لوركا.. هل قتله نصفُهُ الشعري?

  لوركا.. هل قتله نصفُهُ الشعري?
        

          ثمّة شعراء يعاد إنتاج سيرتهم وحياتهم بعد موتهم, وبصورة مستمرة, من أمثال المتنبي وديك الجنّ, المعرّي وجبران, في العربيّة, ومن أمثال لوتر يامون ورمبو في الفرنسية, ولوركا في الإسبانية, والسبب يعود إلى غنى هذه الحياة, واكتنافها بالأسرار, ما يجعلها موضوعًا للأسئلة المفتوحة, والاكتشاف المستمر.

          من ألف عام حتى اليوم, على سبيل المثال, لاتزال تطرح الأسئلة حول المتنبي.. من هو? ابن مَنْ هو? ما أسرار مغامراته وأشعاره? هل قتله شعره? أم سلوكه السياسي وفكره الشيعي أو القرمطي? وما الذي كان يبتغيه هذا الرجل النادر في السيرة العربية? وهو القائل, وكأنه عرف ما كان يجول في خلد الناس, فأراد أن يزيدهم عمى وغموضًا:

يقولون لي ما أنت في كل بلدةٍ وما تبتغي? ما أبتغي جَلَّ أن يُسمى


          وعلى الرغم من عشرات الافتراضات حول المتنبي وأسراره وأغراضه, يبقى بمنزلة عاصفة الشعر والكبرياء الغامض, العاصفة مثل كُتَلٍ من نار, في سماءِ العربيّة والعالم.

          مع فارق اللغة والجوهر الشعري, المكان والزمان, يظهر لنا شاعر إسبانيا فدريكو جارسيا لوركا, المقتول غيلة على يد الفاشيست الكتائب الإسبان في العام 1936, في مطلع الحرب الأهليّة الإسبانية, لوركا ذو القبر الضائع والجروح المنجّمة على الصدر.. يظهر لنا بدوره, من خلال سيرته وأشعاره وموته الفاجع, شخصًا قابلاً للاكتشاف, وإعادة الاكتشاف, بلا انقطاع. فما يطفو على سطح السيرة والشعر من فدريكو, هو اسم الشاعر ومقتله. وربما كان هذا الجزء, تبعًا لافتراضات مفتوحة حوله للباحثين والدارسين, هو الجزء الصغير الظاهر للعيان, مثلما يظهر من جبل الجليد الفائض في المحيط, رأسه أو ذؤابته, في حين أن جسمه الضخم الخطير مطموس ومخبّأ تحت الماء.

          من آخر ما قرأت حول سيرة هذا الشاعر, ومواهبه الكثيرة, فصل بعنوان (فدريكو جارسيا لوركا موسيقيًا), للباحث العراقي المقيم في ألمانيا ولندن وسواهما, من أماكن أخرى متنقلاً ومغتربًا, علي الشوك, في كتابه العجيب الممتع (أسرار الموسيقى). والسؤال المفاجئ الذي يطرحه علي الشوك في فصله هذا هو: هل قَتَلَ جارسيا لوركا نصفهُ الشعري? وهل كان في الإمكان أن ينجيه من القتل نصفه الموسيقي الذي لم يكن غالبًا عليه, بل كان يعيش في كنف الشاعر, وفي ظله, في حين كانت تسطع أشعّة الشاعر وسطوته?

          بمعنى آخر: هل لو كان لوركا الموهوب موسيقيًا موهبة فذّة, لا تقلّ عن موهبته في الشعر, رجّح الموسيقى على الشعر في شخصيّته, وغلّب الموسيقى على الشاعر, كان سينجو من القتل غيلة, لأنّ الشعر فضّاح وإعلاني, في حين أن الموسيقى لغة سريّة وغامضة?

          فإذا كان في إمكان الشاعر أن يصرخ: (تعالوا انظروا الدماء في الشوارع).. ويعلن من خلال ذلك عن موقعه وانتمائه.. فأي موسيقى بإمكانها مثل هذا الإعلان?

          إذن, وبالخلاصة والافتراض, لو كان لوركا انتمى للموسيقى لا للشعر, لكان نجا.

          حسنًا.

          هذا هو الافتراض الذي يفترضه علي الشوك, وهو افتراض فنتازي في أحسن أحواله, فالرجل المؤلف صاحب مزاج خاص في الكتابة والافتراضات. ولعلها واحدة من جوانب قراءاتنا لَهُ.

          وفي اعتقادنا أنّ ما كُتِبَ قد كُتِبَ.. وأن لوركا سيقتل, في تلك الزاوية المظلمة من تلك الليلة الشتائية على يد القتلة الفاشست إياهم, في العام 1936, وأن دمه سيطلّ على التراب ذاته, وقبره سيضيع, لا لأنه كان شاعرًا, ولو كان موسيقيًا لنجا, ولا لأنه لو لم يكن لا هذا ولا ذاك لنجا, بل لأنه هو اختار موته, وصيغة هذا الموت, بموقفه وانتمائه.

          ذلك أنه, (في العام 1936 ذاته, وبعد مرور خمسة أيام على عيد ميلاده الثامن والثلاثين, نشرت جريدة (أل سول) الإسبانية حوارًا مطوّلاً بين فدريكو جارسيا لوركا والرسام الكاريكاتيري الشهير لويس باجاريا. في هذا الحوار, تطرق الرجلان إلى عدد كبير من المواضيع, من الشعر إلى السياسة, ومن مصارعة الثيران إلى أغاني الغَجَر, وأعرب لوركا مرّة أخرى عن اعتقاده بأنّ على الفنّان في الظروف الراهنة (وهي ظروف الحرب الأهلية في إسبانيا) أن يكافح من أجل العدالة الإنسانية والاجتماعية.. عليه أن يتخلى عن باقة الزهور ويخوض حتى الخصر في الوحل, لكي يكون في عَوْنِ أولئك الذين يتطلعون إلى الزهور).. وشجب النزعة القومية واعتبر (غزو غرناطة العربيّة على يد الكاثوليك الإسبان, في العام 1492 لحظة شؤم, بالرغم من أنهم يقولون عكس ذلك في المدارس. لقد فقدنا حضارة جديرة بالإعجاب, شعرًا وعلم فلك وعمارة, وكياسة لا مثيل لها في العالم, لنسلمها إلى مواطنين بوساء جبناء وضيّقي الأفق يمثلون أسوأ بورجوازية في إسبانيا).

          هل هذه الأفكار وما يشبهها, ما قتل جارسيا لوركا?

          نسأل ونجيب: نعم, على الأرجح. لكنْ أنّى لنا أن ننسى لوركا الشاعر ولوركا الموسيقي ولوركا المسرحي? ربما قُتِلَ الآلافُ من الإسبان في الحرب الأهلية على المتاريس أو في الشوارع أو الحقول من أجل هذه الأفكار.. لكنّ لوركا هو لوركا من بينهم جميعًا.

          هو أجمل قتيل على الأرض الإسبانية, بل أجمل قتيل في العالم.

          كان مسكونًا بالروح المبدع (الدونده) تلك التي قال عنها باجانيني (يحسب بها كل إنسان ولم يعرفها فيلسوف). نشوة على غرار (الله حي) لدى المسلمين وفيفا ديوس عند المسيحيين. تجريد صادق للكون, صاف صفاء الحدائق السبع.

          لوركا بقيّة نسل الدم الأندلسي العميق. وشعره, كما يرى د.بدرو فوتابت (دائمًا يبحث عن الرحم والمنشأ) غرناطة والأندلس.

          لوركا الموسيقي وقع في لوركا الشاعر. وحين كان يعزف على البيانو أو القيثارة بأصابع كهربائية (كما قيل في عزفه) ويشاركه في وضع الألحان والعزف الموسيقي الإسباني العظيم مانويل دي فايا, فإنما يكون سعى ووقع على من يشبهه في الموسيقى.

          كان يقول (أنا موسيقي في المقام الأوّل), ويعني أنه شاعر.. ذلك أن الشعر موسيقى, والموسيقى شعر.

 

محمد علي شمس الدين   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات