تخريب العالم

 تخريب العالم
        

          يطرح د.فوزي فهمي في كتابيه الأخيرين (عار العالم) و(تخريب العالم) إشكالية فنية, هي: ما الذي يحدث حين يرتدي المفكر عباءة السياسي, ليناقش قضايا الواقع? وإذا كان السياسي يستعير - أحيانًا - أدوات الأديب, كما في حالة ونستون تشرشل, للتأثير في وجدان الجماهير, فإن مهمة المثقف/ المفكر تكون أيسر بالضرورة, لأنه يمتلك أدوات الخطاب, كما يمتلك الوضوح في الرؤية, إضافة لتنازله المسبق عن حيل الساسة وألاعيبهم, وبالتالي يصبح أكثر قدرة على التأثير.

          ولعل أهم ما يتميز به فوزي فهمي في هذا الصدد, هو أنه يمتلك العديد من الحيل, التي تستدرج القارئ إلى (فخ الحقيقة), حين يحيله باتجاه نص أدبي, ليكتشف القارئ أنه بإزاء نص سياسي, وكأن الفن هو مجلي الواقع. وعلى المستوى الأدبي, كان إليوت يرى أن التعبير عن التجربة الحياتية يستلزم اتباع تكنيك (المعادل الموضوعي), حيث إن التعبير عن العاطفة يستلزم (إيجاد طاقم من الأشياء أو سلسلة من الأحداث تشكل الصيغة الكاملة لعاطفة الشاعر).

          والمؤلف يتبع التكنيك نفسه, ولكن بأسلوب معكوس, إذ إنه لا يتعرف على النص من خلال مفردات الواقع, لكنه يعيد اكتشاف الواقع من خلال مفردات النص الأدبي.

          يتحدث الكتاب عن العديد من الموضوعات الكونية والمحلية ذات الطابع السياسي, والتي تهم المواطن العربي. ويتميز تناوله لتلك الموضوعات على اختلافها, بالتراسل بين العام والخاص, من خلال الانتقال من الكوني إلى المحلي. فهناك - بداية - إشكالية (إبطال المواطن), باعتبار أن تلك القضية - بامتداد التاريخ - تظل أشد بؤر التوتر السياسي اندلاعًا, حيث يتحدد طبقًا لها مدى نجاح أي مجتمع في قدرته على وضع تنظيم, يسمح بحسن أداء الحقوق المدنية والسياسية لأفراده, والتي هي أساس أي عقد اجتماعي بين الأفراد والمجتمعات. ففي العصر الحديث, عادة ما يفقد الإنسان حق المواطنة تحت ضغط بعض أجهزة الدولة, التي تمارس القمع, والتي تمتلك حرية قصوى بلا تقنين, إذ تدعي امتلاك المعرفة والمعلومات التي تصنع يقينها الخاص. وهي - في علاقتها بالمواطنين - لا تحكمها معايير أو مرجعية, تحدد الحقوق والواجبات, سوى سلطتها التي تحتكر الفهم والتنفيذ. إن هذا القمع لا يمكن أن يحدث إلا نتيجة لغياب مؤسسات المراقبة والمراجعة والمساءلة, وهذا التراجع الرقابي عادة ما يؤدي إلى أن يبرز العنف على الدوام, كقوة غير قابلة للاستنفاد في مجتمعات القمع.

أمية المشاعر

          ثم ينتقل الكتاب إلى قضية (أميّة المشاعر), التي قد تحيط بالفرد من كل جانب, فتجعله يتنازل عن أجزاء من إنسانيته. ويرى المؤلف أن استحقاق الاقتدار هو فعل ذاتي بالأساس, غير أن مسلسل الإكراه الذي يتولد عن (أميّة الشاعر) لدى الآخرين, عادة ما يعوق هذا الفعل.

          وهنا, ينادي المؤلف بضرورة إيجاد مؤسسات وصروح, تكون مهمتها تربية المشاعر ثقافيًا وفنيًا. وبالتالي, فإنها تغدو حارسة لمجتمعاتها من الضعف والتبدد, لأنها هي التي تمنح الإنسان مفهومًا لوجوده, ومعنى لحياته. فالإنسان سيظل دائمًا هو (كائن المعنى), الذي يتطلع إلى الأبعد في سبيل تحقيق المستحيل.

          أما (الخائبون) فهو عنوان المقالة التي يتحدث فيها المؤلف عن محاولات الإصلاح المفروضة من الخارج, على شعوب المنطقة العربية, وهي أيضًا الهاجس الذي يؤرق الجميع: شعوبًا وأنظمة, لما يحمله - ضمنيًا - من اختراق لجدار القوقعة الذي تحتمي به القيم. ويرى المؤلف أنه نظرًا لأن القيم هي - بالأساس - أنساق معنوية غير منظورة بقدر ما هي مُعتقدة, فإن الاعتقاد والتصديق والثقة هي ما يشكل لدى الإنسان شعورًا خاصًا جدًا, وهو ما يسمى بـ (شعور القيمة). ومن المؤكد أن هذا الشعور لا يُفرض إكراهًا, ولا يمكن اقتراضه, كما أنه لا يُعار. ومن المؤكد أيضًا أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من دون مظلة هذا الشعور, بل إنه لا يمكن أن ينشأ الشعور بالقيمة خارج دائرة الثقافة بمحاورها الثلاثة: الدين, الأخلاق, الفكر. وهنا, ينتقل المؤلف من الشاهد/ الدال (مسرحية إبسن (آل روزمر)), باتجاه الشاهد/ الحال (أمريكا), ليؤكد على التصور السابق. فإليزابيث تشيني المبعوثة الأمريكية الوافدة, حاملة مشروعًا للتغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي للمنطقة العربية, إنما تقوم بدور يشبه دور (ربيكا) في مسرحية إبسن, إذ تستهدف تفكيك البنية الفكرية للمنطقة, في إطار حماية الأمن القومي الأمريكي, وهو الدور نفسه الذي لعبته ربيكا مع روزمر في المسرحية, وفشلت فيه تمامًا, وكان نصيبها الانتحار.

          ولقد كان التصور السابق مدخلاً طبيعيًا للقضية التالية, والتي أطلق عليها المؤلف (تكرار الخطأ لا يتطلب التعديل). وهو - هنا - يستشهد بمسرحية (قصة حياة), للكاتب السويسري ماكس فريش, لنكتشف من خلال المقاربة بين الواقع والنص, أن الولايات المتحدة هي التجسيد المادي لشخصية (كورمن) بطل المسرحية, الذي يستمر في ممارسة الخطأ في ظل معرفة أنه خطأ. فعندما ساندت الولايات المتحدة مجاهدي أفغانستان ضد القوات السوفييتية بكل الوسائل المتاحة, لم تفكر فيما سيصبح عليه الحال, إذا ما انسحب السوفييت من أفغانستان, وكيف أن الجماعات التي تدربت على أقصى درجات العنف لا يمكن لها أن تتقاعد. فلقد تشكلت بالفعل جماعات من الإرهابيين وأمراء الحروب ومافيا المخدرات, أقضت مضجع (الصديق الأمريكي), الذي أصبح - فيما بعد - عدوها الأول.

إهدار الامكانيات السوفييتية

          وكان من الطبيعي أن يصل الصدام مع أمريكا إلى ذروته من خلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر, التي وضعت مفهوم الأمن القومي الأمريكي في اختبار صعب. ومن الواضح أن أمريكا لم تتعلم من الدروس السابقة, إذ عملت بجدية على إسقاط الاتحاد السوفييتي, دون أن تدرس نتائج إهدار كفاءات وقدرات الجيش المنحل, مما أدى إلى تسرب مائة رأس نووية أصبحت تهدد أمن أمريكا نفسها, ناهيك عن عشرات التنظيمات الإجرامية الدولية, التي تكونت من ضباط الجيش وعملاء المخابرات السوفييتية. والآن يتكرر الخطأ ذاته في العراق, حيث إن الأمريكان قد حلوا الجيش ومعظم مؤسسات الدولة, ثم لعبوا على الوتر الطائفي لتفكيك قدرة الشعب العراقي. فما كان من الجميع إلا أن تحالفوا ضدهم, في ظل فوضى بلا حدود داخل العراق, تسبب فيها الأمريكيون, لكنهم يدفعون ثمنًا يوميًا باهظًا لها.

          وتجرنا القضية السابقة إلى قضية أخرى يتناولها الكتاب, هي أهمية (الحضور الفاعل للسلطة المركزية للدولة), والشاهد في هذه القضية يتمثل في مسرحية (الوداع الأخير لأرمسترونج), للكاتب المسرحي الإنجليزي جون آردن, التي أكدت  ضرورة هذا الحضور. وعلى مستوى الواقع, فإن فيبي ماير بوصفها أمريكية متخصصة ومهتمة بالقضايا الاستراتيجية في الشرق الأوسط, قد طرحت مجموعة من الأهداف للسياسة الأمريكية, منها ما هو خاص بالعراق, حيث ترى أنه من دون دولة عراقية موحدة فإن إيران تستطيع تحقيق هيمنتها على الخليج, وقد تشعر تركيا بأنها مجبرة على توسيع نفوذها شمال العراق. وهذا هو نفسه ما حذرت منه فيبي مار فيما يتعلق بتغييب السلطة المركزية الفاعلة للسلطة الفلسطينية في الأرض المحتلة, فالدولة الفلسطينية المنتظرة لن تمتلك حريتها إلا عندما تشكّل سلطتها المركزية, وتمارس فعالياتها كفاعل سياسي أمام مسئوليتها التاريخية.

          ونظرًا لأن القضية الفلسطينية هي الهاجس المركزي الذي يؤرق المنطقة, فإن ما يشغل المؤلف أكثر هو حال التناحر, التي بدأت تطل برأسها بين بعض الفصائل الفلسطينية, حيث المستفيد الوحيد من هذه الحال المربكة هو العدو المشترك لهذه الجماعات. وفي هذا الصدد, يستدعي المؤلف الشاهد الأدبي, والذي يتمثل في مسرحية (نقيب كوبينيك), للكاتب الألماني كارل تسوكماير, من خلال التشابه بين النص والواقع, فالتشابه بين الخيال والحقيقة يكمن في مفهوم الاشتغال الدائم على الخلافات المأزومة, بدلاً من الانشغال بالاستراتيجية الموحدة التي تشكّل الهدف النهائي للجميع. وهنا, يرى المؤلف أنه من الضروري التدخل في مجرى الأحداث, لتحويلها إلى الاتجاه الصحيح, حتى لا نترك للتصعيد العشوائي المنفلت أن يتعاظم. وبالطبع, لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال تحريك النسق المغلق للأزمة. فالتجلي الحقيقي لقوة الحاضر الفلسطيني يتمثل في مدى اتفاق الفصائل, حتى لا تتحول قضية الشعب الفلسطيني إلى أن تصبح قضية (الفرص الضائعة) كما أطلق عليها البعض.

التعامي الإرادي

          ثم ينتقل بنا المؤلف إلى جانب آخر من القضية الفلسطينية, يتعلق بردود أفعال الآخر/ الغربي تجاهها, والذي يتسم بالتجاهل, أو ما يمكن أن نسمّيه بـ(التعامي الإرادي). والشاهد الأدبي هذه المرة يتمثل في قصة ماركيز الرائعة (القدّيسة), والتي تروي حكاية أب ينبش قبر ابنته, التي ماتت منذ سبعة أعوام, ليكتشف أن جثتها لاتزال كما هي عليه في لحظة الدفن, لم تبل, بل إن التغير الوحيد الذي طرأ عليها أنها أصبحت بلا وزن, أي تحولت إلى حالة أثيرية. وبإزاء تلك المعجزة, حمل الرجل ابنته وتوجه إلى البابا لكي يرسمها قديسة, لأن معجزتها واضحة للعيان. وعلى مدى اثنين وعشرين عامًا, تعاقب خلالها خمسة من البابوات على الكرسي المقدس, ظل الرجل يحمل الصندوق الذي يحوى جثمان ابنته, دون أن يتمكن من انتزاع الاعتراف البابوي بالواقع المتجسّد, الذي يحمله على ظهره.

          إن المؤلف يرصد أوجه التشابه بين القصة والقضية الفلسطينية, من خلال الطرح الأمريكي لوثيقة (الشرق الأوسط الكبير), والتي تميّزت بإنكار وتجاهل الاستحقاق الفلسطيني في إقامة دولته, وكما تجاهل البابوات المتعاقبون المعجزة المطروحة أمامهم, تجاهل الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون الحقوق الفلسطينية المشروعة, لتأتي الوثيقة أشبه بالضربة القاضية, التي تؤكد على انسحاب تلك القضية من تصوّراتهم ورؤاهم المستقبلية حول مأساة شعب يتعرض لنوع من الإبادة الجماعية, ضد كل المواثيق الدولية, دون أن تهتز ضمائر الغرب (الحر), والذي تتزعّمه الولايات المتحدة الأمريكية.

          وإذا كانت الوثيقة تقدم وصفات جاهزة للإصلاح, ولا تراعي تعدد نوعية مجتمعات المنطقة, فإنها لا تنتج - أساسًا - الشروط الحقيقية الملائمة لتحقيق هذا الخطاب المستقبلي الذي تتضمنه. وبذلك, فإن الاستمرار في إنكار الاستحقاق الفلسطيني, وإجبار المنطقة على تأجيل معيار الشرعية للحقوق,  سوف يحيل المنطقة إلى تجسيد واقعي لوالد الفتاة في قصة ماركيز, الذي عليه أن يحمل قضيته لزمن آخر غير معلوم.

          إن كتاب (تخريب العالم) ليس مجرد نقد للواقع السياسي القائم, بقدر ما هو نقض له, كما أن المؤلف حين يبتعد عن الواقع المحلي باتجاه القضايا الكونية, إنما يقوم بعمل مراجعة يتلمّس من خلالها  رؤية الذات بعيون الآخر, ومدى تأثير ذلك على قضايا المنطقة. والمؤلف لا يقدم وصفات جاهزة, لمشكلات الحاضر, لكنه - شأن الطبيب النفسي - يضعنا في مواجهتها, لتحفيز الذات على تجاوز مأزقها التاريخي, طبقًا لقانون (التحدي والاستجابة).

 

فوزي فهمي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات