أنها مظاهر بائدة, تنتمي إلى الماضي ولم تعد تصلح للمرحلة الجديدة, التي يمر بها عالم اليوم والغد, والتي لها دعاواها وافتراضاتها الخاصة. وإذا كان بعض المفكرين المعاصرين -  وبخاصة الإنسانيون Humanists -  يرون في تلك القيم والقواعد والمبادئ المتوارثة, مبادرة خير بالنسبة للمستقبل, فإن ما بعد الحداثة ترى أن الاعتماد على العقل (السليم) والتفكير (المنطقي) والعلم والموضوعية والفردية والعمومية الكلية الشاملة Universalism لم تؤد إلا إلى الاغتراب, وسيطرة قيم البيروقراطية الطاحنة وظهور (عالم من الخبراء), الذين يرون أن القوة توجد في كل شيء إلا في الإنسان الفرد, وأنها انتهت إلى قيام أشكال وصور عديدة من الكبت والقهر والتسلط, التي تمثلها الرأسمالية, والتي أتاحت الفرصة لظهور الشمولية الستالينية, والنازية بكل ما ارتكبتاه من جرائم ضد الجنس البشري, والعمل على إبادته والقضاء على فصائل معينة من الناس.

          فالتمسك بالموضوعية والبحث عن المعرفة الموضوعية يؤديان في آخر الأمر إلى الظن بأن الحقيقة توجد خارج الفرد, بكل ما قد يترتب على ذلك من انعدام ثقة الإنسان في نفسه والشك في قواه وقدراته وإمكاناته الذاتية, وذلك بعكس ما سوف يترتب على المبادئ, التي تنادي بها ما بعد الحداثة, من عدم وجود حقيقة موضوعية في الخارج تستحق عناء البحث عنها والتمسك بها, إذ من شأن هذا الإنكار ازدهار الذاتية والاعتزاز بها على حساب الموضوعية, مما يعيد للفرد ثقته في نفسه وفي قدراته. كما أن عدم الاعتراف بوجود مثل هذه الحقيقة الموضوعية من شأنه إمكان إخضاع كل الأفكار والآراء للتساؤل والشك. فليست هناك أفكار مجردة, كما أن كل القيم والمثل والمبادئ المتوارثة هي مجرد أقنعة تخفي وراءها أهدافا أخرى من شأنها مساعدة الذين يملكون القوة (الإنسان الأبيض أي الغرب, الذي يمارس الغزو, والاستعمار والتمييز العنصري, وإبادة الجنس البشري والتحرر الجنسي وغيرها) على التمكن والتحكم والتسلط. وبقول آخر أكثر وضوحًا, فإنه بدلا من الموضوعية تدعو ما بعد الحداثة إلى الذاتية; وبدلا من الإيمان بالتقدم فإنها تشكك في إمكان تحقيق هذا التقدم; وبدلا من البحث عن الأفكار والقيم المطلقة تذهب إلى أن كل شيء نسبي في الحياة; وبدلا من الإيمان بالأخلاق ترى أن كل شيء يخضع للذوق والمفاضلة والاختيار الشخصي, وبدلا من البحث عن العموميات تهتم بما هوخاص وشخصي وهكذا. وباختصار فإن ما بعد الحداثة تذهب إلى التشكك في الصدق واليقين وتهتم بقيم التجربة الذاتية وترى أن إمكانات الاتحاد والتعاون والتجمع والتكافل هي أمور نادرة الحدوث وصعبة التحقيق, بل إنها دعاوى مراوغة, كما ترى أن من الصعب قيام حكومات ليبرالية صالحة وعادلة, وتستجيب لمطالب الشعوب. وإذا كان الفيلسوف الألماني - فردريش نيتشه - الذي يعتبر أحد رواد الدعوة الأوائل إلى ما بعد الحداثة, قد ذهب إلى القول بموت الإله فإنه لم يلبث أن قال بموت العلم والعقل والأخلاق, وأن المشروع العلمي في القرن التاسع عشر قد سلب الإنسان المعاصر قواه وملكاته, وأن من شأن الأخلاق أن تجعل الإنسان مخلوقا عاجزا عن إدارة نفسه بنفسه, ولذا فإنه كان يفضل الإنسان (الهمجي) على الإنسان المتحضر المتقدم, لأنه يتصرف حسب ما تمليه عليه طبيعته, وكيفما شاء دون أن يؤنبه ضميره على ما يفعل.

إرادة القوة

          فكأن المبدأ العام, الذي يجب أن يحكم الإنسان هو(إرادة القوة) في عمل كل ما من شأنه هدم أسباب القهر وفرض الإرادة على العالم. ولا يعني ذلك أن ما بعد الحداثة تعتقد أن العلم والتكنولوجيا والعقلانية قد أسيء استخدامها, بحيث نتج عن ذلك كل تلك المساوئ والمتاعب والأضرار, وإنما هي تذهب إلى أبعد من ذلك, حيث ترى أن هذه القيم والمبادئ, وكذلك المجتمع الحديث, الذي تنتشر فيه هذه القيم والمبادئ هو بالضرورة مجتمع يؤدي بطبيعته إلى قيام هذه النزعات والمثل والقيم ويؤمن, بالضرورة أيضا, باستخدام القوة وتدمير المجتمعات والجماعات المحلية الصغيرة ويعمل كل ما من شأنه أن يساعد على ازدهار أساليب التسلط والقهر والكبت وغيرها. ومن هنا كانت ما بعد الحداثة تمثل هجوما واضحا وصريحا على كل القيم والمبادئ والقواعد المحورية, التي يؤمن بها المجتمع الحديث.

          ولكن السؤال المهم هو: إلى أين يقودنا هذا كله? وهل يمكن أن توفر ما بعد الحداثة بدائل عن القيم, التي تشكك في أهميتها, بل وتنكرها تماما? وما نوع المجتمع, الذي يمكن أن تقوم فيه القيم الجديدة البديلة على فرض وجودها?

          يتوقع كثير من المفكرين (المناوئين لما بعد الحداثة) أن يؤدي إنكار القيم, التي أتت بها فلسفة التنوير إلى قيام مجتمع يغلب عليه التفكك والصراع, ولا يرتكز على قواعد أومبادئ راسخة وثابتة, ولن تكون له سياسة عامة أو مثل عليا مشتركة تستطيع أن توحد بين الناس وتربطهم بعضهم بعضًا, وإنما ستكون هناك بدلا من ذلك جماعات متمايزة ومتنافرة داخل المجتمع الواحد, تحاول كل منها فرض إرادتها وسطوتها على بقية الجماعات الأخرى, دون أن تكون هناك أي محاولة جادة للتعاون معًا, وإنما سوف تعمل كل فئة على تحقيق مصالحها الخاصة بصرف النظر عن المصلحة العامة, أو الالتزام السياسي والوطني. وتجد هذه النظرة (المتشائمة) ما يؤيدها في الواقع القائم الآن بالفعل, وبخاصة في أمريكا, التي تعتبر مجتمعا تعدديا بكل معاني الكلمة. وقد يؤدي استفحال هذه الأوضاع المترتبة على ما بعد الحداثة, إلى سيطرة مشاعر اليأس والوقوع في براثن العدمية Nihilism والعودة إلى العصور المظلمة, إلا إذا بذلت جهود ضخمة للتغلب على هذا التيار العدمي, الذي تنجرف فيه الحضارة الإنسانية, خاصة أن ما بعد الحداثة تنظر إلى المستقبل على أنه شيء صعب التحديد أو التحكم فيه, لأن كل شيء يعتبر نسبيا في الحياة, ولذا ليس ثمة ما يمكن الحكم عليه بالصواب أو الخطأ, مما يؤدي إلى تداخل الأمور وتهافت القيم في المستقبل, ولذا لن يكون أمام الإنسان إلا أن يقنع بالعيش في الحاضر, الذي يحيط به. وكما يقول جان فرانسوا ليوتار Jean-Francois Lyotard إن الماضي مجرد (نص) لا يمكن أن نتعلم منه شيئًا, ولذا يتعين علينا أن نعيش في الحاضر وحده, وهذا في رأي البعض منتهى العدمية واليأس. ولكن الملاحظ في الوقت ذاته أن العالم الغربي هو الذي سوف يواجه مرحلة ما بعد الحداثة بكل (مساوئها), لأن العالم اللاغربي لا يزال يرسف في قيود مبادئ وقيم ما قبل الحداثة, ولم يصل بعد إلى مرحلة الحداثة, التي بدأت مع حركة التنوير.

          والمشكلة, التي تواجه ما بعد الحداثة والمفكرين ما بعد الحداثيين, هي عدم وجود نظرية واحدة أو موحدة عن هذه الحركة أو التيار الفكري, بل ولا يوجد لها تعريف واحد مقبول ومعترف به, وإنما توجد بدلا من ذلك مواقف متضاربة ومتصارعة ناجمة في الأغلب عن الغموض المحيط بالتغيرات الاجتماعية والسياسية الحالية. ولكن على الرغم من عدم وجود مثل هذا التعريف, فإن الفكرة الأساسية في هذه الحركة هي الاعتقاد بأن أساليب العالم الغربي في الحياة والفكر لم تعد تصلح للحاضر والمستقبل لأنها مستمدة من مبادئ قديمة أصبحت مرفوضة وأن عصر الحداثة قد انتهى بالفعل, ولذا فمن الضروري تهيئة المسرح وإعداده لمستقبل جديد.

ضد العقل والفهم

          ويقود حركة ما بعد الحداثة مفكرون مشهورون من أمثال: فوكوه ودريدا وليوتار في فرنسا, وقد أسهموا في وضع أسس الحركة وإستراتيجيتها الأساسية وحددوا مسارها. وقد حدد فوكوه الأهداف الكبرى الأساسية لما بعد الحداثة في عبارته الشهيرة (إن كل تحليلاتي تنكر فكرة وجود أساسيات أو ضرورات واحتياجات عامة في الوجود الإنساني). فمثل هذه الأساسيات والضرورات يجب إزالتها ومحوها تمامًا, لأنها متوارثة من الماضي, كما أنه ليس ثمة معنى في الدفاع عن العقل أوالحقيقة أو المعرفة أومهاجمتها. وهذا معناه في آخر الأمر أنه لم يكن هناك ما يستحق الفهم فليس ثمة فائدة من التفكير أو الفعل كما أنه ليس هناك ما يمكن أن يتحكم في مشاعرنا وأفكارنا أو يوجهها ولذا فإنه في استطاعة أي شخص أن يتكلم أو يتصرف بالطريقة, التي تحلو له مادامت الحضارة الغربية لم تستطع أن تنتج سوى السيطرة والقهر والدمار, من خلال التمسك بدعاوى العقل والصدق والحقيقة.

          وتختلف الآراء حول طبيعة ما بعد الحداثة. فهناك من يرى أن دعاوى ما بعد الحداثة ليست جديدة تماما وإنما هي مجرد تعديلات وتحويرات نشأت نتيجة لتغير الظروف والأوضاع المحيطة بالحضارة الغربية, ولا تتأثر بها المبادئ الأساسية والمقومات الأصلية لتلك الحضارة. ولذا فإن ما بعد الحداثة لا تؤلف مرحلة قائمة بذاتها ومتميزة, وإنما هي مجرد استمرار لمرحلة الحداثة لدرجة أن ملامحها الأساسية لم تتضح بعد. في مقابل ذلك يذهب فريق آخر من المفكرين إلى أن ما بعد الحداثة تمثل الفجوة, التي تفصل بين الثقافة الرفيعة الراقية, التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر, وحتى منتصف القرن العشرين, والثقافة الشعبية المتدنية أو المتردية الضحلة, التي تسود الآن في كثير من الأوساط في مختلف شعوب العالم, والتي تمثل حالة من التدهور والتخلف الثقافي والاجتماعي والسياسي ينبغي التصدي لها. وهذا معناه أن الاختلاف جوهري بين حالتين من الثقافة, لكل منهما خصائصها, ومقوماتها المتميزة, وذلك على عكس ما يذهب إليه البعض الآخر من أن الاختلاف بين المرحلتين هو اختلاف في الدرجة, وليس في النوع, وأن أقوال وآراء وأفكار وتعبيرات ما بعد الحداثة ليست سوى نوع من التلاعب اللغوي بالألفاظ, وهوتلاعب يتقنه تماما كثير من المفكرين المعاصرين, الذين تأثروا بالبنائية الفرنسية وأفلحوا في صياغة مصطلحات غامضة للإيحاء بأنها حركة فكرية جديدة وأصيلة وتمثل كسرا في مسار التفكير.

ثنائيات متناقضة

          وعلى أي حال فإنه لم يتم حتى الآن تحديد ملامح ما بعد الحداثة بدقة ووضوح, بحيث نجد أن هناك من المفكرين من يذهب إلى أن المفهوم يتضمن (استحالة التحديد), نظرا لغموض واتساع مجاله, بحيث يشمل كل المعرفة الإنسانية بكل تفرعاتها وتنوعاتها, وما تحققه الآن وما يمكن أن تحققه في المستقبل من تقدم علمي وتكنولوجي (انظر في ذلك مقالنا عن: (البحث عن ما بعد الحداثة) -  مجلة العربي, عدد يناير 2001).

          ويترتب على هذا كله -  على ما يقول ستيفن بست Steven Best ودوجلاس كلنر Douglas Kellner في دراسة طريفة عن (سياسات ما بعد الحداثة والصراع من أجل المستقبل), أن يجد الإنسان نفسه في الوقت الحالي موزعا بين الحداثة وما بعد الحداثة, أو بين التقاليد والمعاصرة, أو بين ما هو عالمي أو كوكبي global وما هو محلي, أو بين ما هوعام وشامل وما هو خاص وجزئي, أوبين أشياء أخرى كثيرة متناقضة يصعب معها تحديد موقف الإنسان من الحياة في مجتمع الغد ونظرته إلى الأشياء وعلاقته هو نفسه بكل ما يحيط به. وهذا موقف مؤلم بكل المعايير ومليء بالضغوط والتوترات, مما يتطلب العمل على تغيير هذا التناقض والتضارب ومحاولة إيجاد صيغة للتوفيق بين الحداثة, بكل ما يرتبط بها من مبادئ وقيم وأخلاقيات وسلوكيات وأفكار, وبين ما بعد الحداثة التي تنكر كل هذه المقولات وتتمرد عليها. أي أن الأمر يقتضي العمل على إزالة التوترات القائمة بين الأوضاع المتوارثة, التي تدور حول أفكار وتصورات واضحة عن مفاهيم التماسك والتضامن والحقوق العامة والانتماءات الاجتماعية والسياسية, وبين التحديات, التي تمثلها ما بعد الحداثة والأفكار الجديدة التي تدور حول الاختلاف والتعدد وتعقد وتشعب الاتجاهات والتوجهات الفكرية عن الهوية وغيرها. فالأمر يقتضي إذن التوصل إلى صيغة ينطبق عليها التعبير الشائع في بعض الدراسات عن الحداثة وما بعدها, وهو(الوحدة المتفاضلة الأطراف Differentiated Unity) وذلك على اعتبار أن الوحدة المجردة أو المطلقة, التي ارتبطت بحركة التنوير وفلاسفته, والتي تمثلت في وحدة الطبيعة البشرية, هي في حقيقتها -  من وجهة نظر ما بعد الحداثة -  وحدة زائفة تخفي وراءها كثيرا من الاختلافات والتمايزات والانشقاقات والجماعات والاتجاهات والمواقف المتضاربة والمتناقضة, والتي يمكن أن تؤدي إلى انفجار المجتمع الإنساني.

          والمعضلة, التي تواجه مفكري ما بعد الحداثة هي البحث عن طريقة يمكن أن تؤدي في المستقبل إلى تجنب الصراع والحروب, وإقرار العدالة الاجتماعية والقضاء على عدم المساواة وعلى الفقر والتغلب على النتائج السيئة المترتبة على النمواللاعقلاني وسيطرة الاقتصاد الرأسمالي (العولمة), والمتمثل في بعض المؤسسات والمنظمات الأمريكية أوالدولية الكبرى, التي خلقت كثيرا من الأزمات الاقتصادية والبيئية. وثمة محاولات يبذلها المهتمون بمستقبل العالم, للتقريب والتوفيق بين متطلبات الحداثة, وما بعد الحداثة وإزالة التنافر بين الاتجاهين وإيجاد صيغة موحدة, بدلا من الرفض المتبادل واستخدام هذه الصيغة في تحقيق المصلحة العامة للمجتمع الإنساني ككل. ولكن تبقى بعد هذا كله المشكلة الأساسية المرتبطة بما بعد الحداثة, والتي قد تكون عقبة أمام جهود التقريب والتوفيق, وهي عجز ما بعد الحداثة, عن أن تصل إلى تحديد دقيق لتصورها عن عالم المستقبل, وما سيكون عليه الوضع الإنساني في ذلك العالم.

 

أحمد أبوزيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات