جمال العربية
جمال العربية
العباس بن الأحنف.. شاعر عذري تأخّر به زمنُه في ديوان الشعر العباسي - عبر عصوره المختلفة - يسطع شعر العباس بن الأحنف دليلاً على المغايرة والاختلاف. نحن في ديوانه مع شاعر ينتمي بوجدانه إلى كوكبة شعراء الحب العذري, الذين أنضجتهم قيم البادية: تكريمًا للمرأة وصيانة لها, وحفاظًا على شرفها وعفافها, وأشربتهم العاطفة الدينية, المتأثرة بروح الإسلام, تقديسًا وإجلالاً للعلاقة مع المرأة, واعتبروا أنفسهم - في حال تضحيتهم ومعاناتهم وصبرهم وجَلدهم وتحمّلهم - شهداء لهذا الحب, الذي هو قدرهم وقضاؤهم, لا فكاك منه, ولا موجب للتمرّد عليه. يقول قيس بن الملوح (مجنون ليلى):
ويقول جميل بن معمر (جميل بثينة):
ويقول كُثيّر بن عبدالرحمن (كثير عزة):
ويقول قيس بن ذريح (قيس لبنى):
ويقول عُروة بن حزام (عروة عفراء):
ويقول الصِّمةُ القُشيْري (عاشق ريّا):
ويقول ابن الدُّميْنة (صاحب أميمة):
وفي شعر هؤلاء, وفي شعر غيرهم من العُذريين, أصحاب الشعر العفّ, تلقي البادية بظلالها: قسوة حياة تُعلّم التحمّل والصبر, وجدْبُ معاش يُعلّم الرضا بالقليل, وليس إلا أنسام هذا الحب - الآمل اليائس معًا - تهبُّ كريح الصَّبا, لتلطف من هجير المعاناة, وتُثبّت من ركائز القيم وقيود النفس على رغائب الجسد. وعندما يتغير العصر, وتتغير الحياة, وتبتعد البادية عن العين والقلب والذاكرة, يصبح وجود شاعر كابن الأحنف, في بغداد: حاضرة العالم العربي الإسلامي في زمانه, لا يحفل بأن يكون شعره في مدح أو فخر أو هجاء, ولا يدور بشعره كما يدور غيره على قصور الخلفاء والأمراء والولاة, ولا يغترف من مفاتن الحياة البغدادية, التي انغمس فيها غيره فعبّوا ونهلوا وأتخموا, ولا يفحش في قول أو فعل, كأنه يرى في نفسه امتدادًا لتلك الكوكبة العذرية, التي خلّدتها أشعارُها وأخبار عفْتها وتصوّنها, طينته من طينتهم, ولغته من لغتهم, ونَفَسهُ الشعري شبيه أنفاسهم وامتدادُها الحيّ, في عصر اختلف كلّه, فاعتُبر هو المُختلف عن عصره وعن زمانه! لا يعرف على وجه التحديد تاريخ مولده, لكن الاتفاق على وفاته عام مائة واثنين وتسعين للهجرة هو المشهور, كالاتفاق على أنه أبو الفضل العباس بن الأحنف, من بني حنيفة, ونُسب إلى اليمامة موطنهم في نجد, فقيل له: اليمامى. ولد العباس في البصرة, وانتقل إلى بغداد, واتصل بالمهدي والرشيد, دون أن يتكسّب بشعره فيهما, بل كان - كما تقول أخباره - أقرب إلى الجليس والسمير. وأكثر شعره في (فوز), التي كشفت عن حقيقتها الشاعرة والباحثة العراقية د. عاتكة الخزرجي في رسالتها للدكتوراه عن العباس, وأوضحت أنها عُليّة بنت الهدى وأخت هارون الرشيد, فكنى عنها العباس باسْم (فوز). وقد التفت معاصروه وأهل زمانه إلى قيمته الشعرية, وتفرّده لغةً وطريقًا, يقول عنه بشار بن برد: (مازال غلام بني حنيفة يُدخل نفسه فينا ويخرجها حتى قال:
ولما سئل إبراهيم الموصلي - إمام المغنين في زمانه - عن سبب غنائه لكثير من شعر العباس, قال: هذا والله الكلام الحسن المعنى, السهل المورد, القريب المتناول, السهلُ اللفظ, العذبُ المُسْتمع). وروي عن وفاته أنها كانت وهو في طريقه إلى الحج قادمًا من البصرة, وأنه أنشد قبل موته هذه الأبيات الشجيّة, المفعمة بالشجن, وأسى الغربة والبعاد, المحكمة اللغة والتعبير:
ومن أرق شعره في (فوْز): القناع الشعري لمحبوبته (عُلية بنت المهدي) أبيات يقول فيها:
ولابد أن كلمة (الهاشمية) في هذا السياق, كانت من بين الدلائل, التي استندت إليها عاتكة الخزرجي في الكشف عن حقيقة المحبوبة التي تغنّى بها العباس في كثير من قصائد ديوانه, وكأن نفْسَهُ تساقطُ أنفُسا - كما قال الشاعر القديم - في كلّ مرة يقترب فيها العباس من هذا الحمى, الذي حُرّم عليه وروده أو الاقتراب منه, فحُرّاسُه شاكو السلاح, وهيبتُهُ تُطيح بالعقول, ومخاطرهُ - في أقلّ صورها واحتمالاتها - هائلة ومخيفة, كيف يجرؤ إذن على اقتحام حرمة البيت الهاشمي? ومعَ مَن: أختِ هارون الرشيد, سيد ملوك زمانه! لكن لغة الشعر - في مجازها ومراوغتها - أتاحت له أن يقول:
ثم يقول العباس بن الأحنف:
هذه النهاية الحزينة, التي تنبئ عن استشعار العباس بن الأحنف لدنوّ منيّته, واقتراب خروج النفْسِ منه, وسعْي الموت الذي يقصده, ويهتف به داعيه, هي نفسها النهاية, التي اختتم بها قيس بن الملوح - مجنون ليلى - قصيدته اليائية الطويلة المسمّاة بـ(المؤنسة), وهي نهاية قرينة اليأس وملازمته, فمادام الأمل من المحبوبة قد وصل بالشاعر إلى الموت شوقًا مع استحالة اللقاء - والشاعر هنا هو قيس والعباس معًا - فلا مفرّ من انتظار النهاية المحتومة وتوقّعها. يقول قيس:
وقريب من النهايتين عند قيس والعباس, نهاية قيس بن ذريح (عاشق لبنى) حين يقول:
لقد كان التوحيد في الحبّ وجهًا آخر ملازمًا للتوحيد في الدين, الله واحد والمحبوبة واحدة, واليقين, الذي تُجسّده العقيدة الدينية, يقابله اليقين,الذي تُجسّده العاطفة العذرية, لا فَكاك ولا أدنى سعْي لفكاك, فالحبُّ مقدورٌ, والقضاء نافذ. من هنا, كان اللجوء دوْمًا إلى الله, والرجاء منه, لا لتغيير المقضي والمقدّر, ولكن لتخفيفه, والتقليل من عبْئه الجسيم (اللهم لا نسألك رَدّ القضاء, ولكن نسألك اللطف فيهِ). يقول قيس مُستغيثًا ومستعينًا بمن قدّر عليه حبّ ليلى:
وهو الموقف نفسه - موقف الرجاء والاستعانة - يقفه العباس بن الأحنف حين يقول:
*** ولو أردنا عنوانًا جامعًا لهذا الشعر كله - الذي تنفّسه (العباس) كما يتنفّس الناس الهواء, دون صنعة أو تكلّف أو خروج على المألوف, مما اعتاده الناس لغةً وإبداعًا وطرائق تعبير, فضلاً عن أنّ بداوة العاطفة العذرية لم تفرض عليه معجم البادية, فتركته للرقة البغدادية, والصور الشعرية, التي يُحكمها ويتصيّدها من اختلطوا بأهل القصور, وأصحاب النعيم, وجعلت منه الشاعر العصريّ, الذي اعتصر زمانه في كيمياء شعرية مغايرة, مخالفة للمألوف أفقًا وفضاءً وتوجّهًا - أقول لو أردنا لهذا الشعر الجميل البديع عنوانا, فهو متمثل في كلمات العباس بن الأحنف نفسه: (أُقاتلُ عن قلبي الهوى). وما أجمله من عنوان!
![]() |