ولى صالح.. دون عمامة

ولى صالح.. دون عمامة
        

          إذا كان  الروائيون العرب قد بايعوا الطيب صالح في مؤتمرهم الأخير بالقاهرة أميرًا من أمراء الرواية العربية المعاصرة, فقد سبقهم إلى مثل هذه المبايعة نقاد وباحثون ومثقفون كثيرون, أشادوا أيما إشادة بالطيب صالح إنسانًا وروائيًا متميزًا. ويحمل كتاب صدر أخيرًا في العاصمة اللبنانية باسم (الطيب صالح دراسات نقدية) حرّره د.حسن أبشر الطيب, آراء عدد وافر من المثقفين العرب, في سيرة الطيب صالح وأعماله الروائية والأدبية الأخرى. هذا مع الإشارة إلى أن سيرة الطيب صالح لا تقل إبداعًا لا عن (موسم الهجرة إلى الشمال), ولا عن أي موسم هجرة آخر إلى أي جهة من جهات الأرض.

          في هذا الكتاب يصف محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب وولي أمر (أصيلة), الطيب صالح (بالولي الصالح, حتى من دون عمامته. كلّ كامل يقاسمك كل أحاسيسه. كلّ كامل لا ينافق ولا يحابي. ولا يعادي ولا يحاسب ولا يلوم. قنوع لدرجة إهمال حقوقه, دعوب بقهقهته وتقاسيم وجهه وشرود نظراته. كل شيء عنده ملفوف بالحشمة والتقشف ونكران الذات. حكايته عن أيام مناسك الحج في مكة المكرمة, وزيارته بالدموع والخشوع والتسليم على قبر النبي (صلى الله عليه وسلم) هي حكاية الشاعر والمؤمن والصوفي, بسبابته مرفوعة دائمًا لتوحيد الله. ومنذ حجته وهو غارق في بحر الوحدانية كما يقول شيخه أبو الحسن الشاذلي).

          وبعد أن يصفه بن عيسى برمز الاعتدال في كل الأمور, يضيف أنه ذاكرة السودان المتنقلة يحفظ لكتابه وشعرائه وزجاليه على الخصوص, ويحنّ لوطنه الأم, ويحسّ بأحشائه تتمزق وهو يتحدث عن السودان.

          ويرى إبراهيم الصلحي أن المحبة هي المدخل الحقيقي النافذ مباشرة إلى لب شخصه وأدبه, وقد عبّر عنها كثيرًا, في كل ما كتب. كلمة أصلها ثابت في الأرض, وفرعها يعانق الهواء والإنسان والسماء.

          والواقع أن الطيب صالح يفيض بالمحبة التي نوه بها إبراهيم الصلحي حتى في الدراسات الأدبية التي كتبها عن نخبة من شعراء التراث الكبار كالمتنبي. وهو يبشّر دائمًا بالنقد القائم على الحب. فهو يؤمن بأن الحب يفتح البصيرة على عكس الكراهية. ومن أطرف الأمثلة التي يسوقها على صحة نظريته, مثل طه حسين في كتابه الشهير عن المتنبي. فهو كتاب سيئ إلى أبعد حدود السوء, لسبب بسيط هو أن طه حسين دخل على المتنبي بكراهية مسبقة, فلم يفهم شعره ولم يفهم شخصيته ونفسيته, وتوصل إلى نتائج خاطئة بمجملها, بعكس ناقد آخر هو محمود محمد شاكر الذي أسرف في حبه للمتنبي. والإسراف في الحب هو بنظر الطيب صالح خير من الإسراف في الكراهية.

          ولأن للطيب صالح من اسمه نصيبًا, فإن محمد الحسن أحمد يقدّم صورة أخرى للطيب صالح يعرفها فيه كل من خبره وعايشه عن قرب: هو لا يتصدّر المجالس, ولا يتصدّر المآدب سواء كانت على شرفه أو كان من أبرز الضيوف. يجلس دائمًا في الأطراف لأن ذلك يريحه ويحقق له في كثير من الأحايين مآرب أخرى لا يعلمها إلا من كان لصيقًا به).

          إنه إنسان عجيب يجعلك طوال الوقت وأنت إلى جانبه, تتأمل في سلوكه وتصرفاته, كأنه يلقي عليك من غير استشعار محاضرات في أدب النفس وأدب الدرس. لم أسمعه يومًا يشكو إلا من مرض, هو يتعايش مع نفسه ومع الآخرين في تراضٍ مشبع بالقناعة والتعامل النبيل. وتتجلّى إنسانيته في قمة تسامحه عندما ينقل إليه أحد رأيًا سلبيًا كُتب عنه أو قيل عنه. فهو لا ينفعل ولا يغضب, إنما يحاول أن يجد الأعذار لمن فعل, كأنه يعتذر عما سبّب له من تكدير, إذا جاز التعبير!

          ويروي محمد الحسن أحمد حكاية عن الطيب صالح تدل على طيبته وصلاحه وإيمانه: عندما خضعت لجراحة كبيرة قبل عامين اعتذر عن السفر للمشاركة في مؤتمر وادي النيل بالقاهرة. ثم أمضى شطرًا من الليل السابق للجراحة معي في المستشفى. واعتذر لي لأنه لن يكون بوسعه حضور الجراحة في الصباح دون أن يفصح بشيء من دون أن أسأله, وهو الذي اعتذر عن السفر لهذا السبب, لأني أعرف رقته وشفافية عاطفته. لكنه قبل أن يذهب, أخرج من جيبه ورقة مكتوبة بخطه فيها دعاء لله رب العالمين, أوصاني أن أقرأه وأردّده عندما أُنقل إلى غرفة العمليات. وقال لي وهو في حالة من التصوف العجيب: (أبشر بالسلامة ونجاح الجراحة, وغدًا ألقاك في أمن وأمان).

          ويرى فيه عبدالواحد عبدالله يوسف (إنسانًا رائعًا زكي الفؤاد واسع الصدر عزيز النفس معتدل المزاج والتفكير لا يجنح شرقًا أو غربًا. يتحدث ببساطة وعمق, وفي أدب جم ودماثة خلق أشبه بسلوك أولياء الله الصالحين. فيه من تصوف ابن عربي وحذق الغزالي الشيء الكثير. وفيه من إباء المتنبي وشممه وجرأته وقدرته على الإبداع الشيء الكثير أيضًا. وكان المتنبي ولايزال أحب الشعراء إلى نفسه. ولكنه بعيد عن صلف المتنبي وطموحه إلى السلطة والجاه. الطيب إنسان بسيط غاية في التواضع).

          ويقول بلند الحيدري إن غربة الطيب صالح عن سودانه عمّقت شعوره بالانتماء إليه, فزاد التصاقًا حميمًا بجلده وغار أعمق فأعمق في دكنة بشرته. كما منحته الغربة المسافة الكافية لإعادة استقراء دقائق الحياة على أرضه في شمال السودان, وكرمز لكل السودان بعطائها الخيّر وناسها الطيبين, وعبر موازنة مرهفة ما بين طبيعة هذه الحياة وأبطالها, وطبيعة الأرض التي يعيشون على ظهرانيها, وكأن كلاً منهما يكمّل صورة الآخر.

          وتبدو هذه الموازنة  بين الطبيعتين بأجلى صورها في صفحتين آثر أن يبعد عنهما تسلسل الأحداث في (عرس الزين) ليحدثنا فيهما عن (انتفاخ صدر النيل) و(الليالي المقمرة), ورائحة الخصوبة ونقيق الضفادع, إلى جانب أفراح القرية وزغاريد الأعراس التي تُسمع من مسافة ميلين منها, لينتهي من هاتين الصفحتين المملوءتين بشاعرية أخاذة إلى إيجاز تلك العلاقة بين طبيعتين جغرافيتين, يستمر بهما عطاء الأرض الدائم وعطاء المرأة الدائم, وتستمر بعطائها الحياة: (الأرض ساكنة مبتلة, ولكنك تحسّ أن بطنها ينطوي على سر عظيم, كأنها امرأة عارمة الشهوة تستعدّ لملاقاة بعلها).

          ويعتبره صلاح فضل هدية الجنوب إلى الشمال, هدية السودان بكل أصالته وعمقه وتراثه وامتداده في قلب القارة الإفريقية, إلى الوطن العربي بأكمله. فالإنسان العربي في السودان, هو جوهر ما تلتقطه أعماله في البداية, بكل غليانها الفكري. لكنها تطرحه على العالم وتحتكّ به مع الإنسان الآخر, والأفق الآخر, والثقافة الأخرى, حتى تتولد تلك الشرارة التي تجعل أعماله نقلة حقيقية في الرواية العربية.

          استنادًا إلى (الشهادات) التي يضمها الكتاب التذكاري عن الطيب صالح, وقد نقلنا بعضها فيما تقدم, يبدو الحديث عن صاحب (موسم الهجرة) و(مريود) و(عرس الزين) و(المنسي), حديثًا شعريًا في جوهره, ولكنه يتحول إلى ما يتجاوز الشعر على يد الكثيرين من عشّاق الطيب, وبخاصة على يد الكتاب السودانيين المفتونين بكاتبهم الكبير. ومادامت المناسبة هي مناسبة منح الطيب جائزة الرواية العربية, فلا بأس بإيراد (شطحة) من شطحات العشق في شهادة لمحمد صالح خضر. فبعد أن تحدث عن بعض كتابات صديقه الطيب صالح طرح سؤالاً مشروعًا إذ قال: إذا كان الإبداع بهذا الحجم, والرجل بهذه القامة, والطيب صالح يجري ولا يُجرى معه, ويجمع بين الاثنين, فيغرف من بحر, وينحت من صخر, فلابد للسؤال المشروع أن يطرح نفسه: لماذا تأخرت جائزة نوبل حتى الآن? ولماذا ضلّت طريقها إلى آخرين? وإذا كانوا أحيانًا يمنحونها بسبب كتاب, ألا تكفيهم صفحات من (مريود)? ربما تأتي التكنولوجيا في المستقبل بمقياس كمّي للأعمال الأدبية, وتخترع جهازًا إلكترونيًا حسّاسًا توصل أقطابه برأس القارئ لرصد الحفز العصبي ومعدل الاستغراق, حينها سوف تكون كمية الإثارة النظيفة الناتجة من (موسم الهجرة) تعادل 8.5 بمقياس ريختر الأدبي, فيقتنع أهل نوبل لذلك, ولو كان الأمر بيدي - والكلام لايزال للكاتب السوداني - لأعلنت على الملأ:

          (يُمنح الطيب صالح جائزة نوبل بسبب سطر واحد كتبه عن أكرم صالح, إذ قال: (وأكرم صالح صوته مفعم باحتمالات الأفراح والأحزان, كأن أحدًا يريد أن يبكي ويضحك في الوقت نفسه). وسوف يؤيدني في ذلك كل مَن سمع صوت أكرم صالح رحمه الله)?

          بالإضافة إلى (الشهادات) في الطيب صالح, ورواياته وأدبه, يضم الكتاب دراسات نقدية لنخبة من النقاد والباحثين, منهم: رجاء النقاش وأحمد عبدالمعطي حجازي, وروجر ألن ومحمد إبراهيم الشوش وحسن أبشر الطيب ومحمد المكي إبراهيم.

          وإذا كان ما لا يُدرك كلّه - كما تقول مجلة الأحكام العدلية - لا يترك جلّه, فمن الممكن إيراد بعض أحكام هؤلاء النقاد على أعمال الطيب صالح الروائية.

          فتحت عنوان (مريود قصيدة في العشق والمحبة), يلحظ رجاء النقاش أن مريود التي تستعصي على التلخيص, تقترب من الموسيقى. (فلا يمكن والحال هذه تلخيص الأنغام والسيمفونيات, ولكن الصحيح هو أن نسمعها كلها, أو نسمع أجزاء منها, فلكل جزء سحره وجماله. هكذا نجد أنفسنا مع مريود. فهي من الأعمال الروائية القليلة جدًا في أدبنا العربي, والتي يحنّ الإنسان, بعد أن يطوي صفحتها الأخيرة, إلى إعادة القراءة لصفحة معينة منها, أو سطور محددة. فما تعطيه لنا الرواية من متعة روحية وفكرية في معناها العام, لا يلغي المتعة الأخرى التي تنبع من (الجزئيات) فيها, سواء أكانت هذه الجزئيات جملة أم عبارة, أم مقطعًا كاملاً, أم أسطورة, أم وصفًا لمنظر من المناظر, أم تأملاً في لحظة من لحظات النفس والحياة).

          ومن ملاحظات رجاء النقاش على هذه الرواية, أن الطيب صالح قد نسجها في قماش سوداني إفريقي عربي. وفي هذا القماش المحلي القومي, استطاع الطيب صالح, أن يكتب أدبًا إنسانيًا عالميًا يمكن لأي إنسان أن يقرأه في أي مكان في الأرض, فيطرب له ويتأثر به. ويدرس المستعرب الأمريكي روجر ألن رواية (عرس الزين) دراسة مستفيضة, كما يدرس أعمال الطيب الأخرى, فيرى أن الروائي السوداني الكبير قد نجح في أن يخلق بأعماله سلسلة من العوالم الروائية الحية المشرقة, عوالم حملت للقرّاء, عربًا وغير عرب, وبأعلى مستويات الرمز في الخرافة, من حيث انعكاس للوعي القومي أو الوعي الإقليمي, رؤية بالغة الخصوصية لتأثيرات عملية التغيير الدائمة العنيدة في ثقافات إفريقيا, وفي أي مكان آخر بفعل التسرب والامتداد. (لقد استطاع الطيب صالح بمثل هذا الاتصال والتواصل بين الأعمال الروائية المختلفة, أن يكشف عمّا تتمتع به أجناس القصّ المتنوعة من ثراء وغنى, وكيف أنها تتطابق بطرائقها المختلفة مع طبيعة المجتمع الذي يعرف ويعشق).

          وعند حسن أبشر الطيب, تتمثل رواية (بندر شاه) في العبارة التي تكررت في (ضو البيت): لقينا شيئًا وضاع شيء. ذلك النهار لا ندري البكاء على إيش والاّ إيش? على اللقيناه ولاّ على الضاع? ولعل القصد هو استكناه إشكاليات الصدام الحضاري, وأطروحات التغيير, وما يترتب عليها من نتائج إيجابية وسلبية.

          لقد حاول الطيب صالح في (بندرشاه) أن يقوم بعملية استكشاف لعالم وهمي, مكوّن قطعًا من تفاصيل تمثل ملامح سودانية, هي ملامح اكتشاف لوضعنا في الماضي والحاضر والمستقبل. إننا نعيش في عالم متغير دومًا, وفي تشبثنا بالحضارة الحديثة نستفيد كثيرًا, ولكن تضيع منا أشياء كثيرة وجميلة.

          إن طرائق الطيب صالح في السرد غير التقليدي, ومزجه بين الواقع الماثل والأسطورة والخرافة في سياقات وأزمنة متداخلة, واستشراف مضامين متنوعة ومتجددة وغير مسبوقة, والتعبير عن كل ذلك في لغة شاعرية أنيقة مترعة بالإيقاعات والأنغام الداخلية يضعه موضعًا متميزًا في خريطة الرواية العربية المعاصرة. والكتاب الذي قدمنا ملامح محدودة منه, يشكل في الواقع تحية حب من كتّاب ونقاد ومثقفين, عرب وأجانب, لروائي عربي كبير, أحبّ الناس فبادلوه حبّا بحب.

 

جهاد فاضل   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





 





 





د. علي شلش والطيب صالح وجهاد فاضل