حول كتاب ألبير مامّي المثير للجدل: صورة المُسْتَعْمَر

حول كتاب ألبير مامّي المثير للجدل: صورة المُسْتَعْمَر
        

          كان مفاجئًا, في نظر القراء المعنيين, كما كان من قبيل المغامرة المحسوبة, في نظر الكاتب والمفكّر الفرنسي (التونسي الأصل, المولود عام 1920), ألبير مامي, استعادته موضوعا كان قد أفرد له كتابًا (مُشكِلاً, آنذاك أيضًا) عام 1957, نال من التنديد أو التقريظ ما جعله (مرجعًا) في مجاله, ومهّد الطريق لصدوره في معظم بلدان العالم, مترجمًا إلى أكثر من ثلاثين لغة (من بينها العربيّة). فالكتاب الذي نحن بصدده والذي يحمل عنوانًا لافتا: (صورة العربي المسلم المتحرّر من الاستعمار وبضعة آخرين) (دار نشر جاليمار, باريس, 2004), يستأنف موضوعات الكتاب السابق, لجهة النظر فيما آلت إليه تلك الصورة التي حاول, منذ عقود من الزمن, أن يرسمها للمُستَعمِر وللمُستَعمَر.

          لقد بقي كتاب ألبير مامّي: (صورة المستعمِر والمستعمَر) - مع المقدّمة الشهيرة التي كتبها له الفيلسوف الفرنسي الراحل جان بول سارتر - ولأكثر من ثلاثة عقود من الزمن, أنيس دعاة التحرّر الوطني وجليسهم, في أقطار العالم قاطبة, كما شكّل, آنذاك, مادة لنقاش حادّ حول مفاهيم جديدة ترتبط بالاستعمار, وممارساته على الشعوب التي تخضع له, وحول جدواه المزعومة (من قبل دعاته الأوربيين والمتحمسين له), أو آثاره المدمّرة على البلدان النامية, أو تلك التي باتت تُعرف, مع صدور كتاب مامّي وأمثاله, ببلدان (العالم الثالث).

بلدان الجنوب

          بمضيّ نحو خمسين عامًا على صدور كتابه المذكور, يُعيد ألبير مامّي الكرّة, ولكن من وجهة معاكسة. فالبلدان المُستَعمَرة سابقًا, تحرّرت من نير الاستعمار وأصبحت, جميعها, إلى هذا الحدّ أو ذاك, سيدة مستقلّة. وما كانت تُعرف في السابق ببلدان العالم الثالث لم تعد موجودة, مبدئيًا ومن حيث التسمية, في الأبحاث العلمية أو التقارير الدبلوماسية, أو حتّى الخرائط السياسيّة, وصارت تُسمّى اليوم, بإجمالٍ يُماشي منطق النظام العالمي الجديد, ببلدان الجنوب.

          أوضح مامّي موقفه في المقدمة التي كتبها لمؤلفه, مستبقًا النقد الذي سيتعرّض له, هو وكتابه. ولعلّه أوجز الخطوط العريضة لهذا الرّد (الوقائي) في سياق المقابلة التي أجرتها معه مجلة (إكسبرس) الأسبوعية الفرنسية (في عددها المؤرّخ في 16 يونيو 2004), حيث قال إنه كان مُرغمًا على الإقرار بالإخفاق الذريع الذي نجم عن زوال الاستعمار وتحرّر البلدان المستعمرة. وهو إخفاق مشهود, حيثما كان الاستعمار, وحيثما جرى التحرّر منه, في آسيا وفي أمريكا اللاتينية وفي إفريقيا الشمالية, وعلى نحو أوضح ربّما في إفريقيا السوداء. حتّى في البلدان التي كان من المفترض أنّها تملك الوسائل التي توفّر لها النجاح. مثلاً في حالة نيجيريا, وهي إحدى البلاد المنتجة للنفط, حيث لا يتجاوز مستوى المعيشة الوسطى الحدّ الأدنى للبقاء على قيد الحياة. وكذلك المكسيك, وهي البلد المتغرّب على نحو ما, والذي أعلن إفلاسه ثلاث أو أربع مرّات. فلا بدّ من السؤال عندئذ عن سبب هذا الإخفاق. والإجابة جلية واضحة: السبب هو أن ما بين 40 و80 في المائة من المداخيل الوطنيّة في بلدان العالم الثالث لا يُعاود توظيفها, حيث يتمّ إنتاجها. والحال أنّك إذا لم تنفق مالاً في بلدك فلن ترفد الاستثمار فيه, وتحثّ بذلك على استشراء الفساد والاستيلاء على الأموال العامّة, وتعرقل نموّ الصناعات الوطنية, ولا تنتج, في آخر الأمر, سوى البطالة. والبطالة تولّد العنف. فيستقرّ في بلدك الثلاثي المدمّر المتمثل بالفقر والبطالة والعنف. ولمواجهة هذا العنف, ليس هناك سوى وسيلة وحيدة تتمثّل بالعنف المضاد أو بالطغيان.

الطغيان والعنف

          على نحو ما, يتابع ألبير مامّي قائلاً, أرى أن أصدقائي العرب محقّون في قولهم إنه ما من بلد من بلدان العالم الثالث قد يتغلّب على أزماته إلا بقيام نظام حكم قوي فيه, فمن دون استخدام القوّة سيسود الاضطراب الشامل. ولكن المشكلة تكمن في أن الطغيان يولد بدوره ردود فعل شعبية تتسم بقدر أكبر من العنف, ما يولّد حالة دائمة من عدم الاستقرار ويحدّ من تدفّق الاستثمارات الدولية. لذلك تبدو الأوضاع هناك أشبه بالحلقة المفرغة ولا سبيل للخروج منها.

          ولكن, هل هذا التردّي هو قَدَر تلك البلدان المحتوم?

          يقول مامي إن المسبّبات مختلفة باختلاف البلدان المعنية. فبلدان إفريقيا لم تعرف كيان (الدولة - الأمّة) ومازالت تحافظ على بناها القبليّة. إنها لا تملك المؤسسات القادرة على تحويل الظروف التي تحيط بشعوبها. أمّا أمريكا اللاتينية فهي مثال الإخفاق في حدّ ذاته.

          يذهب الخبراء إلى أن حجم الكتل السكانية أثقل من أن تقوم بأعبائه الهياكل الاقتصادية الهشّة لتلك البلدان, على الرغم من الخرافة الشائعة التي تقرّر أن الشعوب البدائية تتميّز بجميع الفضائل الممكنة, وبأن الثقافة الغربية هي المسئولة عن كلّ المآسي الممكنة.

          أمّا العالم العربي - يقول مامي - فالأمر فيه مختلف بعض الشيء. فهو يتمتّع بثقافة راسخة, غير أن ثمّة ميلاً سائدًا لتصنيمها, والحفاظ على قيمها المزعومة كأنّها قيم خالدة لا تبالي بتعاقب العصور. (حقبتان ذهبيّتان) يتردد ذكرهما بلا انقطاع: الأندلس وبغداد العصور السالفة. فلا تخوض نقاشًا مع مثقّف عربي إلاّ وسارع إلى ذكر ابن رشد, الذي عاش في القرن الثاني عشر! في حين أن المطلوب - يقول مامي - هو تبنّي الحداثة بكل ما يقتضيه هذا التبني من جرأة, وما يتطلبّه من أشكال القطيعة مع ما سبقه.

          المشكلة, من وجهة نظرمامي, تكمن في التغاضي المتمادي الذي أبدته - ومازالت تبديه - الحكومات التي تولّت الأمر في أعقاب التحرّر من الاستعمار, ومن دون تغيير يُذكر منذ ذلك الحين, عن الأسباب الحقيقيّة للمشكلة. فعلى غرار ما يُبرّر به كلّ عجز يطمئن إليه العاجزون, يُعزى الإخفاق إلى أسباب (خارجيّة) فيما يُشبه التعلل الأسطوري بمشيئة الأقدار. فالخراب الذي افتعله الاستعمار (أي الغرب, على وجه الإجمال) وخلّفه وراءه هو المسئول الأول عن تخبّط (المستعمرات السابقة) فيما تتخبط فيه من الفساد وسوء الإدارة والتناحر واستغلال الثروة الوطنية والاستيلاء عليها, وإلغاء الحريات العامّة كما الفردية. ومثال ذلك - بحسب مامي - ما آلت إليه بلدان إفريقيا السوداء الغارقة اليوم في حروب قبليّة, ونزاعات فئوية, تجعل الكثيرين يترحّمون - مرغمين- على عهود الوجود الأجنبي فيها. ومثال أمريكا اللاتينية, بالرغم من أوجه الاستثناء القليلة, لا يختلف كثيرا عمّا سبق.

          فهل صحيح أنّ ما تعانيه هذه المجتمعات هو من مخلفات الاستعمار الغربي لا أكثر?

          طبعًا, لا يرى ألبير مامي في هذا التعليل سوى تغافلٍ عن الأسباب الحقيقية للمشكلة, وسوى هروب, ولكن إلى الوراء, إذ لا يعقل أن تعجز الشعوب عن إصلاح ما أفسده الاستعمار أو بعضه على الأقل, خلال ما يربو على خمسين عامًا في بعض الأحيان.

          في المقابل العربي (الإسلامي) لهذه الصورة, يقول مامي إن (خطيئة الغرب) التي استوجبت مناصبته العداء المطلق, تقترن بعامل آخر, وهو هنا جوهريّ, يتمثل بالصراع العربي - الإسرائيلي المستمرّ, معلنًا أو كامنًا, منذ نحو ستين عامًا. أي أنه عامل سابق على (التحرر الوطني) والاستقلال, لكنّه رافق جميع التطوّرات التي شهدتها المنطقة, ومازال, إلى اليوم, (العبارة السحريّة) التي تبرّر أشكال (المراوحة) المتنوّعة التي تشهدها بلدان المنطقة.

          يميل مامي - ولعلّ هذا أكثر ما يفاجئ أصدقاءه العرب المسلمين في كتابه المعني - إلى الاعتقاد بأن هذا العامل -على أهميّته البالغة- بات ذريعة أكثر منه سببًا حقيقيًا للمعاناة.

          فالحاصل, برأيه, هو أن تأجيل السعي وراء (ترتيب أمور الداخل ومعالجتها) بدعوى إلحاح متطلّبات الصراع العربي - الإسرائيلي, لم يؤدّ - كما ثبت بالبرهان القاطع - إلاّ إلى تأييد (المراوحة) في هذا الصراع بشروطه القارة (القدرة المتنامية - الجائرة - لدى إسرائيل والعجز المتفاقم لدى الطرف العربي), ولم يسهم البتّة في إيجاد الحلول المناسبة (و(العادلة)) له. كما أنه يؤدي إلى نتائج عكسيّة على صعيد النموّ السياسي والاقتصادي للمجتمعات العربية المسلمة. فهل يكفي الشعار الذي غلب على مرحلة ما من مراحل (ترسيخ التحرر من نير الاستعمار) (مطالع الستينيات), لاختزال المُرتجى من الإنجاز الذي تمثّل بالتحرّر الوطني? وهل تبقى التسمية صالحة إذا غلبت على حقب ما بعد (التحرّر) صفات المراوحة أو... التخلّف?

          ينطلق مامّي من تلك الأسئلة الجريئة (هل تحظى بنقاش علنيّ في المجتمعات العربيّة?), لبلوغ معضلة التحوّل التي تشهدها حاليًا المجتمعات الغربيّة (المُستَعْمِرة سابقًا) والتي تطرح عليها, بإلحاح, سؤال التعدّد الذي طالما حملت لواءه بوصفه ركنًا من أركان الثقافة الغربيّة, وعاملاً مؤسّسًا للديمقراطية بمفهومها الغربي. ولعلّ هذا ما أثار موجة الانتقادات الحادّة التي تعرّض لها كتاب مامّي, كما تعرّض لها شخصُه مصحوبة بحملة التشكيك في مسيرته الفكريّة والعملية وفي صورته (السابقة?) كأحد أبرز المدافعين عن حقوق الشعوب المستعمرة, الذي نحت بعض المصطلحات التي مازالت متداولة إلى اليوم في قواميس الدعاوى التحرّرية. فهل يجوز لألبير مامّي بالذات أن يشخّص (العلّة) في مسألة الاندماج التي تواجه جيلاً بأكمله من أبناء المهاجرين في فرنسا, وفي أوربا عامّة, منطلقًا من رفضه الحاسم لتمسّك هؤلاء بخصوصيّتهم الدينيّة?

          يقول مامّي إن ما يُشهد من (انكفاء اجتماعي) لأبناء المهاجرين في فرنسا وأوربا إنما يعود إلى (مطابقة خاطئة) بين الهويّة الدينية والهويّة المدنيّة. الإصرار على إشهار الانتماء الديني, يخالف شروط الخصوصيّة ويُهدّد مساعي (الاندماج) في كنف مجتمع علماني. وهو يرى أنه إذا كانت الفرديّة شرطًا من شروط التقدّم فإنّ العلمانية هي شرط لبقاء المجتمع الديمقراطي. وهذان الشرطان تكفلهما, برأيه, الثقافة الغربيّة.

          يرى مامّي أنّ الثقافة التي انبثقت من الميراث اليوناني, تحمل القيم التي تُبنى عليها اليوم مبادئ التقدّم والديمقراطية, وأنّ هذا الميراث موجود في مناهل الثقافة العربيّة والإسلاميّة, غير أن المتّبع اليوم, هو إغفالها, ربّما لأن النخب في الدول التي عانت الاستعمار وتحرّرت منه (ومن بينهم العرب والمسلمون) لم تَخُض سجال التداول حتى لو كانت القطيعة هي أفقه. لذلك, يقول, ضمن كتابه ما لا يراعي (مشاعر) الأصدقاء لأنه يَصْدُقُهم, غير أنه وجد لزامًا عليه أن يصارحهم.

          الأغلب أنّ كتاب مامي لن يجد طريقه مترجمًا إلى قراء العربيّة, لأن الأسئلة التي يطرحها محرجة, والحرجُ, للأسباب التي تحدّث عنها مامي, يجعلنا أكثر اطمئنانًا إلى الأجوبة الجاهزة المعلّبة, بدعوى الخصوصيّة, التي هي عندنا مراوحة في غير زماننا.

 

بسّام حجّار   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات