مساحة ود

مساحة ود
        

اللحظات الأخيرة

          عندما غفت نبضات قلبي في صدري, ارتسمت في داخلي سعادة مكفنة بالرجاء, تجلّت بانفراج شفتي, وبريق أمل زاد عن وميضه فيض دموعي. قلت لنفسي: (الحمدلله الذي تقبل دعائي ونذري, لابد أنه تجاوز مرحلة الخطر وسأراه. الحمدلله سيلاقيني بين يديه ويغمرني بقبلاته وعبارات الاشتياق, وسيدخلني إلى قلبه (على حد تعبيره), كما كان يفعل كلما لاقاني وأنا عائدة من الروضة أو المدرسة أو الجامعة أو من إحدى سفراتي الكثيرة).

          ساعتان هما زمن الرحلة من الكويت إلى دمشق, ولكنني شعرت أنهما دهر, أسابق الطائرة, أسابق الأفكار, أسابق الأماني والذكريات وفيض الشوق والاشتياق إلى حضنه, وتهدج صوته الضاحك الباكي وكلماته: (عيني أنت...الله لا يحرمني منك). وصلنا إلى مطار دمشق, وبسرعة البرق انطلقنا, أخي وأنا, إلى الخارج بحثًا عن سيارة أجرة تقلنا إلى اللاذقية, لايزال أمامنا أربع ساعات من الترجّي والتمنّي والدعاء.

          مضت الساعات ببطء شديد مثل كابوس ليل طويل, إلى أن لاح البحر موشى بأنوار المراكب فيه, وعانق رذاذ هوائه وجهي, وتغلغلت نسائمه الباردة في مجرى تنفسي وإحساسي وانتمائي, آه كم أعشق هذا البحر, الذي يحمل في عبقِ رائحته, عبق ورائحة أحبابي.

          تملّكني إحساس بالغبطة والخوف حرّض الدمعة (التي كنت قد كبلتها منذ اللحظة الأولى لرحلتي), حرّضها على كسر أصفادي والاندفاع خارجًا, وأعلنت هزيمتي أمامها, لأن البحر ذاته غلبني عندما أوصى لها بفيض دموعه, ونقاء زبده, وتراقص أمواجه, بأن تطلب الحرية, وتركض على وجهي لملاقاته, سالت دموعي بصمت, وعند زاوية الفم, امتزجت بآه لاهبة مزّقت جدار صمتي وخوفي, فالحقيقة على بعد دقائق من الزمن, الذي يفصلنا عن المستشفى, الذي يفترض أنه يرقد فيه, وبدلا من أن تتجه السيارة إليه, مضت باتجاه بيتنا, ثوان سرحت خلالها, تداخلت فيها عشرات الأحاسيس والصور والحكايا الحلوة والمرّة, المحزنة والمفرحة, القاتمة والملونة, ولكن أبرزها كان إحساسي بالغضب لأن أخي - الذي ما عرفته إلا أصيلاً بارًا - آثر في هذه اللحظات الحرجة أن نضع حقائبنا في البيت أولاً, ثم نذهب إلى المستشفى, سرحت من جديد, واستفاقت في ذاكرتي كلمات أمي عندما اتصلت أمس: (دخل لتوّه لينام بعد يوم منهك أمضاه مع أصدقائه على البحر. كلميه غدا).

          أذعنت لطلبها, وأنهيت المكالمة, وحتى هذه اللحظة لاأزال أتساءل: لماذا لم أصرّ على مكالمته?! لماذا لم أزعجه بنزاقتي وطفولتي, وأطلب إليها أن توقظه من نومه?! ألم يكن دائمًا يتلهّف لسماع صوتي..?...ألم تكن كلماتي وتصرّفاتي دائمًا موضع تطلعه وإعجابه, حتمًا إن الجميع كانوا ينتقدون مبالغته في حبي وتدليلي...?! لماذا خضعت لرغبة أمي بسهولة, وقد عاندتها من قبل مرارًا?! قطع صوت فتح باب السيارة لحظات شرودي, وإذ بأخي يشبك يدي ويقول: (انزلي). هممت بالنزول مذهولة, وكان أول ما لمحته عيناي جدار الزقاق المؤدي إلى بيتنا, وعليه ورقة بيضاء متشحة بسواد كلماتها التي تقول: (إنا لله وإنا....) لم أكمل القراءة, ولم أعد لوعيي إلا وأمي تحضّني باكية وتقول: (يا ليتني تركتك تكلمينه أمس). عندها أدركت, أني لن أكلمه لا الآن ولا غدًا, ولاأزال أحلم بالرغم من السنين, وسأبقى أحلم لآخر السنين أن يأتي الغد, الذي سيجمعنا بعد أن ألحق بك....أبي.

 

ريم الياسين