200 عام على ولادة فكتور هوجو: وجـوه متعددة لكاتـب واحد

200 عام على ولادة فكتور هوجو: وجـوه متعددة لكاتـب واحد

لم يكن كاتباً عادياً. ولكنه كان شاعراً ومسرحياً
وسياسياً وداعياً للوحدة الأوربية منذ وقت مبكر.

عُرف عن فكتور هوجو - إلى جانب شهرته العالمية في الإبداع الشعري - أنه تعاطى السياسة في فرنسا, وغادر بلاده بسببها, ثم عاد إلى باريس مظفّرا في الخامس من سبتمبر عام 1870م, لينتُخب عام 1871 نائباً عن باريس في الجمعية الوطنية. لكنه ما عتّم أن استقال لينتخبه الباريسيون من جديد ممثلا عنهم في مجلس الشيوخ عام 1876.

إلا أن الناحية المغمورة من حياته السياسية هي نظرته السياسية الواسعة التي تجاوزت حدود بلاده ومشكلات فرنسا الداخلية, إلى العلاقات الفرنسية - الألمانية والتمهيد للوحدة الأوربية التي أضحت, في أيامنا, واقعاً شبه محسوم. فالشعراء العظماء يسفهّون اعتقاد سواد الناس في أن أهل الشعر لا يتجاوزون الحلم إلى الواقع, وأن دورهم يقتصر على تجميل هذا الواقع من دون معالجة أزماته. هذا شأن المتنبي مشخّصا أمراض الحُكْم في عصره وداعياً إلى استعادة العرب مكانتهم والعروبة كيانها. وهو, كذلك, شأنُ الفردوسيّ, شاعر الملحمة الإيرانية - الشاهنامة - الذي تجاوز مديح السلاطين والملوك إلى بعث القوميّة الإيرانية وبناء سياسة الوحدة الوطنية.

لكنّ فكتور هوجو تجاوز السياسة المحلية والدعوة إلى المنَعة القومية إلى المطالبة بوفاق عام بين فرنسا وألمانيا المتصارعتين منذ القدم, معتبراً ذلك خطوة حاسمة نحو وفاق أوربي شامل نشهد ثماره, اليوم, في الوحدة الأوربية شبه المتكاملة!

وقد جاءت هذه الدعـــوة في كتــــاب له مغمـــور هو عبارة عـــــن سرد وقائع رحلة له في بلاد نهر الراين المتاخم لفرنــــسا وألمانيا في آن, عـــــنوانه: الراين Le Rhin.

رحلة بلا هدف

هذا الكتاب مجموعة رسائل وجهها فكتور هوجو من مسارح رحلته في بلاد الراين (راينلاند, Rheinland, كما يقول الألمان) إلى صديق له في باريس, في أواخر الثلاثينيات من القرن التاسع عشر.

وقد صادف طبع الكتاب عام 1842, إعادة طرح مسألة الخلاف بين فرنسا وألمانيا حول بلاد الراين, فكان للشاعر هوجو رأي موزون توفيقيّ في المسألة المعاد طرحها, كما سنرى, مما جعل لكتاب رحلته بعداً سياسياً أوربياً إلى جانب وجوه قيمته المتعددة.

ولا بد من الإشارة, ها هنا, إلى أن فكتور هوجو لم يكن له, في بدء رحلته, هدف محدّد منها, ولا هو نوى, يوم شرع بها, طبع كتابه, بل تأليفه كذلك. فهو يستهلّ المقدمة التي كتبها عام 1842م بعد أربع سنوات تقريباً من بدء رحلته (1838م), بالقول إنه باشر رحلته, وليس له من هدف سوى مشاهدة الأشجار والسماء, وهما شيئان لا يراهما المرء في باريس. وهذا ما يتبينه القارئ من خلال مطالعته الصفحات الأولى لكتاب رحلته. كأني بفكتور هوجو يلتقي - وقد أخذ منه الملل مأخذه - شاعرنا اللبنانيّ المعاصر يوسف عواد حيث يصرخ:

يا رحلة ليس لها مقصد

أجملُ ما فيها أغانيها



صدمة الراين

إن التقاءه الراين أثار فيه ما لم تثره أي واقعة من وقائع رحلته, أي إرادة النظر والمراقبة وتفحص الأشياء في سبيل هدف محدد. وقد عبّر هوجو عن هذه الحال بقوله: إن مواجهته الراين (جمّدت مسيرة أفكاره السارحة على هواها, طبعت سياحته بفحوى شبه واضحة, بعد إذ كانت غير ذات هدف, منحت دراساته نقطة ارتكاز, بكلمة, نقلته من أحلام اليقظة إلى (بؤرة) الفكرة).

أما نهر الراين ذاته, فالناس لا يرونه كما ينبغي. فكلهم يتحدثون عنه, وليس بينهم من يقوم بدراسته. وكلهم يرحبون به, من دون أن يعرفه أحد, ويسرّحون إليه النظر, من دون تعمق. وواقع الأمر أن خرائب (الراين) تحتلّ المخيلات الرفيعة, في حين يشغل قدره الأذهان الرصينة. وهنا يستخلص شاعرنا لبّ أهمية نهر (الراين) فيقول: (وهذا النهر الرائع يتيح لعين الشاعر, كما لعين متعاطي الشأن العام, أن تتبيّن, من خلال شفافية أمواجه, ماضي أوربا ومستقبلها).

يوضح فكتور هوجو فكرته هذه - التي تبرزه أديباً ملتزماً قضايا مجتمعه وعصره, كما شعره الذي يبدو بعيداً عنهما وهو في عمق جذورهما - كما يلي: إن تأمل ماضي الراين يتجسّد في معاينة المباني التي تصيبها عوادي الأيام. أما حساب المستقبل فيجري من خلال المحصّلات المحتملة للأحداث الحيّة. ثم يضيف, بقدرة رؤيته الثاقبة: إن الراين سيُضحي يوما, وهو قريب جداً, المسألة الصارخة للقارة الأوربية! فلم لا يوجّه الشاعر تأمّله نحو هذه الناحية? وهو يعني بذلك أن للشاعر رسالة وطنية وقومية وسياسية كما يعبّر أدباء عصرنا الملتزمون.

التوفيق بين فرنسا وألمانيا

ينطلق فكتور هوجو - وهو المتمرّس بالسياسة والذي سيخوض غمارها, فيما بعد, خوضاً عملياً - في فهم المستقبل, من الحاضر حيث يتكشف له أمران, الأول أن الراين فرنسيّ أكثر مما يظن الألمان, والثاني أن الألمان أقلّ عداء لفرنسا ممّا يعتقد الفرنسيون. هذا الاعتقاد, الذي تحصّل له وترسخ فيه, غدا, بالنسبة إليه, أحد المنطلقات لبحث هذه المسألة.

وواقع الأمر أن فكتور هوجو - الذي كتب مقدمة كتابه في يناير من عام 1842م - يشير إلى أن مسألة الراين طرحت من جديد بين فرنسا وألمانيا لستة أشهر أو ثمانية خلت, أي في منتصف العام 1831م تقريباً. وقد تناولها بالبحث والأخذ والرد أهل تفوّق وشرف وانشعبوا على اتجاهين, كما يحدث غالبا. ففئة اعتبرت معاهدات 1815م أمراً واقعاً, وعليه, تخلّت عن الضفة اليسرى من الراين لألمانيا, غير مطالبة إلا بصداقتها, والفئة الأخرى - فيما احتجّت بشدة على معاهدات 1815م وبحق, بحسب رأينا - طالبت بالضفة اليسرى بقوة وتخلّت عن صداقة ألمانيا.

فالأولون ضحّوا بالراين في سبيل السلام, والآخرون ضحّوا بالسلام في سبيل الراين. ويضيف فكتور هوجو: في رأينا, كان هؤلاء وأولئك على خطأ وصواب في آن. فبين هذين الرأيين المتناقضين والمتضاديّن بدا لنا موقعٌ لرأي موفّق بينهما

رحلة في الذات قبل الأرض

أعتقد أن القاص الفرنسي إميل زولا هو صاحب هذا القول عظيم الدلالة (الفنّ هو الطبيعة مرئية من خلال مزاج). وهو قول ينطبق على فنّ فكتور هوجو خلال رحلته إلى بلاد الراين. فقد سطّر في الرسالة الأولى لدفتر رحلته, مخاطباً صديقه الباريسي بقوله (تعلم, يا صديقي, أني لا أبتغي الأحداث في السفر, بل الأفكار والأحاسيس, لذا, حسبي جدة الأشياء. القليل يرضيني. كلّ ما أبغيه أشجار, وعشب, وهواء, وطريق يمتدّ أمامي وينسحب ورائي. إذا كانت البلاد مسطحة أحببتُ الآفاق المنبسطة, وإذا كانت وعرة أحببتُ المناظر غير المتوقعة...).

ويؤكد موقفه هذا, بصورة أخرى,, في مكان آخر من رسالته الرابعة المؤرخة في 29 يوليو 1938, إذ يصف مدينة (سواسّون) Soissons بقوله: أما أنا فكنت أنظر بانتباه بعيني الذهن, إلى قيصر ينتصر, وكلوفيس يملك, ونابليون يتداعى. ذلك أن الرجال, وإن يكونوا (قيصر), أو كلوفيس, أو نابليون, ليسوا سوى ظلال تمرّ (مرّ السحاب), وذلك أن الحرب إن هي إلا ظلٌ مثلهم تذهب بذهابهم, في حين أن الله, والطبيعة التي تصدر عن الله, والسلام الذي يصدر عن الطبيعة, هي باقية).

إنها رحلة الأفكار والأحاسيس, وإنه النظر بعيني الذهن يفضي إلى التأمل في الوجود والكون وما وراءهما, لكأني بفكتور هوجو يقوم برحلة تأملات في ذاته ومن خلالها في الكون فيرفع عقيرته منشداً بلسان الشاعر العربي (عَدِيُّ بن زيد العبادي):

ليس شيء على المنون بباق

غير وجه المسبَّح الخَلاَّقِ!




وفي مكان آخر يعبّر هوجو عن جوهر رحلته هكذا: (إنها يوميّات فكر أكثر منها يوميات سفر).

إحياء التاريخ

من هنا, يمكن اعتبار رحلة فكتور هوجو دفتر تأملات في شئون الكون والحياة. لذا, أفاض في ذكر الأحداث التاريخية فترى كتابه يضجّ بها, يذكرها عن ظهر قلب في رسائله إلى صديقه الباريسي, وقلّما يخطئ فيها. ناهيك بالتعاليق الأرخيولوجية حول المباني التاريخية والخرائب. ونشير, في هذا المجال, إلى ما كتبه هوجو عن مقاطعة (شامبانيا) Champagne, فهو من خير الأمثلة على هذه الناحية من خصائص رحلته.

فهو يعرض فيها, بإيجاز يدل على تبحّر في التاريخ القديم وتاريخ القرون الوسطى, وصولاً إلى عصره, لكنه لا يعرضه عرضاً جامداً يقتصر على السّرد - وهنا تتجلى عبقرية الشاعر الكاتب هوجو - بل يحييه, بحديثه وتشخيصه, واصلاً الماضي بالحاضر فإذا هما مجسّدان أمامك لا تعرف واحدهما من الآخر! فيذكّرك, أحياناً, بالبحتريّ في (سينيّته) الشهيرة التي مطلعها:

صنتُ نفسي عمّا يدنّسُ نفسي

وترفّعتُ عن جدا كلّ جبس



تفضيله النظام الملكيّ

من خلال اهتمام فكتور هوجو بالتاريخ, وبتاريخ فرنسا بوجه خاص, يتضح لنا أمرٌ عرف عنه, بصورة عامة, لكنه صريح في كتاب رحلته هذا, وهو اعتزازه بملوك فرنسا وترجيحه النظام الملكيّ على الجمهورية.

حين يتحدث هوجو عن (شامبانيا) ومدنها يجنح إلى هذا القول:

(كما ترى, فإن التاريخ المحلي لجميع هذه المدن من (شامبانيا) هو تاريخ فرنسا, هو تاريخها بالتفاريق, لكنه تاريخ كبير, مع ذلك.

إن (شامبانيا) تحتفظ ببصمات ملوكنا القدامى. ففي (رامس) Reims كانوا يتوجون... سان لويس ولويس الرابع عشر, الملك البار وكبير ملوك العترة, قاتلا كلاهما, لأول مرة في (شامبانيا), الأول في 1228م, في مدينة (تروا) Troyes حيث رفع عنها الحصار, الثاني, عام 1652م, في مدينة سانت مينيهولد Sainte Menehould التي دخلها من الثغرة. يا للمصادفة العجيبة, كلاهما كان في الرابعة عشرة!).

ويعتبر فكتور هوجو الإمبراطور نابليون استمراراً لملوك فرنسا العتاق, فيتابع في السياق ذاته, قائلا: (تحتفظ شامبانيا بدمغة نابليون. لقد كتب بأسماء شامبيانيوية الصفحات الأخيرة من منظومته الخارقة, أرسي سوراوب, شالون, رامس, شامبويير, سيزان, فرتو, ميري, لافير مونميراي. معارك في عددها, وانتصارات في عددها! فيزم, فيتري, دولفان جميعها تناوبت كونها مقره العسكري العام... نوجان/ على/ السّين Nogent - sur - Seine شهدت في خمسة أيام خمسة انتصارات للإمبراطور, وهو يتحرك على المارن (نهر) مع حفنة من أبطاله...).

رسالة الشاعر

بعد جلاء هذه النواحي من رحلة هوجو في بلاد الراين, متشابهين في تدفقهما كالقدر, يتكشّف لنا, من خلال النصوص التي تناولناها موقفه من رسالة المبدع, شاعراً كان أو كاتباً أو رساماً, أو سوى ذلك, وبالتالي من وظيفة الفن. فلنحاول أن نجمع بين ما يرشح لنا ممّا قرأناه وما صرّح به في تضاعيف كتابه. وأبرز ما يُعلنه هوجو, في هذا الميدان الذي يختصر الحياة, أنّ الشاعر معنيّ بكل ما في الكون وجميع ما يجري فيه!

قال هوجو (حسب الشاعر أن يحيا في أحد العصور المصيرية من الحضارة, لتُعنى نفسه, بالضرورة, بكل شيء, بالمذهب الطبيعيّ, والتاريخ, والفلسفة, بالناس والأحداث, وليكون, دوما في حالة تأهب لمباشرة المسائل العلمية مثل سواها. يجب أن يعرف, عند الحاجة, كيف يؤدي خدمة مباشرة ويسهم في حركة الواقع. ثمة أيام ينبغي خلالها أن يصبح كل امرئ مجنّدا, وكل مسافر بحّاراً.

في هذا العصر المميّز العظيم, يحتّم عدم التراجع, منذ البداية, أمام رسالة الكاتب الشاقّة, فرض شريعة على النفس بعدم التراجع مطلقاً. إنّ حكم الأمم هو تحمّل مسئولية, التوجه إلى الأذهان هو تحمّل مسئولية من نوع آخر. جمع الوقائع, معاينة الأشياء شخصياً, تقدير المصاعب, الإسهام في الحلول قدر الإمكان, هي الشرط بعينه لرسالته, مفهومة بإخلاص. هو يدرك أن متابعة الأمور قوّة ويمكن لهذه القوة أن نضيفها إلى ضعفه. إن نقطة الماء التي تسقط من الصخرة تنقّب الجبل, فلم لا يكون في استطاعة نقطة الماء التي ترشح من الذهن أن تنفذ إلى المسائل التاريخية?).

هذا النص نموذج لمفهوم الالتزام الأدبي, في معناه العام الإنسانيّ لا في المفهوم العقدي الضيّق الذي يتحوّل فيه الأديب إلى صحافيّ أو سياسي. وهو جدير بالتأمل والدراسة. فأحلام اليقظة أو النوم تمثل عبقريّ للواقع يمكن تسخيره في سبيل حلّ صعوباته ومعضلاته. إنها المعاناة, تعرف, بديهة, كيف تقدم ومتى, وكيف تحجم ومتى.

هذا بعض الحصاد الذي يئوب به من يرافق فكتو هوجو إلى ضفاف الراين في رحلة الواقع والشعور والتأمل. إنها رائعة أدبية ورسالة قومية إنسانية بين فرنسا وألمانيا, ومن ثمّ بين شعوب القارة الأوربية, واستطراداً بين شعوب العالم. هي نغمة سلام تنتظم أعمالاً في أسلوب الجمال يستخدم النثر الذي نافس به شاعرنا أهله الكبار.

كتاب فكتور هوجو شاهد عصر من العلاقات الأوربية, ومحيي ماضٍ من الأمجاد في تاريخ فرنسا السياسيّ والاجتماعي والثقافي, ومتنوّر مستقبل لفرنسا وأوربا, وقبل كل شيء شهادة حيّة لحقبة من حياة فكتور هوجو الخصبة بالشاعرية والكتابة والفكر, ولا سيّما في مجال الإبداع الأدبي والنظريات الأدبية.

لقد أثبت هوجو في سِفْره الضخم حول بلاد الرّاين أن (الأنا) ليست تقوقعاً وانطواء على الذات, بل هي في مركز المجتمع والحياة السائرة دوما كنهر جار. (أنا) فكتور هوجو كانت في كتابه (الراين) محور ذاته, ومحور فرنسا, وقلب أوربا والعالم

 

فكتور الكِك







فكتور هوجو