إخوان الصفاء.. وأول موسوعة للمعارف الإسلامية

إخوان الصفاء.. وأول موسوعة للمعارف الإسلامية

لما كان أساس تكوينهم هو الإخلاص والفدائية فقد أطلقوا
على أنفسهم إخوان الصفاء.. وخلان الوفاء.

زعم الغربيون أن أولى دوائر المعارف في الدنيا نشأت في بلادهم, وأيدهم في تلك الدعوى أنصاف المثقفين عندنا.. ولو أنهم درسوا التراث الشرقي كما ينبغي لتبين لهم أنه يشتمل على عدة موسوعات جدية من طرز مختلفة, وإن لم تتبع في ترتيبها ذلك النظام الأبجدي المألوف لدى واضعي القواميس والموسوعات.

ومن أبرز هذه الموسوعات وأخلدها على الزمن, وأجدرها بالمباهاة موسوعة (إخوان الصفاء) التي تعتبر في الصفوف الأولى من روائع الأعمال مجهولة القيمة, مهضومة التقدير, بل هي في رأينا أنفس وأعمق وأنفع من أكثر الموسوعات الغربية, لأنهاكلها من إنتاج الخاصة المختارين, بينما تلك الموسوعات الغربية قد اشترك في إعدادها بعض النابهين وكثير من الخاملين.

وفوق ذلك, فإنها قد عنيت بتقسيم العلوم المعروفة إلى عصرها عناية دفعت بعض المستشرقين إلى تقرير أن الأعمال العلمية في رسائل إخوان الصفاء أكثر تفوقاً منها عند الفارابي. وقد قسموا العلوم الإنسانية إذ ذاك إلى ثلاثة أقسام هي:

1 ـ العلوم الترويضية وعلم التأديب: وغايتها إصلاح أحوال المعاش, وتشتمل على العلوم: الكتابة والقراءة واللغة والنحو والحساب, والمعاملات والشعر والعروض, والزجر والفأل والسحر والعزائم والكيمياء والحيل والحرف والصنائع, والبيع والشراء, والتجارة والحرث والنسل والسير والأخبار.

2 ـ العلوم الشرعية الوضعية: وغايتها شفاء النفس ومساعدتها في تحقيق نجاتها, وهي تشتمل على علوم: التنزيل والتأويل والأخبار والفقه, والسنن والأحكام والتذكار والمواعظ والزهد والتصوف وتأويل الأحكام.

3 ـ العلوم الفلسفية: وتشتمل على:
أ ـ العلوم الرياضية وهي: العدد والهندسة والنجوم والموسيقى.
ب ـ العلوم المنطقية وهي: القياسية والبرهانية والجدلية, والخطابية, والشعرية, والمغالطية.
ج ـ العلوم الطبيعية وهي: المبادئ الجسمانية, والسماء والعالم, والكون والفساد, وحوادث الجو, والمعادن والنبات والحيوان, والطب والبيطرة, وسياسة الدواب والسباع والطيور.
د ـ العلوم الإلهية وهي: الألوهية والروحانيات والنفسانيات والمعاد.

من هم إخوان الصفاء?

تسميتهم: حدثنا المستشرق دي بور في دائرة المعارف الفرنسية نقلا عن (جولد زيهر) أن هذه الجماعة قد أخذت اسمها من خرافة (الحمامة المطوقة) في كتاب (كليلة ودمنة) لأن هذه الخرافة فضلاً عن أنها اشتملت على نفس الكلمة (إخوان الصفاء) قد احتوت من الغيرية والتضحية ما اشترطته هذه الجماعة في الصداقة.. فكما نرى الحمامة في الخرافة تطلب إلى الجرز أن يقطع شباك صديقاتها قبل شبكتها, وتقدم نجاتهن على نجاتها, نرى إخوان الصفاء يقولون في أحد الفصول التي كتبوها عن الصداقة ما نصه: (فإذا أسعدك الله يا أخي بمن هذه صفته, فابذل له نفسك ومالك وصن عرضه بعرضك وافرش له جناحيك, وأودعه سرك, وشاوره في أمرك, وداو برؤيته عينيك.. واذكر من سالف إحسانه عند إساءته ليأنس بك, ويأمن من غائلتك, فإن ذلك أسلم لوده وأدوم لإخائه).

أما عن حقيقة إخوان الصفاء فتذكر مصادر إسلامية عديدة أسماء جماعة من علماء البصرة على أنهم مؤلفو الرسائل, فابن القفطي يذكر في كتابه (أخبار الحكماء) نقلا عن أبي حيان التوحيدي, أن مؤلفي الرسائل هم أبو سليمان محمد بن معشر البسطي, وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني, وأبوأحمد المهرجاني, وعوفي البصري, وزيد بن الرفاعي. وأورد الشهرزوري قائمة من المؤلفين مختلفة نوعا ما, ذكرها في كتابه (نزهة الأرواح) وتضم المقدسي, وأبي الحسن علي بن وهرون الصابي, والنهرجوري, وعوفي البصري, وزيد بن الرفاعي.

وقد تجلى اهتمام الغرب بالرسائل عندما قام ديتريشي Dietrici بترجمتها في القرن التاسع عشر, وقد أدرك دورها المهم في جمع معظم المعارف الإسلامية بطريقة موسوعية, وفي توحيد مختلف العلوم في وجهة نظر عالمية موحدة وهناك عدد من العلماء الغربيين مثل ـ شترين Stern وسارطون Sarton ـ الذين أخذوا برأي الكتاب المسلمين الأوائل فيما يتعلق بنسبة مؤلفي الرسائل خاصة بعد نشر كتاب (الإمتاع والمؤانسة) للتوحيدي الذي ذكر فيه أسماء جماعة العلماء. وقد عرف (كوربان) Corbin إخوان الصفاء بأنهم جماعة أو جمعية من رجال العلم الذين كانوا في الوقت نفسه صوت الحركة الإسماعيلية.

وعندما يقول الإخوان (وينبغي أن تعلم أن العلة التي تجمع بين إخوان الصفاء هي أن يرى ويعلم كل واحد منهم أنه لا يتم له من صلاح معيشة الدنيا ونيل الفوز والنجاة في الآخرة إلا بمعاونة كل واحد منهم لصاحبه), ندرك أن هدفهم تربوي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى, أي الوصول بملكات الإنسان الكامنة إلى مرحلة الإثمار والكمال, كي يتمكن من النجاح ونيل الحرية الروحية. ونجد أن كل فصل من فصول دراستهم الطويلة, يذكر القارئ, بأنه سجين في هذا العالم, وأن عليه تحرير نفسه عن طريق المعرفة, أي عن طريق جعل الإنسان واعيا لعظمة انسجام العالم وجماله من جهة, وضرورة أن يذهب الإنسان إلى ما بعد الوجود المادي من جهة أخرى. لهذا فقد جمع إخوان الصفاء في تربيتهم المثالية فضائل أمم عديدة من أجل الوصول إلى تلك النهاية.

الإنسان الكامل

وكان إخوان الصفاء قد عرفوا الإنسان المثالي الكامل خلقياً على أنه شرقي فارسي النشأة, ذو تربية عراقية ـ أي بابلية ـ تلميذ المسيح في سلوكه, عربي في إيمانه, عبري في دهائه, تقي كراهب سرياني, يوناني في العلوم الفردية, هندي في تفسيره للألغاز, وأخيرا, وبشكل خاص صوفي في مجمل حياته الروحية.

ولم يقرن إخوان الصفاء أنفسهم روحيا بالتصوف فقط, وهو الذي يهدف في النهاية إلى إيقاظ المزيد من غفلة النسيان من خلال تربية وتدريب روحانيين, بل إن حديثهم عن جمعيتهم يطابق ـ من ناحية ظاهرة واجتماعية ـ إخوانيات المتصوفة. وقد قسموا أنفسهم إلى مراتب أربع هي:

1 ـ من يملكون صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور, ولا يقل عمر العضو فيها عن خمسة عشر عاما, ويسمون بالأبرار والرحماء, وينتمون إلى طبقة أرباب الصنائع.

2 ـ من يملكون الشفقة والرحمة على الإخوان, وأعضاؤها من عمرثلاثين عاماً فما فوق, ويسمون بالأخيار الفضلاء, وطبقتهم هي ذوو السياسات.

3 ـ من يملكون القدرة على دفع العناد والخلاف بالرفق واللطف المؤدي إلى إصلاحه. ويمثل هؤلاء القوة الناموسية الواردة بعد بلوغ الإنسان الأربعين من العمر, ويسمون بالفضلاء الكرام, وهم الملوك والسلاطين.

4 ـ المرتبة الأعلى هي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عياناً. وهي قوة الملكية الواردة بعد بلوغ الخمسين من العمر وهي الممهدة للصعود إلى ملكوت السماء, وإليها ينتمي الأنبياء والحكماء.

وعامة, يهدف الإخوان إلى نشر الحكمة الخالدة, أو ما أطلق عليه السهروردي فيما بعد الحكمة اللدنية التي امتلكها الإنسان بصورة ما على الدوام, ولكنها تنتشر الآن إلى أقصى مدى على يدي الإخوان بعد أن بقيت مستترة في (الكهف) طيلة الأدوار السابقة لتاريخ الإنسانية فهم يقولون: (اعلم أيها الأخ البار الرحيم, إنا نحن جماعة إخوان الصفاء, أصفياء وأصدقاء كرام, كنا نياماً في كهف أبينا آدم مدة من الزمان تتقلب بنا تصاريف الزمان ونوائب الحدثان, حتى جاء وقت الميعاد بعد تفرق في البلاد في مملكة الناموس الأكبر, وشاهدنا مدينتنا الروحانية المرتفعة في الهواء...).

ومن هنا لا يكون غريبا أن نجد الباحث د. سيد حسين نصر يقول: (لم يفعلوا ذلك بقصد تجميع متحف, بل لبناء قلعة موحدة ولهداية تلاميذهم إلى حقيقة وحيدة يرون أنها أساس جميع المصادر المتنوعة التي استقوا منها علومهم وإلهامهم. كما رأوا أن البركة النهائية تأتي, في جميع الأحوال من الإسلام الذي هو التنزيل الأخير للحقيقة في الدور الحالي للإنسانية.

أقوال قديمة وحديثة

فإذا أردنا معرفة بعض آراء القدماء والمحدثين في إخوان الصفاء, فنجد أبو حيان التوحيدي يقول حين يسأله الوزير صمصام الدولة عن الرسائل: (وقد رأيت جملة منها, مبثوثة في كل فن بلا إشباع ولا كفاية, وهي خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات, وحملت عدة منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي السجستاني محمد بن بهرام وعرضتها عليه, فنظر فيها أياما, وتبحرها طويلا, ثم ردها علي وقال: (تعبوا وما أغنوا, ونصبوا وما أجزوا, وحاموا وما وردوا, وغنوا وما أطربوا, ونسجوا فهلهلوا, ومشطوا ففلفلوا).

أما المحدثون فيقول الأستاذ (مانك) المستشرق: (إنهم أذاعوا نوعا من الموسوعات مؤلفا من خمسين رسالة لم تبحث فيها الموضوعات بحثاً جدياً ولم تناقش بعمق, وإنما مست مساً خفيفاً كمس الزهرة, أو وجهت بطريقة سهلة).

ولكن الدكتور محمد غلاب يرى أن هذه الآراء قد جانبها الصواب ـ ومعه كل الحق ـ فإن تواضع إخوان الصفاء في حديثهم هو الذي جرأ هؤلاء على هذا القول, إضافة إلى أسلوبهم السهل السلس الذي تعمدوا إليه قصداً من أجل تيسير الأمر على المشتغلين بالفلسفة والعلوم المترجمة عن الفارسية واليونانية, وقد أرادوا بحق تقريب الفلسفة إلى العامة أو بسطاء المثقفين, في أوساط عربية وإسلامية, كانت تخشى كثيراً من تعاطي الفلسفة أو الاهتمام بها, خاصة حين تشتد حركات الفقهاء الجامدين ويكون لهم سلطان على من هم في سدة الحكم, ومن هنا لا يكون غريبا أن نجد (البارون كارادي فو) يعترف بأن البحث إذا تعمق في هذه الرسائل إلى ما وراء جمال الأسلوب ألفى فيها تحليلات علمية شائقة متأثرة بالأفلاطونية الحديثة.

على أن القول بعمق هذه الرسائل في كثير من موضوعاتها لا يمنعنا من أن نقرر أن فيها ظاهرة قد تكون إحدى العلل التي حدت بعض العلماء على التجني على هذه الجماعة, والقول بأنها لم تكن فنية ولم تكتب بأسلوب علمي دقيق, هذه الظاهرة هي استعمال الأسلوب القصصي المفعم بالأخيلة والخرافات والذي يشعر القارئ بأنه يطالع حيناً قصيدة من الشعر الفاتن أو صفحة من النثر الخلاب للجاحظ أو لابن المقفع, وحيناً آخر بأنه يستعرض إحدى قصص ألف ليلة وليلة أو كليلة ودمنة, ولكن الإخوان قد سلكوا هذه الخطة ـ على ما نرى ـ ليجعلوا آراءهم ونظرياتهم في متناول عقول الشباب العادي الذي لم يتثقف ثقافة فلسفية, لأنهم كانوا قد يئسوا من الشيوخ الذين احترفوا علم الكلام وأكثروا فيه الجدل والنقاش, وهم ـ في رأي هذه الجماعة ـ جاهلون يجادلون فيما لا يعلمون, ويدعون ما لا يحسنون, ويشوهون الحقائق, ويخلطون بين الآراء لعجزهم عن فهمها, وعن اسنادها إلى أربابها, وفوق ذلك هم في نظرهم غير قابلين للإصلاح, ويتأكد لنا ذلك إذا علمنا مدى الاهتمام الذي يبديه إخوان الصفاء للبعد الروحي, الذي ينشغلون بتحقيقه, ويرون أن من لا يضعه في الاعتبار, لا يعتد بفكره ولا بآرائه, ومن هنا كان عدم خوضهم في مناقشات فكرية أو جدلية قد لا تؤدي إلى تقدم روحي يسعون إلى تحقيقه. ومن هنا كان إعراضهم عن موضوعات علم الكلام التي خاض فيها كثير من علماء العصر وأدت إلى كثير من الفوضى والاضطراب, بل أدت إلى مزيد من التفرق والاختلاف.

رسائل إخوان الصفاء

أما فيما يتصل بالخرافات أو الحكايات التي كانوا يضربون بها الأمثال, فليسوا هم أول من استعمل الخرافات في تصوير فلسفتهم وتقريبها من عقول الناشئين, فإن أفلاطون, قد استخدم الأساطير الإغريقية في عرض مذهبه وصاغه في أسلوب شعري رشيق حتى قال فيه بعض معاصريه (لكأني بالنحلة تصب جناها على لسان أفلاطون).

محتويات الرسائل: تتكون الرسائل من اثنتين وخمسين رسالة في أربعة أجزاء:

الجزء الأول: 14 رسالة في الرياضيات والمنطق.

الجزء الثاني: 17 رسالة في العلوم الطبيعية والنفسية.

الجزء الثالث: 10 رسائل فيما وراء الطبيعة والإلهيات.

الجزء الرابع: 11 رسالة في التصوف وعلم النحو والسحر.

وأخص ما تمتاز به هذه الرسائل هو: البساطة واليسر, وسهولة المأخذ وعذوبة الأسلوب وتجنب الاصطلاحات الفنية التي هي إحدى العقبات الكئود التي تعترض البادئين في دراسة الفلسفة.

فهم حين يعرضون للمنطق ـ وهو الأداة الضرورية للفلسفة ـ يتناولون أجناسه وأنواعه وفصوله وخاصياته, وأعراضه العامة التي يطلقون عليها اسم الكليات الخمس أو إساغوجي, ثم المقولات العشر: جوهرها وأعراضها, ثم القضايا: حملياتها وشرطياتها, ثم القياس بأشكاله المختلفة, ثم البرهان بحججه: اليقينية والإقناعية والخطابية والسوفسطائية ثم العكس بصوره, ثم التناقض بشروطه وظروفه وما إلى ذلك.

وهم إذ يعرضون للفلسفة النظرية يتناولون أقسامها الثلاثة: الأدنى أو الطبيعي والأوسط أو الرياضي, والأعلى أو الإلهي. فيفيضون في علوم الطبيعة والكيمياء ويفصلون الحديث عن العناصر أو الأركان والمعادن وأنواع الجماد والنبات والحيوان والإنسان, ويسهبون في بيان أخلاط كل نوع منها وغذائه ونموه وتطوره ووظائف أعضائه وخواص أجسامه وكيفيات كونه وفساده وكل ما يتعلق به.

وإذا اتجهوا إلى الآثار العلوية كما يسمونها ألفيتهم يوفون العلم حقه من الإفاضة في الأفلاك والكواكب ومنازلها وسيرها ونظامها وأفاعيلها وتصاريفها واتصالها بحظوظ أهل الأرض وما إلى ذلك. وإذا تحدثوا عن الرياضة رأيتهم يمعنون في بسط علوم العدد والهندسة والجبر, فيبينون خصائص الأعداد ومواضع بعضها من بعض ويسهبون في شرح أنواع الهندسة النظرية والعملية وتمريناتها الموضحة لها.

وإذا صعدوا إلى القسم الأعلى أو الإلهي أو ما بعد الطبيعة, أفاضوا في الحديث عن الإلوهية وكمالها واستغنائها, ثم عن العقل الفعال, والعقول الفردية وعن النفس الكلية, والنفوس الجزئية, وشرحها فكرة أن العالم إنسان كبير, وأن الإنسان عالم صغير, وأبانوا ما للعقل والنفس من تأثير في الإرادة والتدبير.

وهذا كله إلى جانب شرح العلل المؤثرة في الكون وبسط الحديث عن العلل: الفاعلة والمحركة والغائية, ثم عن شيء من أسرار الأوامر الإلهية والرموز الواردة في الكتب السماوية وعن شرائع الأنبياء وأديانهم, وعن الحياة الأخرى والبعث والحشر والحساب, وغير ذلك مما ينقع غلة الظامئ, ويرضي شغف الراغب في المعرفة والاطلاع.

وإذا انتهوا من الفلسفة النظرية اتجهوا إلى الفلسفة العملية بأقسامها الثلاثة: الأخلاق وتدبير الأسرة والسياسة. فتحدثوا حديث الفاهم الهاضم, بل المتمكن الواعي عن الأخلاق الفردية والفضائل العالية والخلال السامية, ثم عن علائق الإنسان بربه وأسرته وبمرءوسيه ورؤسائه, ثم عن أنواع السياسات وألوان الأنظمة وما إلى ذلك.

تلاقي الأديان

وقد حاول إخوان الصفاء التوفيق بين جميع الأديان وبذلوا الجهد في إثبات أن أصل هذه الأديان واحد, وأنها تتلاقى وتتصافى, وأن تحل المحبة محل التنافر والجفاء يذكرنا بتلك الحركة الرفيعة التي قامت بها في آسيا وأوربا في العصور الوسطى جماعات من المثقفين رمت إلى هذه الغاية العالية بزعامة صفوة من المسلمين وقيادتهم, ويحدثنا عنها (بيير بونسواي) في كتابه (الإسلام والجرال), حيث يرى أن هذه الصفوة الممتازة من أهل الأديان السماوية, وأنها قد تيقنت من أن الإسلام أرشدها وأحكمها, وأنه هو المنوط بزعامتها وقيادتها إلى الخير, وأنه بالتالي هو الذي يجب أن يخطو الخطوة الأولى نحو الوئام والسلام, وأنه قد قام أثناء عدة قرون في هذا الوئام بدور المرشد, وأن تلك الصفوة على اختلاف أديانها في الظاهر ـ كانت مقتنعة برسالة الإسلام في هذا المضمار قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون اللّه.

وقد كانت هذه الصفوة تنظر إلى الإسلام على أنه جماع النبوة العالمية, وأنه هو النبوة التشريعية الأخيرة التي ستسود قبل نهاية الزمن, وأن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين, وأنه تلقى من السماء جوامع الكلم. ومن ثم فإن الإسلام يشتمل على وسائل روحية لأنواع من التجاوب الخاص مع الصور الفطرية الأخرى التي تتدرج مع مؤسسيها ـ كموسى وعيسى ـ عليهما السلام في نظام إسلامي رفيع من أنظمة الكون, ومن ثم أيضاً كان الإسلام هو الوسيط الكوني. ليس هذا الكتاب هو الوحيد الذي تحدث عن وجوب التوفيق بين الأديان السماوية بزعامة الإسلام, بل هو حلقة من سلسلة مؤلفات غربية حديثة اتجه مؤلفوها هذه الوجهة, مـثل مؤلفــــات (ريـــنيه جيـــنون) أو الشــيخ عبدالواحد يحيى.

على أن محاولة إخوان الصفاء التوحيد بين الأديان والمزج بين المذاهب, لا يمنعنا من أن نقرر أنهم تمذهبوا في كثير من الأحيان بمذهب معين ناضلوا عنه وجزموا بصحته, كما تبعوا في الرياضة الفيثاغوريين, وفي الطبيعة وما راء الطبيعة أرسطو أحيانا والأفلاطونية الحديثة أو الفيثاغورية أحياناً أخرى.

ولا ننسى أن إخوان الصفاء قد حاولوا أيضاً التوفيق بين الفلسفة اليونانية والشريعة الإسلامية وهو أمر قد اهتم به الفارابي وابن سينا وابن رشد, باعتبار أن كلا من الفلسفة والشريعة يعبران عن حقيقة واحدة, غير أن إخوان الصفاء لم يأخذوا الإسلام كما جاء به القرآن الكريم, وبينته السنة النبوية الشريفة بل مزجوه بمختلف المذاهب والأديان والعقائد, زاعمين أن مذهبهم يستغرق المذاهب كلها.

ولم نسمع بإخوان الصفاء ورسائلهم قبل عام 334هـ ويظهر أنهم تشجعوا بمجيء آل بويه وأظهروا من أمرهم ما كان خافيا, وأنهم كانوا موجودين قبل هذا, ولكنهم لم يتجرأوا على إظهار رسائلهم قبل هذا التاريخ (نظرا لتشيّعهم). وقد كانت البصرة مركزهم الرئيس, حيث كانت تقع على باب الصحراء, ملتقى رجال الشرق الوثني من فرس وهنود برجال الإسلام. فيها التقت المانوية والزرادشتية والبرهمية والصابئة والدهرية وغيرها من تلك الديانات القديمة التي جاء الإسلام يغزوها في ديارها بدين الفطرة السهل.

نظرية المعرفة

تناولت رسائل إخوان الصفاء جميع فروع الفلسفة والعلوم المعروفة في عصرهم, ومزجوا فيها بين العلوم الفلسفية والآداب والأساطير والمذاهب والمعتقدات المختلفة, فجاءت أشبه بدائرة معارف شملت علوم الأقدمين وعقائدهم. ويقف إخوان الصفاء من نظرية المعرفة موقفاً أرسطياً بحتاً, فهم يذهبون مثل أرسطو, إلى أن الحس هو أساس المعرفة, وما لم تدركه الحواس لا تتصوره العقول, وهذا هو الرأي نفسه الذي قال به بعض الفلاسفة المسلمين فيما بعد, وليست المعقولات في رأيهم موجودة خارج النفس, كما قال أفلاطون, بل هي موجودة في النفس, يستنبطها العقل من رسوم المحسوسات, التي أدتها الحواس إلى القوى المدركة الروحانية. وليست المعرفة تذكراً, كما قال أفلاطون, فالإنسان في رأيهم يولد لا يعرف شيئاً, وإنما هو يكتسب المعرفة عن طريق الحواس.

ولما كان إخوان الصفاء قد وضعوا النفس الإنسانية في مرتبة وسطى بين الموجودات, فقد جعلوا حصولها على المعرفة بالمعلومات من ثلاث طرق: فهي تحصل على معرفتها بما هو أدنى منها, كالهيولي, والطبيعة, وجميع الأجسام عن طريق الحواس. وهي تحصل على معرفتها بما هو أشرف منها وأعلى كالباري تعالى, والعقل, والصور المجردة من الهيولي الذين هم ملائكة الله المقربين (بطريق البرهان الذي يضطر العقول إلى الإقرار به من غير إحاطة ولا مباشرة. وصارت معرفتها بذاتها وجوهرها بطريق العقل, لأن نسبة العقل إلى النفس كنسبة الضوء إلى البصر, وكنسبة المرأة إلى الناظر فيها. فكما أن البصر لا يرى شيئا من الأشياء إلا بالضوء, كالإنسان لا يرى وجهه إلا بالمرآة والنظر فيها, كذلك النفس لا تنظر ذاتها إلا بنور العقل, ولا تعرف حقائق الموجودات إلا بالنظر العقلي. وإنما يتسنى للنفس النظر إلى العقل بعين البصيرة, إذا هي انفتحت, وإنما تنفتح لها عين البصيرة, إذا انتبهت من نوم الغفلة ورقدة الجهالة, ونظرت بعين الرأس إلى هذه المحسوسات, وفكرت في معانيها, واعتبرت أحوالها حتى تعرفها حق معرفتها).

وهكذا يرى إخوان الصفاء أن النظر إلى المحسوسات والتفكير في معانيها يفتح بصيرة الإنسان ويجعلها تنظر إلى العقل, فتعرف ذاتها, وتعرف حقائق الموجودات. فالحس, إذن , عند إخوان الصفاء, هو الطريق الأساس للمعرفة (فلو لم يكن للإنسان الحواس, لما أمكنه أن يعلم شيئاً, لا المبرهنات, ولا المعقولات, ولا المحسوسات البتة).

وقد درست رسائل إخوان الصفاء على نطاق واسع من قبل معظم علماء العصور التالية بمن فيهم الغزالي وابن سينا, واستمرت دراستها حتى زمننا الحالي, كما ترجمت إلى الفارسية والتركية والهندوستانية, وتبين من خلال ما وجدناه من مخطوطات في مختلف مكتبات العالم الإسلامي أنها كانت من أكثر الكتابات العلمية الإسلامية شعبية, لأنها احتوت على العديد من الأفكار الكونية والميتافيزيقية العميقة المكتوبة في الغالب بلغة سهلة وأسلوب رمزي بسيط وعميق, وإذا أخذت الرسائل على وجه الإجمال, فإنها تعطينا مفهوما عن الكون الذي في ظله عاش جزء كبير من العالمين السني والشيعي لفترة تجاوز الألف عام. ومع أنها لم تحتو على علوم محيي الدين بن عربي أو محيي الدين البوني الباطنية بشكل صريح, إلا أنها تشرح, وبلغة سهلة وجميلة في معظم الأحيان, الخطوط الرئيسية لمفهوم الطبيعة الذي نجده في الكثير من كتابات المسلمين في مختلف العصور

 

بركات محمد مراد