أين تعرفت إلى الفلسفة... والبحر?!

أين تعرفت إلى الفلسفة... والبحر?!
        

          سأل الطفل أمه: (لماذا ياأمي تبكي نساء البحارة?) قالت الأم: (لأن في عيونهن ماء مالحًا يا بني!). أما أنا, فقد ولدت وفي فمي هذا الماء المالح, لكنه, هذه المرة, كان ملح الشقاء, وملح التجارب, وملح العذاب, جسديًا وروحيًا, في سبيل العدالة الاجتماعية, صبوة البشرية إلى الخلاص). لذلك كان بدهيا أن أطرح, منذ وعيي الوجود, أسئلتي على هذا الوجود, وأن أتعمّد, في البحر بماء العاصفة, وأن أعاين الموت كفاحًا, في البر والبحر معًا, وما الحياة - قولة الطروسي, بطل (الشراع والعاصفة) - إلا (كفاح في البحر وفي البر) معًا, وبغير انقطاع, لأن ذلك قانون من قوانين الطبيعة, أمنا جميعًا.

          لقد كان طريفًا, قبل أن أتعرّف على الفلسفة, مادية ومثالية, من الكتب, أن أعرفها من الناس, والبسطاء خصوصًا, وأن أدخل البحر, لا من الشاطئ كالآخرين, بل من اللجة رأسًا, حيث ألقيت مصادفة أو عمدًا, في مائها وأنا طفل, لم يتعلم السباحة, ولا جرّبها قبلاً.

          أما كيف حدث ذلك, وأين تعرفت إلى الفلسفة والبحر, فهذا من وقائع, وغرائب, الحياة التي عشتها, لذلك, أرجوكم, لا تسألوني لماذا? وكيف? وما الدوافع? وما التفاصيل? لأنني أرغب عن تكرار حكاية البحث عن الرغيف, حين بدأت, في الثانية عشرة من عمري, بعجن الصخرة الملعونة, لأصنع منها كسرة خبزي!

          كان ذلك, قبل أربع وستين سنة, يوم كلمت الورقة, وصرت, من بعد, كاتب رسائل الحي, لأنني الولد الوحيد, في حي المستنقع, الذي تعلم فكّ الحرف في مدينة إسكندرونة, في اللواء العربي السليب, ومن عجب أن كل تلك الرسائل كانت مبللة بالدمع, سواء التي أكتبها للناس, أوالتي أقرأها لهم, فالشكوى من الفقر والمرض, والموت, تآبين مفجعة في السطور, وكان الذي أكتب له رسالة, رجلاً أو امرأة, يملي علي ديباجة تبدأ, عادة, بمثل هذا التفجّع: (آخ! على آخ!).

          وهذا ما أنْبَتَ في نفسي, في تلك الطفولة المبكرة, الشقية, حبا لا ينتهي للعدالة, للسعادة, للفرح, وزوال الشقاء من الدنيا.

          وبعد شهادتي الابتدائية, وهي الوحيدة التي حصلت عليها, عملت أجيرًا عند صاحب دكان لتأجير الدراجات, كان هذا المعلم, ويدعى عفيف الطويل, مشبوهًا, فقد ضبط, في أول مايو, يعلق بيارق صغيرة حمراء, على أعمدة الهاتف, وفي بيته, حيث يعيش مع أخته الخياطة, صُودرت كل الفساتين من اللون الأحمر الفاقع, الذي كان موضة تلك الأيام.

          كان معلمي أسمر, طويلاً, فيه طيبة, وفيه ملاحة, لكنه بسيط, لا يخطر لك, وأنت تراه, أنه في حلقة ما, تعقد اجتماعاتها في المغائر, على ضوء الشموع. ولأن معلمي أمي, فقد كان يأخذني, مساء, لأقرأ له بعض النشرات, وفيها, لأول مرة, قرأت كلمة فلسفة.

          قلت له: ما معنى فلسفة يا معلمي?

          قال: معرفة القوانين...

          - أي قوانين...?

          - القوانين الغربية التي تحكي عن الدنيا والناس والتاريخ, والفقر, والغنى...

          - وأين يبيعونها...?

          - في بلاد (برّة).

          - ولماذا لا يبيعونها عندنا?

          - لأنها ممنوعة...وهي مكتوبة بالفرنجي..

          - وكيف عرفت بها أنت?!

          - هذا سر...أنت صغير بعد...لا تسألني عن الأسرار!

          أضاف:

          - الفلسفة كالبحر...شيء واسع, عجيب, لا يفهمه إلا المتعلمون جدًا.

          - ومَن الذي صنعها...?

          - رجل نسيت اسمه.

          - اجتمعت به?

          - هذا رجل ألماني له لحية كبيرة...أنا رأيت صورته فقط.

          - وكيف فهمت كلامه...?

          - أنا لم أفهم كلامه...الفلسفة, يا بني, علم صعب, والفيلسوف رجل عالم, قرأ كل ما كتب عن العالم, ويعرف كل شيء, رأسه يتسع للمعرفة, كما يتسع البحر للماء.

          تخيلت عندئذ رأس هذا الفيلسوف كبيرًِا كالجبل, وجسمه عملاقًا كجسم الغول في الحكايات التي أسمعها, وأنه يحفظ, في هذا الرأس, كل ما كتب, وأنه عظيم, لا شبيه له بين الرجال الذين أعرفهم.

          لكن عبده حسني, وقد قُتل في الحرب الأهلية اللبنانية...واأسفاه! وهو العامل خليل في روايتي (الثلج يأتي من النافذة) قرّب صورة الفيلسوف إلى ذهني بأن قال لي: الفيلسوف يشبه ابن عبده ينّي. كان هذا صاحب المطبعة الوحيدة في اسكندرونة, وله ابن يقرأ كثيرًا, ويمشي في الشوارع وحيدًا, شارد النظرات, صموتًا, مفكرًا, وقد سمعته يخطب لأول مرة, حين زار سياسي كبير اسكندرونة عام 1936, وخطب في سينما روكسي, ومزّقت معطفي اليتيم وأنا أزاحم الناس, للدخول وسماع ما سوف يقال في هذا الاجتماع.

          منذ ذلك اليوم, صار للفيلسوف احترام كبير في نفسي, وارتسمت له صورة أقرب إلى النحول, والشعر المنفوش, والنظرات الشاردة, والإبط الذي تحته كتاب كبير ككتاب (ألف ليلة وليلة), ورحت أحلم, على طريقتي الصبيانية, أن أصير فيلسوفًا, إذا ما قرأت كثيرًا, على ضوء فانوس الكاز, بعد أن أغلق دكان الدراجات على نفسي, عقب انصراف معلمي عفيف الطويل.

          ولإضفاء المظهر الفلسفي على نفسي, طفقت أنفش شعري, وأسير وحيدًا, وأحمل كتاب (المدارج) في يدي, وأتعمّد قلة الكلام, وأقول لأترابي متباهيًا: أنا أعرف رجالاً لا تعرفونهم, رجالاً يحبون الفقراء ويكرهون الفرنسيين والحكومة التي صنعوها لنا.

          وحين سجن معلمي عفيف, ونقل مع بعض رفاقه إلى حلب, ليحاكم أمام المحكمة الفرنسية المختلطة, وأغلقت الدكان, عملت في الميناء, واختلطت بالعمال, وصرت أنزل البحر في مواعين الشحن, وهناك أرسم على الأكياس, بحبر الكوبيا, بعض الأرقام والماركات, وأصغي, من طرف خفي, إلى ما يقوله العمال عن (السنديكا!) (1).

          وذات يوم, عند الظهر, أفرغنا حمولة الماعون, وتأخر الزورق الذي يأتي من الميناء ليقطرها, فجلسنا, العامل فاضل وأنا, في قاع الماعون, نتبادل الحديث, عن المدرسة, والشهادة الابتدائية, وعمّا أقرأ من كتب, وما إن أنس فاضل إلي, وعرف أنني أحب المطالعة, وكنت أعمل أجيرًا عند عفيف الطويل, حتى أخرج من تكّة شرواله ورقة صغيرة مطوية بعناية, هي المنشور الأول الذي وقع في يدي, وكان فيه ذكر للفلسفة, فدُهشت لأن عاملاً مثله يحمل منشورًا ولا يخاف, وأنه من جماعة عفيف الطويل, وعبده حسني, وإن لم يذكر هو هذين الاسمين.

          قرأت المنشور ولم أفهم ما فيه إلا قليلاً, كان فاضل في الأربعين تقريبًا, فقلت له: يا عم فاضل, أنا أقرأ (المدارج) فأفهمه, واقرأ الإنجيل وكدت أحفظه في المدرسة الابتدائية, لكنني, في هذين الكتابين, لم أقرأ اسم فيلسوف, ولا كلمة فلسفة.

          قال العم فاضل: في هذه الكتب لا يذكرون الفلاسفة, هذا خطر, ولا يشرحون كلمة فلسفة, لأنها صعبة, أنا نفسي لا أعرف ما هي, لكنني, نتيجة التجربة, صرت فيلسوفًا على طريقتي, أعني تعلمت أن الفلسفة ليست (أكلة مجدّرة), بل هي عمل...أن تعمل, كما نعمل نحن, تصير فيلسوفًا ولو بغير كتب, تأليف نقابة مثلاً, هذا ما تقول به الفلسفة, أن تحتفل بأول أيار (مايو), عيد العمال, هذا فلسفة, أن تتظاهر ضد الفرنسيين, هذا فلسفة, أن تثق أن الفقراء لن يبقوا فقراء, وأن أغنياءنا لن يظلوا يمتصون دمهم, هذا فلسفة, أن تعرف أنه في بلاد (المسكوب) قامت دولة العمال والفلاحين, وأنها معنا, هذا فلسفة...وأخيرًا أن تؤمن أن العدالة ستنتصر في كل مكان, هذا فلسفة.

          اعترف! هذا العامل البسيط علّمني أبجدية الفلسفة, جعلها مفهومة في نظري. وقد سعيت, في ركضي وراء الرغيف, إلى تطبيق نظريته, وهي ترجمة عملية لمضمون الفلسفة التي قرأتها في المظاهرات ضد فرنسا, وفي رشق رجال البوليس والدرك بالحجارة, ويوم زار زعيم عربي اسكندرونة قادمًا من أنطاكية, واعتقلته السلطة الفرنسية, تجمهرت مع الناس أمام السراي, مطالبين بالإفراج عنه, ورشقنا السراي بالحجارة, فكسرنا زجاج نوافذها, فكان أن أطلقوا النار علينا, وقُتل زميل لي على مبعدة أمتار مني.

          ودارت الأيام, دخلت تركيا لواء الإسكندرونة, هاجرنا إلى اللاذقية, عملت في قطاف الزيتون, قمت بتوزيع الصحف, تعلمت مهنة الحلاقة, فتحت دكانًا صغيرًا قريبًا من الثكنة, وكنت أقفل دكاني, كلما سمعت بإضراب, أو خرجت مظاهرة, ثم حضرت اجتماعًا لعصبة العمل القومي, تكلم فيه رجل يلبس الفيصلية, وبيده عصا, وعلى الجدار خريطة للبلاد العربية, وكل ما وعيته من كلامه, أن علينا أن نناضل لتوحيد كل هذه البلاد, وبذلك نصنع دولة كبيرة, تقاوم الفرنسيين والإنجليز, وتستعيد اللواء وفلسطين, ومنذئذ صارت الوحدة العربية حلمًا جميلاً, ثوريًا, في ذاتي.

          في دكان الحلاقة قرأت كثيرًا, كان يجتمع عندي بعض طلاب المدارس, وحتى بعض الذين انتسبوا إلى الجامعة في دمشق, عند عودتهم إلى اللاذقية, ويناقشونني في بعض المسائل, وقد أفدت من هذه المناقشات, ومن قراءة الصحف والمجلات كثيرًا, وفي إحدى الليالي زارني رجل حلبي بطربوش, وقدم إليّ نفسه باسم عبدالجليل سيرس, وقال إنه سمع بي, وإنه يزور اللاذقية في (مهمة) خاصة, هدفها إنشاء النقابات, وأشياء أخرى, وسألني عمّا أقرأ, وأوصاني بمطالعة بعض الكتب, وأعطاني كراسات صغيرة, من بينها كراس مترجم, مؤلفه (سيجال) على ما أذكر, ومنه تعلمت المبادئ الأولى للفلسفة, وأصبحت, شيئًا فشيئًا, مثقفًا في نظر نفسي, وازددت حماسة للنضال, ودخلت السجن مرات عدة, وضربني رقيب في الدرك يُدعى أبو حمد, واشتهر بالقسوة وقوة العضل وعدم الخوف, لأنني نشرت رسالة ضد فظائعه في جريدة سورية تصدر في دمشق, حتى امتلأ رأسي بالكدمات, وازرق وجهي, وتجمع الدم في عيني, وكتب, يومها, المرحوم وصفي البني مقالاً استهله ببيت من الشعر يقول:

          (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة) على اعتبار أن هذه الأعمال المنافية للديمقراطية, يقوم بها رجال الدرك السوريون, وقد تعلموها من الفرنسيين, وبزّوهم فيها.

          بدافع من هذا التعذيب, كتبت مسرحية أنا بطلها, وحوادثها تغيّر العالم, أو تصنع عالمًا جديدًا في ستة أيام. وأرسلت مقالة إلى جريدة (الأحرار) في بيروت, استحلف فيها صاحبها, على طريقة جبران خليل جبران, بالمرأة التي هي أكسير روحه, أن ينشر المقالة, لكنه لم يفعل, وإن كان قد بعث لي برسالة صغيرة, يقول فيها إن مقالتي غير صالحة لأسباب عدة, أهمها أن فيها أفكارًا لا تنسجم وخطة الجريدة.

          كانت الصحف, آنذاك, والحرب العالمية الثانية مشتعلة, بأربع صفحات, فلم أيأس, وكتبت مقالة لجريدة أخرى لم تنشرها, ولكنها أشارت إليها بأربعة أسطر, وقد غمرتني السعادة, لأنني أرى اسمي مكتوبًا في صحيفة لأول مرة, ثم كتبت قطعة صغيرة بعنوان (طفلة للبيع) نشرتها إحدى المجلات, فعمدت نفسي كاتبًا, لا بواسطة القدّيس يوحنا, ولا في نهر الأردن, بل في بحر اللاذقية, وشكّلت قلمًا في سيّالة سترتي.

          عام 1947هاجرت من اللاذقية, صارت دكان الحلاقة مشبوهة, ولم يعد أحد يحلق عندي, فقصدت بيروت, ولم أتوفق في الحصول على عمل, فتركتها إلى دمشق, وفيها عملت مجانًا في الصحافة لمدة ثلاثة أشهر, وكان معلمي, أي سكرتير التحرير, المرحوم أحمد علوش, الذي صار صاحب مجلة (الصرخة) فيما بعد.

          في دمشق, اتصلت بالمثقفين, واشتركت في تأسيس (رابطة الكتّاب السورييين), ثم رابطة (الكتّاب العرب), وقرأت (رأس المال), وصارت معرفتي بالفلسفة أوثق, لكن ما قاله لي العامل (العم فاضل) في قاع سفينة الشحن, ظل أساسًا عمليًا لنشاطي الحياتي, ودخل, بأشكال مختلفة, في كتاباتي الأدبية...ولم يخرج!

          هذه, بسطور, حكايتي مع الفيلسوف (الذي رأسه بحجم الجبل, وجسمه عملاق كرجل أسطوري) وكلما رأيت صورته الآن, بلحيته البيضاء, وجبينه العريض الوضاء, وشعره المسترسل, ونظراته النجمية, ابتسم لطفولتي التي بعد بها العهد, بمقدار ما اقترب هذا الفيلسوف من قلبي ونفسي, لأنه, بفكره العظيم, أعطاني مفهومًا عن العالم, منحني الرؤية التي فتحت عيني, وأضفى على مهنتي الأدبية, لا الوعي وحده, ولا المعرفة وحدها, بل الجمالية أيضًا.

          يخطئ من يظن أن إنسانًا قادر على فهم العالم دون أن يقرأ الفلسفة, على هذا الفيلسوف أو غيره, ويخطئ أكثر من يحسب أنه قادر على الكتابة دون الاطلاع على الفلسفة, ليس بصفتها (وصفة) بل كمرشد عمل, في السياسة والأدب على السواء.

          الآن, من الذي بقي, في بلادنا وفي الدنيا, يجهل الفلسفة والفلاسفة, إذا كان مثقفًا? ومن لم يستفد, كثيرًا أو قليلاً, من حقائق الفلسفة التي صارت منارة للمبحرين في المحيطات, والسائرين في الصحارى, والبائسين في المدن والأرياف, والعاملين في الجامعات والمكاتب والمصانع والحقول?

          سئل غوركي مرة: كيف تعلمت الاقتصاد? كان عندئذ يعمل حمّالا على نهر الفولغا, فقال: (انظروا إنه منقوش على ظهري!).

          تسألونني كيف تعرفت إلى الفلسفة: أقول لكم: في قاع سفينة شحن, ومنذ ذلك اليوم الحزين, أصبحت مفاهيمها منقوشة على قلبي, راشحة, مع عرق التعب, من مسام جلدي!

          أما البحر فإن لي, معه قصة أخرى طريفة.. كنت في الثامنة من عمري, يوم أخذني الإخوان قلفاط, من زملاء المدرسة, الصف الأول, إلى البحر في الإسكندرونة.. وقد زعم أصغرهما, نقولا, أن الجرأة وحدها, هي التي تعلم الإنسان السباحة.

          سألته:

          - كيف?

          قال:

          - أن تذهب إلى رأس (الصقالة) وترمي نفسك في البحر.

          - وإذا غرقت!?

          قال الأخ الأكبر, دميان:

          - يكون هذا أفضل!

          قلت خائفًا:

          - كيف يكون هذا أفضل? الغرق يعني الموت!

          فكّر دميان, وكانت له عينان,جفونهما حمراء ومقلوبة, ونظر إلي باستخفاف وقال:

          - من لا يعرف أن يسبح, من الأفضل له أن يموت!

          أنا, الآن, أرى هذا القول حكمة! دميان كان حكيمًآ على طريقته, فمن لا يعرف أن يسبح فمن الأفضل له أن يموت, وقد قال أبو القاسم الشابي, مترجمًا هذه الحكمة النثرية إلى شعر:

ومن يتهيّب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر


          إلا أنني, في تلك السن من طفولة مبكرة وعليلة, ما كنت أعرف الحكمة ولا الشابي ولا صعود الجبال, أو المغامرة في البحر, لذلك قلت:

          - ألا يمكن أن أتعلم السباحة على الشط?

          قال نقولا:

          - يمكن?

          ردّ دميان, أكبرنا سنًا, وقائد طفولتنا:

          - أنا أقول لا يمكن, يعني لا يمكن!

          سكتّ, تلبستني حيرة, تقلدتني مخاوف, سرت وراء دميان وأنا أرتجف من الخوف والبرد, لأننا كنا في الخريف, وكنت ألبس سروالاً داخليًا من الشيت الأزرق, ومشينا على الصقالة, إلي أن صرنا في البحر, على عمق أمتار, فألقى دميان بنفسه في الماء, غطّ وطلع, فعل أخوه نقولا مثله, بقيت وحيدًا, أرى وأتحسر على نفسي, إلى أن قررت أن أعود إلى الشاطئ الرملي, حيث أنزل الماء, كما يفعل الأطفال الذين في مثل سني, وفجأة صاح بي دميان:

          - إلى أين?

          - الى الشاطئ!

          - يعني إلى الرمل!?

          - كل الأطفال يسبحون هناك!

          - أنت يجب أن تسبح هنا!

          - لماذا?!

          - هكذا.. أنا لا أحب الخوّافين.

          - أنا أخاف لأنني لا أعرف العوم.

          - على الرمل لا يعوم أحد, ولا يتعلم أحد... فهمت?

          -...

          - تعال تفرج إذن كيف نسبح نحن.. راقب فقط حركاتنا, الأيدي والأرجل مثلا.. ألا تعرف الضفدعة?

          - هذه أعرفها.

          - افعل مثلها.

          - أين? في (بركة) المدرسة?

          - (بركة) البحر!

          - الضفادع لا تعيش في البحر.

          - بلى! تعيش.. تعال وانظر إليها!

          سرت إلى رأس (الصقالة) كنت راغبًا حقًا برؤية ضفادع البحر. وقفت, حملقت, انتقلت من طرف إلى آخر.. لم أجد شيئًا, لم أر سمكة واحدة! كانت هناك فلائك, مواعين, وكان عمال وبحارة, وفي البعيد كانت سفينة ترسو, وكان سباحون فتيان يتسابقون نحوها, وكان الإخوان قلفاط, نقولا ودميان, قد حدثاني أن هناك, على طرف السفينة سلّما يصعدون عليه بسهولة, حيث يحظون, من القبطانِ, بالشيكولا والبسكويت, ويتفرجون على غرائب السفينة, مثل السطح, والقمرات, والعنابر, وحتى غرفة القبطان, وكذلك - وهذا هو الأهم - يرون النساء بثياب البحر, شبه عاريات تقريبًا!

          وفجأة دُفعت إلى البحر, عند رأس الصقالة! غطست وأنا أصرخ, ارتفعت إلى فوق, هبطت إلى تحت, شربت الماء المالح, تابعت الصراخ, وعندئذ ألقى دميان نفسه ورائي, أمسكني من يدي قائلا:

          - لا تخف!

          هتفت من حلاوة الروح, وأنا أبكي:

          - أنا أغرق يا دميان! أنقذني.

          قال دميان:

          - حرّك يديك ورجليك فقط.. افعل مثل الضفدعة.. هيا.. سأتركك!

          تركني! ومن جديد رحت أتخبط في البحر, وأنا أحرك أطرافي, إلى أن عمت, فعاد يمسكني من كتفي قائلاً:

          - برافو! تابع يا ضفدعة بريّة!

          تابعت إلى أن تعبت. شربت كثيرًا من ماء البحر, لم أعد أحتمل, تعلّق دميان بقائمة الصقالة الحديدية, سحبني نحوه وقال:

          - تعلّق أنت أيضًا.. افعل مثلي.. استرح..

          استرحت. قال دميان:

          - مرة أخرى إلى البحر..

          أرغمني على العودة إلى الماء, عدت دون صراخ, تخبطت من جديد, عمت من جديد, وقف على مقربة وقال:

          - تعال إليّ.

          حاولت! حاولت! وصلت إليه, استرحت وأنا أتمسك بكتفه, دفعني كي أعوم, عمت.. ابتعد وقال:

          - تعال إلي..

          ذهبت بصعوبة بالغة نحوه.. وعندئذ قال:

          - يكفي اليوم.. تعلّق (بالصقالة).. هيا نصعد.

          عندما صرنا فوق (الصقالة) الخشبية, استلقيت تعبًا. لم أعد خائفًا, إلا أنني تقيأت ماء البحر, ودميان ينظر إليّ ويضحك, ثم جاء واستلقى إلى جانبي قائلا:

          - الضفدع وحده يسبح في (البركة), أما الإنسان فإنه يسبح في البحر.. وفي البحر العميق جدًا يكسر, مرة واحدة, خوفه من الغرق.. يصير دلْفينًا!

          نظرت إليه بكره, لم أتكلم, ما كنت قادرًا على الكلام, عيناي فقط رأتا السماء الزرقاء, عالية جدًا, وطيور النورس البيضاء, تحوّم قريبًا مني في الفضاء, والريح رخية, والسحب البيض, بتشكيلات بديعة, تندفع نحو الأفق, وتأخذني معها. وبعد ذلك, عندما بلغت السادسة عشرة من عمري وعملت في الميناء وعلى المراكب, قلت للريس الطنحر, بعد أن رويت له قصتي:

          - هل صحيح أن الفرق الوحيد, بين الإنسان والضفدع, هو (البركة) والبحر, كما يقول دميان?

          رازني وقال:

          - صحيح.. دميان هذا كان (فلسفونا) بحريًا!

          - فيلسوفًا ياريس!

          - نعم! كما تقول.. لو سبحت على الرمل, ما كنت اليوم معي على المركب.

          وبعد أن تنهد قال:

          - البحر للإنسان و(البركة) للضفدع.. هذه هي القصة كلها! أين صار دميان هذا?

          - لا أدري.. افترقنا منذ تركنا المدرسة.. سمعت أنه هاجر إلى بيروت..

          قاطعني:

          - يعني إلى البحر?!

          أضاف:

          - نعم! نعم إلى البحر.. وإلا فكيف!? اسمع! النسر له الجبل, والبحّار له البحر, تعرف لماذا?

          - لأنه إنسان!

          - تمامًا.. ولكنه إنسان نسر.. نسر بحري.. الطير يصعد إلى فوق, ونحن ننزل إلى تحت, إلى الأعماق.. الجبال والأعماق, والموت, هناك وهنا, بكرامة.. إذا متُّ, وكلنا سنموت, فلا تخش القاع.. إذا متّ! في البحر, فإنك تموت بشكل لائق, وهذه حال النسر والجبل.. موت النسر يكون في الأعالي!

          قلت:

          - ولكن الإنسان أقوى من النسر يا ريّس!

          - لا! هما أخوان! هما رجلان, وكل منهما له ساحته.. المسألة, كلها, تتوقف على جواب هذا السؤال: هل أنت رجل أم ضفدع?

          قلت:

          - رجل!

          ربّت على كتفي وقال:

          - قل هذا غدًا, ودون كلام, للعاصفة حين تهب!

          قلت: سأفعل!

          وفعلت!

          وكان هذا درسًا بحريًا, لم أنسه أبدًا, حياتي كلها!

 

حنا مينه   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات