الحروب الصليبية.. متى تكون النهاية

الحروب الصليبية.. متى تكون النهاية

(الحروب الصليبية)... (الحملة الصليبية)... (العدوان الصليبي).. هذه العبارات, وعبارات أخرى مشابهة, ترددت بكثرة بعد الهجوم العنيف الذي تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2001م, وربما يكون السبب المباشر في إثارة هذه الزوبعة أن الرئيس الأمريكي تحدث عن (حملة صليبية), ثم تراجع بحجة أنها (زلة لسان), ثم ترجم (اعتذاره) على الصعيد العملي بهجوم عنيف على أفغانستان.

والمثير في الأمر أن الجانب الأفغاني, أيضا, استخدم مصطلح (الحملة الصليبية) في وصف العدوان الأمريكي على بلاده وشعبه. كما أن كثيراً من المسلمين في شتى أنحاء الدنيا قد وصفوا العدوان بأنه (حملة صليبية) ضد الإسلام.

فهل هي (حملة صليبية) حقا? وهل يمكن القول إن (الروح الصليبية) لاتزال فاعلة في الغرب الأوربي وامتداده الأمريكي?

بدأ مصطلح الحروب الصليببية يظهر إلى الوجود أواخر القرن الثاني عشر الميلادي لكي يدل على تلك الحملات التي جرّدها الغرب الكاثوليكي ضد المنطقة العربية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. وكانت هذه الحملات, التي دعت إليها البابوية, تعرف في بدايتها بـ(الحج) أو (الحملة المقدسة) أو (حملة الرب). كما كان الرجال الذين شاركوا فيها يعرفون بـ(الحجاج), وعرفها المؤرخون المسلمون المعاصرون باسم (حركة الفرنج).

وبمرور الزمن ظهر مصطلح (الحملة الصليبية). كما ظهر مصطلح (الصليبيون) للدلالة على هذه الحملات العدوانية الاستيطانية الموجهة ضد المسلمين في المنطقة العربية, ثم اتسع مدلوله لكي يشمل الحملات السياسية - العسكرية التي وجهتها البابوية ضد أعدائها وخصومها في الغرب الأوربي نفسه. ولم يلبث أن اتسع المصطلح في مداه الزمني أيضاً ليشمل كل حروب الغرب الأوربي الاستيطانية ضد المسلمين حتى القرن الثامن عشر الميلادي على أقل تقدير.

المشروع الأول!

ولأن الحركة الصليبية شغلت حيّزاً جغرافياً امتد على نطاق أوربا كلها, وكل المنطقة العربية في شرق المتوسط وجنوبه, كما شغلت أذهان الناس في أوربا على مدى عدة أجيال, سواء في أدوارها الفاعلة النشطة التي بدأت سنة 1095م واستمرت حتى القرن الثامن عشر, أو في تلك الآثار الفكرية والوجدانية التي جعلت كل السياسيين والعسكريين الأوربيين والأمريكيين الذين يتعاملون مع المنطقة العربية, ينطلقون من خلفية ذهنية تحكمها تجربة الحروب الصليبية, فإن ما قاله الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عن أن الحملة ضد ما يسمى بالإرهاب (حملة صليبية) يصبح مفهوماً في هذا السياق. فمنذ أريان الثاني - البابا الذي دعا إلى أول حملة صليبية ضد المسلمين في كليرمون بجنوب فرنسا في 27 نوفمبر سنة 1095 - وحتى الآن, لاتزال تجربة الحروب الصليبية تحكم المشاعر والأفكار في الغرب. ومن اللافت للنظر حقاً أن الفرنسيين في العصر الحديث اعتبروا أن تجربة الحروب الصليبية كانت مشروعهم الاستعماري الأول, كما أنهم أطلقوا مصطلح (ما وراء البحار) على الكيان الصليبي في المنطقة العربية, وهو المصطلح نفسه الذي أطلقوه على مستعمراتهم في شمال إفريقيا العربية وغيرها في القرنين التاسع عشر والعشرين. كما أن الإنجليز تحدّثوا في مصطلحات صليبية عندما احتلوا فلسطين في القرن العشرين. بل إن الحركة الصهيونية, وهي حركة غربية في أساسها وأصولها, كانت تكراراً للمشروع الصليبي القديم, ولكن في مصطلحات صهيونية.

وجه التشابه

يقودنا هذا إلى تحليل المواقف الغربية من العرب والمسلمين في العصر الحديث, ويقودنا أيضاً إلى النظر إلى المشروع الصهيوني على الأرض العربية باعتباره مشروعاً يتخذ من التجربة الصليبية مرشداً وهادياً. إذ إن المشروع الصهيوني كان ,ومازال, يهدف إلى دق إسفين استيطاني عدواني يفصل جناحي المنطقة العربية كلا منهما عن الآخر. والناظر إلى المنطقة العربية من الناحية الجغرافية السياسية يجد بسهولة أن الدولة الصهيونية قد فصلت الجناح الشرقي في العالم العربي عن الجناح الغربي من ناحية, وأن أي محاولات للوحدة أو التنسيق بين هذين الجناحين كانت هدفاً للعدوان الصهيوني الذي تسانده القوى الغربية مساندة قوية على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والبشرية من ناحية أخرى. ومن المثير أن الفكرة الصهيونية قامت - في التحليل الأخير - على الأفكار نفسها التي قامت عليها الفكرة الصليبية قبل عدة قرون. وتشير كتابات المؤرخين اليهود الذين اهتموا بالحركة الصليبية والاستيطان الصليبي إلى مدى عمق الاهتمام الذي يوليه أولئك المؤرخون لدراسة الكيان الصليبي, وعوامل القوة والضعف التي ميّزته, باعتبار أن الكيان الصليبي هو السابقة التاريخية للكيان الصهيوني, مع الأخذ في الحسبان كل المتغيرات في توازنات القوى الدولية, والتقدم العلمي والتكنولوجي, والوضع السياسي والعسكري في الدول العربية والإسلامية.

الأحمر والأخضر

ومن ناحية أخرى, نجد أن الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية قد أخذ يصطنع لنفسه عدواً يشكل خطراً عليه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, وحلّ الخطر الأخضر (الإسلام) محل الخطر الأحمر (الشيوعية) الذي زال بتفكك الاتحاد السوفييتي وانتصار الرأسمالية والإمبريالية. وصدرت عشرات الكتب والمقالات في الغرب الأوربي والأمريكي لتبين جوانب هذا الخطر الذي يتهدد الحضارة الغربية ذات الأصول اليهودية - المسيحية. وربما كانت احتكارات صناعات السلاح والبترول وراء الترويج لفكرة (الخطر الإسلامي), ولكن الأمر المؤكد أن مفكرين كباراً ممن يسمع الغرب لهم, بدأوا يروّجون لهذه الفكرة من منظور أيديولوجي, ومن أبرزهم برنارد لويس الذي كتب عن الصراع التاريخي بين الإسلام والحضارة الغربية المسيحية - اليهودية على حد تعبيره. وروّج لفكرة مؤداها أن هذا الصراع نوع من الحتمية التاريخية التي ترقى إلى مستوى القدر الذي لا فكاك منه. وعلى الرغم من ذلك القدر الكبير من سوء الفهم والتعميم الذي ميّز كتابات المؤرخ اليهودي برنارد لويس, فإنه كشف أيضاً عن قدر كبير من سوء القصد.

وربما كان أشهر من كتب في هذا السياق, وروّج لفكرة الصدام الحتمي بين الإسلام والحضارة الغربية ذات الجذور اليهودية - المسيحية, هو هنتنجتون في كتابه (صراع الحضارات) الذي حظي بشهرة واسعة في الأوساط الفكرية ولقي اهتماماً مريباً من وسائل الإعلام الغربية. ولايزال القطاع الأكبر من الأكاديميين الغربيين, والصحفيين ومعدّي البرامج التلفزيونية يروّجون لهذه الفكرة التي تجسّد العالم الإسلامي في صورة (إمبراطورية الشر) التي تهدد الحضارة الغربية.

وعلى الرغم من أن هناك أصواتاً عاقلة حاولت أن تدعو إلى حوار الحضارات وفهم الإسلام وتعاليمه على أسس سليمة, فإن هذه الأصوات ذهبت سدى في خضم الترويج النزق لفكرة الخطر الإسلامي, وقد ساعد على رواج هذه الفكرة في الغرب الأوربي صور المتشددين التي نشرتها الصحف ووسائل الإعلام بصورة مكثفة, وهم يهتفون, أو يرفعون لافتات كتب عليها (الموت لأمريكا), فضلاً عن أعمال العنف الدموية التي ارتكبتها جماعات الإسلام السياسي العنيفة التي تؤمن بالدم وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية.

إمبراطورية الشر!

وبقدر ما استغلت الولايات المتحدة والغرب الأوربي هذه الصور الحمقاء لتبرير تصرفاتها السياسية والعسكرية ضد العالم الإسلامي, استغلت الحكومات المستبدة في العالم الإسلامي هذه الصور لتخويف الغرب من ناحية, وتبرير بطشها بشعوبها من ناحية أخرى. وبرز نظام (طالبان) في (أفغانستان) تكريسا لهذه الصورة البربرية للإسلام. ويلفت النظر حقا في هذه الظاهرة أن الغرب مستريح إلى التعامل مع الإسلام والمسلمين في إطار هذه الصورة النمطية القبيحة, واعتبار أن العالم الإسلامي كتلة جامدة صماء تتميز بالعدوانية والرغبة في سفك الدماء. ولم تحاول مراكز صنع القرار السياسي والعسكري في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية, أن ترى الفروق الجوهرية بين حركات الإسلام السياسي التي تعترف بشرعية النظام السياسي وتعمل من داخله, ووفق شروطه, لتصل الى المشاركة في الحكم, وتلك الجماعات التي تنهج منهجاً دموياً عنيفاً للقضاء على النظام السياسي, والحلول محله. كذلك, فإن توازنات القوى, التي تميل بشدة لصالح القوى الرأسمالية والإمبريالية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية, جعلت الغرب عازفاً عن محاولة الفهم وراغباً بشدة في اختزال الإسلام والمسلمين في هذه الصورة المشوهة.

هكذا ترسخت صورة الإسلام باعتباره (إمبراطورية الشر), وهي صورة تذكرنا بتلك الدعايات النزقة التي روجتها البابوية ورجال الدين ضد الإسلام وضد المسلمين طوال العصور الوسطى. وقد تركت هذه الدعايات أثرها في الوجدان الجمعي الغربي على مرّ القرون. ومع أن الناس في الغرب الأوربي في العصور الوسطى لم يروا مسلماً واحداً على الطبيعة قبل خروج الحملات الصليبية في السنوات الأخيرة من القرن الحادي عشر, فإنهم كانوا يتحرقون شوقاً لقتل المسلمين وهم خارجون في الحملات الصليبية. كذلك, فإن ردود الفعل الغاضبة والعدوانية تجاه العرب والمسلمين بعد تفجير مبنيي مركز التجارة العالمي في نيويورك, ومبنى البنتاجون في واشنطن, تكشف عن أن ميراث الحروب الصليبية مازال يحكم مشاعر قطاع كبير من الناس (حكاماً ومحكومين) في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.

المصطلح والمدلول

وربما يكون مفيداً في هذا السياق أن نوضح أن مصطلح (الحملة الصليبية) ومصطلح (صليبي) مازال متداولاً في الأدبيات الغربية, وبين عامة الناس في الغرب الأوربي وأمريكا. ولكنه اكتسب مدلولاً آخر مع مرور الزمن. فعلى الرغم من الفشل النهائي الذي منيت به الحركة الصليبية, فإن المثال الصليبي تحول بمرور الوقت - تحت تأثير وسائل الإعلام التي عملت في خدمة الأهداف الاستعمارية الأوربية - إلى مثال برّاق يوحي بالشجاعة والتضحية بالنفس في سبيل المثل الأعلى. واستقر في الوجدان الشعبي الأوربي والأمريكي أن (الحملة الصليبية) لا بد من أن تكون بالضرورة حملة خيّرة, نبيلة القصد والهدف, منزهة عن الغرض مثل: رعاية المرضى, ومساعدة المنكوبين, أو جمع التبرعات... وما إلى ذلك من أهداف.وربما يكون الموروث الشعبي الأوربي المتداول حول الحروب الصليبية الذي حملته الأغنيات الشعبية الأوربية, وغيرها من عناصر هذا الموروث, وراء تلك الصورة الأخاذة التي ترتسم في أذهان الناس عامة في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية حين ترن في آذانهم عبارة (الحملة الصليبية). إذ إن الأغنيات والحكايات الشعبية الأوربية عن الحروب الصليبية تخلت عن الحقيقة التاريخية لصالح التعويض النفسي والقراءة الشعبية لتاريخ تلك الظاهرة التي كانت في حينها تجسيداً لأحلام الفقراء والمعدمين من أبناء الغرب الأوربي.

وربما يكون الحادث الوحيد الذي يتذكره خريج الجامعة العادي في الولايات المتحدة الأمريكية من حوادث تاريخ العصور الوسطى, هو الحروب الصليبية التي يتصورها في صورة فرسان بواسل على جيادهم الفارهة, وقد فارقوا الأهل والوطن تحت راية الصليب ليطاردوا العرب ذوي البشرات الداكنة الذين يفرون أمامهم في جبن وتخاذل. وعلى الرغم من أن هذه الصورة غير صحيحة جملة وتفصيلاً, فإن الكثيرين من السياسيين وقادة الرأي في أوربا وفي الولايات المتحدة لا يعرفون غيرها. ولذلك, فإن كثيراً من رجال السياسة والقلم في الغرب يستخدمون مصطلح (الحملة الصليبية) بهذا المعنى الخيّر والنبيل.

ومادام الغرب قد اصطنع لنفسه عدواً هو الإسلام, ومادام الإعلام والكتابات الغربية قد استمرت في الصراخ محذرة من (الخطر الأخضر) الذي حلّ محل (الخطر الأحمر) بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, فإن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عندما تحدث عن (حملة صليبية) ضد ما يسمى بالإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر لم يكن خارجاً عن السياق العام لمفاهيم الثقافة الغربية.

فهل انتهت الحروب الصليبية التي بدأت منذ تسعة قرون?

 

قاسم عبده قاسم