إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي
        

حمير عابرة للحضارات

          كثيرون منا شغوفون بمتابعة القنوات التليفزيونية والدوريات العلمية, التي تجعل من عوالم الكائنات الحية عمادًا لبرامجها, ومادة لأوراقها, بين فيلم حقيقي عن الحيتان, وبرنامج تسجيلي عن الأفيال, وصفحات مصورة عن المها, ورحلة في الأعالي مع ملوك الجو من الصقور والعقبان, أو في البراري مع النمور والغزلان. لكنني ـ بالرغم من الشغف بهذه المحطات والدوريات ـ رأيت القائمين عليها ـ سواء بقصد أو من غير قصد ـ يغفلون كائنا مسالمًا بالرغم من صلابة دماغه, جميلا بالرغم من كبر أسنانه, عالما بالطريق بالرغم من نعتنا له بالجهل, ونعتنا للجهال باسمه: إنهم يضطهدون الحمار!

          ولكن مع اكتشاف علمي جديد, يحق للحمار أن يفخر بأنه الكائن الوحيد الذي استطاع أن يعبر كل الحضارات دون تمييز, وإذا شئنا التفصيل لقلنا إنه - الحمار - هو الكائن الوحيد الذي لا يختلف حجم أنفه, أو اتساع عينيه, أو ملامح وسمات وجهه بين قارة وأخرى, أو بين بلد وسواه, فالحمار في استانبول يكاد يطابق ـ شكلا ومضمونا ـ حمير قبرص دون تمييز بين الحدود اليونانية أو التركية, والحمار في المدارج المتجهة نحو أعالي التبت وكهنتها, مثله كإخوانه في مصاعد جبال الأطلس, أو أقرانه في القرى النائمة على نهر النيل.

          والسبب الذي اكتشفه العلماء هو أن سهولة حركة الحمير, وتحملها, جعلها وسيلة سهلة, إن لم تكن الأسهل ـ فلا ينافسها سوى أبناء عمومتها البغال ـ في نقل الزاد والعتاد, وبما أنها ترحل من مكان لآخر, ومن قارة إلى أخرى, فإن تناسلها مع الحمير, الموجودة هنا وهناك, يسَّر لها أن تنتج ذرية تتمتع بسمات موحدة, لها بصمة وراثية لا تختلف بين مناخ وآخر, حتى في لون العينين, وطول الأذنين, واحتمال الراكبين.

          وإذا كنا نميز في سلالات الحيوانات بين الأفيال في أحراش آسيا, المختلفة عنها  في أدغال إفريقيا, أو بين الجاموس الوحشي وأنواعه التي تتمايز إلى حد الاختلاف - وقس على ذلك أنواعا كثيرة من الكائنات الحية - فإن الحمار يقف ثابتا على رأيه وشبهه, بسحنة يائسة لا تستجدي سوى الرحمة بها.

          كثير من الاكتشافات في عالم الحيوان ـ والإنسان أيضا ـ تجعلنا نعيد النظر في البديهيات المسلم بها من قبلنا, مثل أن يتسبب اختلاف جيني تحدثه الملاريا للمصاب بها في إفريقيا بحمايته من السرطان, وربما يفسر ذلك الاحتمالات الأكبر لإصابة الأمريكيين من أصول إفريقية بنسبة 60 في المائة مقارنة بالبيض منهم, بسرطان البروستاتا. وهكذا ينجو هؤلاء من الملاريا ليموتوا ـ بنسبة تبلغ الضعف ـ من مرض آخر.

          وعودة محمودة إلى الحمير نقول إن الحمير كرمها الأدب, أقصد الحمير في عالم الرواية, خلدها ثيربانتس وخيمنيس في الأدب العالمي وتوفيق الحكيم في الأدب العربي, وغيرهم في أساطير وآداب العالم.

          ومع هذا التكريم يمكننا الجزم أيضا بأن الحمار هو الحيوان الذي أثبت خطأ نظرية دارون! فربما سمعنا أن الفيل هو خير خلف لسلفه الماموث, أو أن الحمام وباقي الطيور تناسلت من الآركيوبتركس, والفيلوسيرابتور والألوصوروس, والسيلوفايسس, والصورسكيا, والدينوصوريا, وكلها أسماء تنتمي للعائلة الجوراسية المنقرضة, لكننا لم نسمع, وربما لن يغير ذلك أحدٌ, أن الحمار كان أصله كائنا آخر سوى الحمار.

          وإذا كانت الحيوانات ـ المستأنسة والمتوحشة ـ قد عانت كثيرا من الأخطار, ومنها ما انقرض ومنها ما ينتظر, فلا أظن أن الحمار ـ بالرغم من كل ما نسمه به من صفات أبخسته حقه ـ سوف ينقرض يوما, وذلك لأن العبرة دائما بالنهايات, وليست نهاية الحمير عابرة الحضارات كنهايات صانعي الحضارات أنفسهم.

 

أشرف أبو اليزيد