الحبشة وهجرة الصحابة

الحبشة وهجرة الصحابة
        

          سعدت بملف علامة السودان وأديبها الراحل المقيم د. عبدالله الطيب المجذوب 1921-2003 بـ(العربي) الغراء العدد (552) نوفمبر 2004, التي كتبها من شغاف قلوبهم: د.حصة الصباح, دعبدالله الغنيم, د.محمود الربيعي, والأستاذ الشاعر الكبير فاروق شوشة. وكم كنت أتمنى أن يكون العدد كله عن هذا النابغة العلامة د. الطيب عليه سحائب الرحمة.

          ولفت انتباهي, متابعة د.الغنيم لبحوث د.عبدالله الطيب, خاصة (مجمعياته), ومنها بحثه حول هجرة المسلمين إلى الحبشة في أول ظهور الإسلام, وأن الحبشة التي هاجر إليها المسلمون, لم تكن حبشة أكسوم. والرد المقنع الذي ذكره د. الغنيم لم يبعد د. عبدالله الطيب عن الحقيقة كثيرًا, عند ذكره أن نزول المهاجرين الأوائل للحبشة لم تكن عند حبشة أكسوم. وللمرحوم د.زاهر رياض عالم السودانيات رأي جدير بالتأمل يقول فيه: (خرج المهاجرون من مكة في رجب سنة خمسة من النبوة, وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة (الموافق 616م), وفق الله لهم سفينتين للتجار, حملتاهما إلى أرض الحبشة, إلى بلدة معدر الواقعة على الساحل الغربي للبحر الأحمر, ثم ساروا إلى بلدة من تجري تعرف الآن بأحمد نجاشي).

          ومنه يتضح الآتي: 1- كانت الهجرة في الصيف, والأنهار تمتلئ في الحبشة في نهاية الصيف, حيث تسقط الأمطار في فصل الصيف. (مطر غزير بين يونيو وسبتمبر, وآخر قصير بين مارس ومايو).

          2- بلدة معدر, لعلها هي (ميدري جيلتي), أي أرض الأحرار, وكانت تطلق على إريتريا, وأغلب الظن أن الهجرة إلى الحبشة كانت تسير بالبحر الأحمر من جدة حتى جيزان, ثم جزر فرسان, ثم جزر دهلك, ثم مصوّع (بوغوص = البوغاز) في إريتريا, وهي تقع على شرق كسلا السودانية بحوالي 100 كيلومتر, ثم أسمرة, وهي حاضرة إريتريا, ويبدو أن الصحابي الجليل الزبير بن العوام, قد سبح بالقربة, إما نهر خور بركة, أو خور القاش, أو نهر تكازي, والأقرب لمصوع خور بركة (هناك رواية غير موثقة تقول إنه سمّي تيمنًا بعبور الصحابة منه للنجاشي), وأغلب الظن أن مقر حكم النجاشي كان في موقع مدينة أسمرة الآن الواقعة شمال أكسوم. (نجاشي = بحر نجش أي حاكم البحر).

          والتجري إقليم يقع غربي أسمرة على نهر العطبرة, لعله كان قديمًا ممتدًا حتى أسمرة حاضرة إريتريا, كل هذه الأدلة تؤكد نزول المهاجرين في الهجرة الأولى للحبشة في إقليم تجري, الواقع الآن في إريتريا المتاخمة لحدود السودان الشرقي, ذات الأخوار العديدة, ومن أكبرها بركة والقاش.

          الموضوع يحتاج إلى دراسات جغرافية وتاريخية واقتصادية ولغوية, حتى نقف على مسار الرحلة المباركة للهجرتين الأولى والثانية من المسلمين للحبشة. وإني أعد نفسي متطفلاً على دراسات البحر الأحمر, وأعتقد أن أبناء إريتريا من الدارسين, وكذلك مسلمو أثيوبيا لهم رأيهم في الموضوع ذاته, خاصة أهل العلم في التاريخ القديم والآثار.

          أما معلقة طرفة بن العبد وقوله:

عدوْلية أو من سفين ابن يامن يجور بها الملاح طورًا ويهتدي


          فقد كان لتشابه ميناء عدوليس (أدوليس) وعدولي, قرية البحرين, التي كانت تصنع فيها السفن العظيمة. والمعلقة تتحدث عن محبوبة طرفة (خولة), وقد كانت بيضاء, فحب الوطن تغلب على عشق العلم في هذين المضمارين عند الراحل المقيم د.عبدالله الطيب, عليه سحائب الرحمة.

          وهذه الآفة موجودة في معظم طبقات أبناء الحضارات القديمة: النوبة, السودان, إريتريا, الحبشة, السنغال... وغيرها, من ليّ عنق الحقيقة للوصول لغايات وطنية, لم ينج منها إلا قلة نادرة, على رأسهم د. عبدالمجيد عابدين 1915-1991م, ود. عبده بدوي - شفاه الله وعافاه - ود.يوسف فضل حسن - متّعه الله بالصحة والعافية - فلهم (سودانيات) مستلّة من التراث العربي, من شعراء وأدباء وساسة وخلفاء وعلماء, وعادات وتقاليد جديرة بالقراءة والنظر فيها.

          ولولا علمي بشعبية د.عبدالله الطيب في السودان ومصر والوطن العربي, وأخذ الكثيرين معظم أقواله قضايا مسلّمة, ما كتبت هذا التعقيب. فإني أحب د.عبدالله الطيب, ولكن حبي أشد للحقيقة العلمية المجردة, وللحقيقة نفسها. رحم الله هؤلاء العلماء الأجلاء. حملة التنوير بالتراث العربي وبالمستقبل.

عبدالرحمن عوض
باحث في السودانيات
عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات