من الاقتباس إلى الترجمة.. التراث الطـبي العربي في أوربا

من الاقتباس إلى الترجمة.. التراث الطـبي العربي في أوربا

استمرت حركة استيعاب التقدم العلمي العربي في أوربا نحو ثلاثة قرون, بدأت مع قسطنطين الإفريقي في القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي, وازدهرت بعد ذلك في القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي بجهود جرهارد الكريموني, واستمرت أيضاً حتى القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي, ولكن التحوّل الكبير في اتجاه هذه الحركة كان من مرحلة الاقتباس والترجمة الجزئية في البداية, إلى الترجمة الكاملة ونسبة كل عمل إلى صاحبه والتدقيق في الترجمة ومراجعتها أو صقلها أو إعادتها للحصول على النص الكامل الدقيق, وهذا التحول دلّ على أهمية الأصالة والأمانة وأنها من مقومات بناء الحضارة.

كانت الكتب الطبية التي أعدّها باللاتينية قسطنطين الإفريقي (المتوفى 1087) في مرحلة غريبة من التاريخ الأوربي, إنها أوربا الوسيطة, حيث شعور قوي بقوة المسلمين وعداء متزايد تجاه التوسع الإسلامي وإعــــداد فـــي عــدة منـــاطق من أوربــا للهجوم المضاد على شكل الحروب الصليــبية, وفــي الوقت نفسه عرف الأوربيون ملامح التقدم العلمي والطبي في الحضارة الإسلامية, وذلك من خلال الاحتكاك بمناطـق هـــذه الحضـــارة في الأندلـــس. ومن هنا كانت المشكلة في أوربا وكان التفكير في حل عاجل.

ونفذ قسطنطين الإفريقي ذلك الحل بطريقة متسرعة بعيدة عن الأمانة واحترام الأصالة, وهذا الحل كان الاقتباس من علوم المسلمين دون الإشارة إليهم أو الاعتراف بفضلهم, مع نسبة جهودهم إلى الأطباء اليونان.

ولكنه ظل حلاً متواضعاً اقتصر على معلومات أساسية في الطب ولم يستوعب التقدم العلمي الحقيقي في هذا المجال.

كانت المكتبة الطبية الأوربية فقيرة إلى أبعد مدى, وكانت النصوص اللاتينية القليلة المتداولة في بداية العصور الوسطى الأوربية أقرب إلى الإرشادات الطبية, تضم بعض قواعد التشخيص وبعض الوصفات الطبية, ولم يكن هناك تصور علمي منهجي لما يتم في داخل جسم الإنسان من عمليات فسيولوجية.

كانت الكتب المتداولة تقدم مجموعة إجراءات ترشد المعالج, ولكنها لا تقدم تصوّرا علمياً لذلك. وهذه الكتب بعضها مؤلف بالنثر وبعضها يضم منظومات شعرية تستند إلى جهود مؤلفين أوربيين في أواخر العصور القديمة وبعضها من مصر من عصر الإسكندرية, ألف باليونانية ثم ترجم إلى اللاتينية, وهذه الكتب في متناول عدد من الرهبان, ويعتمدون عليها في معالجة المرضى.

كان عمل قسطنطين الإفريقي في مدينة سالرنو في جنوب إيطاليا, وكانت مدرسة سالرنو من أهم مؤسسات التعليم في أوربا في القرون من العاشر حتى الثالث عشر للميلاد. وكانت قد بدأت فيها نهضة محدودة بعمل ترجمات عن اليونانية مباشرة, ولم تكن اللغة اليونانية قد أخذت مكانتها - بعد - في نظام التعليم, وكان الاعتماد أساساً على اللغة اللاتينية, ولها وحدها السيادة الكاملة في التعليم والثقافة والدين. في سالرنو ترجم معاصر لقسطنطين هو الفنوس Alfonus السالرني كتاباً طبياً عن طبيعة الإنسان لمؤلفه Nemesius إلى اللاتينية, بعنوان: De natura hominis. وهذا الكتاب يتجاوز الأعراض المرضية ووصفات العلاج إلى تناول نظري لعلم الطب في إطار الفلسفة الطبيعية. وبذلك كان هناك تمهيد لتقبّل علم الطب على أساس علمي يتجاوز الأعراض والوصفات الطبية.

وفي هذا الإطار, قدّم قسطنطين أعماله باللاتينية, قدم كتاباً بعنوان Isagoge Iohanniti أي مدخل يوحنا. واختيار كلمة (إيساغوجي) ـ وهي كلمة يونانية الأصل ــ كان العرب قد عرّبوها بمعنى المدخل, وهي في هذا العنوان اللاتيني لها إيحاؤها اليوناني الواضح. وكان كتاب إيساغوجي في المنطق لفرفوريوس الصوري من أشهر الكتب التمهيدية اليونانية المتأخرة في علم المنطق, وقد عرفه العرب حق المعرفة. لقد اختار قسطنطين هذه الكلمة في عنوان كتابه اللاتيني ليعطيه طابعاً يونانياً, وكأنه اطلع وهو يؤلفه على تراث اليونان.

إنكار الفضل

إن مشكلة المصادر العربية والمظهر اليوناني كانت واضحة في عدة كتب. وعن هذا الخلط كتبت باحثة معاصرة هي دانيال جاكار بحثاً قيّماً في: موسوعة تاريخ العلوم العربية, أثبتت فيه اعتماد قسطنطين في كتابه (المدخل) على كتاب (مسائل في الطب) لحنين بن إسحق, ولكنه اعتماد جزئي, فقد ترجم بعض العبارات وحذف بعضها واختصر عدداً منها, واحتفظ بالمحتوى.

مشكلة قسطنطين الإفريقي تكمن في محاولته إبعاد المحتوى كله عن العرب وعمّن يعيشون في إطار الحضارة العربية الإسلامية. لم يذكر اسم حنين ابن إسحق صراحة, مكتفياً بأن الكلمة الثانية من عنوان كتابه هو Johanni التي تقابل يوحنا أو حنين. كتبت دانيال جاكارا: (العنوان Isagoge يحجب اسم المؤلف اسحق ولكنه يذهب الى ابعد من ذلك, فتحت عنوان Pantegniنجد إسناداً إلى Techne لجالينوس, ولكن Pantegni ليس من حيث المحتوى سوى كتاب كامل الصناعة الطبية لعلي بن العباس المجوسي). إن مشكلة قسطنطين كانت في سياق تيار العداء للعرب والمسلمين في أوربا في ذلك الوقت, وكأنه ابتعد بنفسه عن هؤلاء المسلمين كما ابتعد عمّن يعيش بينهم من أهل الكتاب في إطار الحضارة الإسلامية, إنه يأخذ عنهم وينكر فضلهم. ولكن الغريب في هذا الصدد أنه لا يجد مشكلة في ذكر أحد الأطباء اليهود ممن عاشوا في نسق الحضارة الإسلامية, وهو اسحق بن سليمان الإسرائيلي, ويذكره صراحة Isaac Israeli.

ومع هذا, فإن اعتماد قسطنطين على الكتب العربية يتضح أيضاً من الأصول العربية لبعض الكلمات التي استخدمها وتكشف صلته بمصادره, منها المريء mery والنخاع nucha.

ومن المفيد - في هذا الصدد - متابعة المصطلحات العربية المفردة والمركبة وما يقابلها عند قسطنطين باللاتينية, وكيف مهّد بهذه الترجمة لوضع مصطلحات لاتينية جديدة أو مصطلحات عربية دخلت اللاتينية ثم تداولها المترجمون والأطباء بعد ذلك.

ولما كان الوعي الجديد في عصره هو إعادة الاعتبار للتراث اليوناني, فقد حاول إقناع نفسه وإقناع معاصريه بأنه إنما يقدم باللغة اللاتينية تراث جالينوس منقولاً من الكتب العربية أو دون ذكر هذه الكتب العربية.

طور جديد

كان لعمل قسطنطين أثر بعيد في بداية الاهتمام في أوربا بعلم الطب, وأدى هذا كله إلى تصوّر جديد للطب بوصفه علماً, وتقسيمه إلى أسس نظرية وتطبيق عملي, ودفع هذا العمل إلى حركة واسعة في البحث, وإلى إعداد عدد من الشروح مهّدت لحركة ترجمة حقيقية ثم لتعليم طبي جاد.

قاد جرهارد الكريموني (المتوفى سنة 1187) في طليطلة هذه الحركة الجديدة للترجمة, وذلك في إطار اعتراف صريح بتقدم العرب الطبي وبأهمية نقل مؤلفات الأعلام الكبار مثل ابن سينا والرازي والزهراوي من العربية إلى اللاتينية. وهذه الترجمات اللاتينية الجادّة والدقيقة ظلت موضع التقدير والاحترام عند الأطباء الأوربيين الذين أخذوا منذ منتصف القرن الثالث عشر يؤسسون للطب كليات متخصصة.

لقد استمر استخدام هذه الترجمات اللاتينية في التعليم الطبي عدة قرون, حافظت بعض كليات الطب الأوربية على كتاب القانون في الطب لابن سينا في ترجمته اللاتينية أكثر من أربعة قرون, وهذه الترجمة, طبعت نحو ســتين طبــعة جـزئيـة أو كــاملــة. وأخــذ ابن سينا والرازي - على وجه الخصوص - في التعليم الطبي الأوربي مكاناً متقدماً, إلى جانب أشهر علماء الطب عند اليونان: جالينوس. وكان الخلاف بين أساتذة الطب في أوربا مقصوراً على مدى الاختيار من كتبهم للتعليم الطبي. وهذا التحوّل الكبير من مرحلة الاقتباس إلى مرحلة الترجمة الدقيقة يعد تحولاً جاداً له أهميته في تاريخ التقدم الأوربي. وكانت مرحلة الترجمة تالية لمرحلة الاقتباس. فهل كان قسطنطين الإفريقي - على الرغم من سياق عصره - ممهداً لحركة الإفادة من التراث العربي بشكل جاد? لقد حدثت هذه الإفادة, وأصبح دارسو الطب باللاتينية يعرفون أهم الجهود العربية.

كانت حركة ترجمة الكتب الطبية العربية إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر بعيدة النظر ورفيعة الطموح, لم تقتصر على كتب طبية صغيرة, لقد ترجم مجهول في إيطاليا كتاب يوحنا بن ماسويه (نوادر الطب) ونسبه إليه, ثم ترجم يوحنا الأشبيلي في إسبانيا (رسالة في الفـصل ـبين الـروح والنـفس) لقسطا بن لوقا.

ولكن التعريف القوي بتراث العرب الطبي كان بفضل جهود جرهارد الكريموني في طليطلة في القرن الثاني عشر أيضاً. وهنا نجد منظومة كاملة من الكتب العربية التي ترجمت إلى اللاتينية منها: (الصناعة الصغيرة) لعلي بن رضوان, و(الكُنّاس الصغير) ليوحنا بن سرابيون, و (رسالة في معرفة قوى الأدوية المركبة) للكندي.

ولكن اهتمام جرهارد الكريموني بكتب الرازي والزهراوي وابن سينا وابن وافد أثرى المكتبة اللاتينية بكتب من أهم كتب الطب العربية, ترجم للرازي (الكتاب المنصوري) في الطب وكتاب (تقسيم العلل), وكتاب (الأقرباذين), وكتاب (أوجاع المفاصل). (طبعت بين عامي 1481 و1482). وترجم - أيضاً - كتاب أبي القاسم الزهراوي (التصريف لمن عجز عن التصنيف) (طبع سنة 1497) وترجم - أيضاً - كتاب (القانون) لابن سينا (طبع 1472), وكذلك ترجم كتابي (الحدود) و (الرسوم) (طبع 1515).

وكانت هذه الحركة القوية في القرن الثاني عشر موجهة لاتجاه الترجمة والتعليم الطبي, واستمرت قوية حتى القرن الرابع عشر الميلادي. وفي هذا الإطار نقل المترجمون من العربية إلى اللاتينية كتباً أخرى للرازي وابن بطلان وابن زهر وابن رشد وعلي بن عيسى. وبهذا استوعبت اللغة اللاتينية - وهي لغة العلم في أوربا في ذلك الوقت - أهم كتب الطب العربية.

مراكز الترجمة

إن متابعة حركة الترجمة في المجال الطبي في جنوب أوربا توضح مجموعة من الحقائق المهمة في تاريخ العلم. فهذه الحركة لم تقتصر على مناطق حَكَمها العرب, بل كانت في عدة أماكن لها صلة بالحضارة العربية الإسلامية, منها جنوب إيطاليا حيث كان قسطنطين الإفريقي, ومنها بادوا في إيطاليا حيث ترجم بوناكوسا Bonacosa في القرن الثالث عشر كتاب (الكليات) لابن رشد, ومنها طليطلة في إسبانيا حيث عمل جرهارد الكريموني, ومنها مرسية حيث عمل روفن Rufin وماروشينوس D.Marrochinos في القرن الثالث عشر. وكانت مونبلييه في جنوب فرنسا في القرن الثالث عشر الميلادي مركزاً مهماً لتلقي العلم العربي. وفي مونبلييه ترجمت لابن سينا (مقالة في أحكام الأدوية القلبية), وترجم أيضاً كتاب (الأغذية) لابن زهر, وترجمت أرجوزة ابن سينا في الطب.

وكانت صقلية مركزاً مهماً للترجمة في القرن الثالث عشر الميلادي, حيث ترجم فرج بن سالم كتاب (الحاوي) للرازي, وحيث ترجم أيضاً كتاب (تقويم الصحة) لابن بطلان. ومعنى هذا أن حركة الإفادة من العلم العربي كانت في كل دول حوض البحر المتوسط الأوربية: إيطاليا وفرنسا وإسبانيا بهدف استيعاب العلم العربي وتقديمه لقارئ اللاتينية, ولم تقتصر على مناطق الحكم العربي.

لقد زاد الاهتمام بالكتب العربية الطبية, وأصبح الحصول على ترجمة مدققة مطلباً أساسياً. ومن هنا نجد عدة ترجمات لبعض الكتب العربية, وهناك مثالان لذلك, كتاب (مسائل في الطب) لحنين بن اسحق كان قسطنطين الإفريقي قد اقتبس منه على نحو يعد ترجمة جزئية, ولكنا نجد الترجمة اللاتينية من إعداد مارك الطليطلي في طليطلة في القرن الثاني عشر, ثم نجد ترجمة لاتينية ثالثة أعدها روفن في مرسية في إسبانيا في القرن الثالث عشر. أما كتاب (التصريف لمن عجز عن التصنيف) للزهراوي فقد ترجم مرتين, الأولى ترجمة جرهارد الكريموني في طليطلة في القرن الثاني عشر والترجمة الثانية كانت في إيطاليا في القرن الثالث عشر من إعداد Siman وAbraham Tortuensis .

وكلتاهما طبعت بعد ذلك في البندقية (1497 , 1471). وهكذا كانت الحاجة إلى ترجمة مدققة تدفع إلى تكرار العمل حتى يكون أمام القارئ نص كامل وسليم.

هكذا تصنع الشعوب

كانت اللغة العربية واللغة اللاتينية لغتي علم في منطقة البحر المتوسط, وعندما أيقن الأوربيون في الشمال تفوق العرب في الجنوب قاموا أول الأمر ولبعض الوقت بالنقل الجزئي عن مؤلفات عربية, ثم تحولوا بشكل قوي إلى ترجمة العلم العربي, وسرعان ما أدركوا خطورة الملخصات والترجمات الجزئية, فأخذوا في عمل ترجمات كاملة للأعمال الكبرى إلى اللغة اللاتينية لغة العلم عندهم. وهذه تجربة مهمة, لم يتخلّ الأوربيون عن اللاتينية, ولم يتحوّلوا في التعليم عن اللاتينية إلى العربية. كان هناك متخصصون في العربية نقلوا منها إلى اللاتينية ما احتاج إليه التعليم الطبي وغيره واحترموا لغة العلم والتعليم في أوربا, ولم يتخلوا عنها, وبعد حركة الترجمة بدأت حركة استشراق أكاديمي لدراسة اللغة والحضارة. وفي كل هذا السياق احتفظوا بلغتهم اللاتينية وقاموا بتنميتها, وأصبحت هذه التنمية رافداً مهماً لتكوين المصطلحات في اللغات الأوربية الحديثة. ولم يتركوا لغتهم لأن غيرهم تقدم عليهم في العلم, وهكذا صنعت شعوب كثيرة في العصر الحديث, اهتمت بلغتها ونقلت إليها ونهضت من خلال ذلك

 

محمود فهمي حجازي







صورة مخطوط عربي عن النباتات الطبية، ترجمة عربية لكتاب ديسقوردس وتوجد الترجمة الوطنية بباريس وبمكتبة الاسكوريال في اسبانيا





أدوات التشريح الجراحة عند الزهراوي (معهد تاريخ العلوم العربية الاسلامية، فرانكفورتز ألمانيا)





أدات للجراحة من التراث الطبي العربي (معهد تاريخ العلوم العربية الاسلامية، فرانكفورت- ألمانيا)