سنجور... شاعر الزنوجة

سنجور... شاعر الزنوجة

ولد ليوبولد سدار سنجور عام 1906 في بلدة (جوال) الساحلية بالسنغال وتوفي عام 2001 في قلب النورماندي بفرنسا عن سن تناهز الخامسة والتسعين بعد أن خاض صراعات قاسية من أجل نشر ثقافته الإفريقية والتعريف بها والدفاع عن لونه وزنجيته.

شرع سنجور في دراسته الابتدائية بالسنغال ابتداء من سن السابعة, فأعجبته اللغة الفرنسية وكان يتذوقها (كما يتذوق المربّى) (Confiture), وجذبته اللغتان اللاتينية والإغريقية خلال دراسته (ببريقهما) مما دفعه إلى التخصص في نحو اللغة الفرنسية وأهله للانتساب إلى مدرسة (لويس لوغران) Louis le grand بباريس سنة 1930. وكان رفيقه على كرسي المدرسة هو (جورج بومبيدو) الذي انتخب رئيساً للجمهورية الفرنسية بعد أن ابتعد الجنرال ديجول عن الحكم. وقد استفاد سنجور من رفقته أكثر مما استفاده من أساتذته على حد تعبيره.

وتابع سنجور طريقه في الدراسة والتحصيل, وتشبعت روحه بالأدب الفرنسي وأصوله اللغوية عامة وبالشعر الفرنسي خاصة, فأحرز دبلوم دراسته العليا في الأدب الفرنسي في موضوع شعر (بودلير) شاعره وملهمه المفضل, ثم حصل على شهادة التبريز في النحو الفرنسي, فخوّلت له هذه الشهادة العليا الحصول على الجنسية الفرنسية وعلى أهلية تدريس الأدب الفرنسي بالثانويات الفرنسية عدة سنوات. وقد امتاز سنجور في حقبة دراسته هذه - كسفير للون الأسود بفرنسا - بكفاحه المستميت مع رفقائه السود ضد آفة العنصرية المقيتة على صفحات نشرة الطلبة السود التي كانت تصدر تحت عنوان (الطالب الأسود), ولما نزلت الحرب العالمية الثانية بكلكلها على أوربا وخاصة على فرنسا استدعي للمشاركة في هذه الحرب كباقي الشباب الفرنسي. ولم يوفق في استعمال بندقيته كما يستعمل قلمه فأسر وبقي أسيراً في يد الألمان مدة سنتين.

ولما انتصر الحلفاء في حروبهم ضد النازية سنة 1945 أطلق سراحه وعاد يتبوأ كرسي تعليم اللغتين الإغريقية واللاتينية واللغات والحضارات الإفريقية في (المدرسة الوطنية الفرنسية لما وراء البحار) مدة عشر سنوات. ولما شرع في إعداد شهادة الدكتوراه, ليتأهل للتدريس بإحدى الجامعات الفرنسية في موضوع (دراسة الشعر الشعبي السنغالي الأصيل) (Serere) طلب منه الحزب الاشتراكي السنغالي أن يتقدم للانتخابات التشريعية بفرنسا ليمثل بلاده داخل البرلمان الفرنسي بصفته كاثوليكيا حتى يحصل التوازن بينه وبين المرشح السنغالي الذي يدين بدين الإسلام.

سنجور و السياسة

دخل سنجور إلى عالم السياسة من باب الصدفة وغير اتجاهه من الأدب إلى السياسة ووعد نفسه بأن (يطلقها) لما تحصل بلاده السنغال على استقلالها.

وقد فاز سنجور في الانتخابات وأصبح نائباً لبلاده بالجمعية الوطنية الفرنسية وأسس حزب الكتلة الوطنية سنة 1948 وبقي على رأسه إلى غاية 1956. وقد عيّنه رئيس الحكومة الفرنسية (إدكارفور) سنة 1955 كاتباً للدولة في رئاسة الحكومة. وفي سنة 1960 عينه الجنرال شارل ديجول وزيراً مستشاراً في حكومته.

وفي سنة 1960 انتخب سنجور أول رئيس لجمهورية السنغال المستقلة, وبقي رئيساً لبلاده مدة عشرين سنة بعد أن فاز في الانتخابات الرئاسية أربع مرات متوالية إلى أن سلم مقاليد السلطة إلى وزيره الأول وتلميذه: عبدو ضيوف. وقد امتاز سنجور خلال حكمه بالاعتدال والحكمة والتعقل وبعد النظر. وكان سنجور من رجالات الأدب والفكر - كرفيقه جورج بومبيدو - اللذين مارسا الحكم في بلديهما ولم تغرهما السياسة عن الخوض في المجالات الفكرية والبحث العلمي ولو بقدر يسير.

ومنذ أن تقلد سنجور مناصبه السياسية وهو - بتشجيع من الجنرال ديجول - يعمل - بصفته أول إفريقي متخصص في علم النحو الفرنسي - على النهوض بالفرنكوفونية ونشرها في المحافل الدولية بكل ما أوتي من قوة فكرية ويحث الدول الناطقة باللغة الفرنسية على المحافظة عليها وصيانتها من (مزاحمة) اللغات الأجنبية الأخرى, وجعلها لغة الاتصال والثقافة والحضارة. وكم كان إعجابه كبيراً عندما يرى ممثلين عن هذه الدول يلقون خطبهم في التجمعات الدولية بلغة بودلير ولامارتين وميريمي.

وكان سنجور سبّاقاً إلى (عولمة) الحضارة الإنسانية عندما كان ينادي هذه الدول بإدخال دراسة لغات أخرى كاللغات الإغريقية واللاتينية والعربية والمصرية القديمة والصينية في مواد التعليم العالي بجامعاتها, كما دعا طه حسين إلى تدريس اللغات والآداب الشرقية: الفارسية والتركية والأردية, وإلى تدريس اللغات والآداب السامية العبرانية منها و(الآرامية) في الجامعات العربية.

وأوقف سنجور حياته على خدمة ثلاثة أهداف هي: الزنوجة (أو الزنجية أي التراث الإفريقي القديم) والفرنسية, والحضارة العالمية, التي أطلقت عليها زوجته الثانية الفرنسية (Colette Hubert): (الدادات الثلاث) لسنجور (Trois dadas). وقد خصص (مؤلفا) لشرح هذه المبادئ (المثلى) نشره بعنوان: (اعتقاداتي).

شخصية مزدوجة

إفريقية سنجور وزنوجته لم تمنعاه - كما رأينا - من أن يكون فرنسياً - روحاً وثقافة - محبّاً للغة الفرنسية ومجلا لشعرائها وفلاسفتها حتى قال يوما: (أنا مزدوج الشخصية تكوينا وبيولوجيا وثقافيا), بمعنى أنه كان إنساني النزعة, مؤمنا بالقيم الإنسانية والحضارة العالمية, صامداً أمام الخلافات الإيديولوجية والنعرات العرقية. وقد أشار الجنرال ديجول في مذكراته إلى ازدواجية سنجور هذه حيث أبدى إعجابه به كمثقف موسوعي نجح في قيادة بلاده (المضطربة) بكل حكمة وتبصّر, وتألق في الآداب والفنون والتراث القديم, مفتخراً بزنوجته وثقافته الفرنسية وبأصله الأوربي القديم (ذلك أن اسمه سنجور مشتق من كلمة السيد البرتغالية (Senhor) ومدينته التي ولد بها (جوال) (Joal) هي ميناء صغير على شاطئ السنغال وتحمل اسم عائلة برتغالية, حتى أطلق عليه: (سنجور الأوربي - الزنجي - LصEuronegre).

ترك سنجور عدداً من الدواوين الشعرية والمؤلفات باللغة الفرنسية في الأدب واللسانيات واللغة والسياسة بلغ عددها ما يزيد على ثلاثين كتاباً تناول فيها بالتحليل فلسفته وأفكاره, وقد تسابق عدد من الدول المنتمية لمختلف القارات إلى ترجمتها ونشرها, حصل بمقتضاها على جوائز عالمية رفيعة المستوى في العلوم والآداب, منها الجائزة الدولية الكبرى للشعر, والميدالية الذهبية للغة الفرنسية, ولقب (أمير الشعراء). وسارعت ثلاثون جامعة عالمية لمنحه الدكتوراه الفخرية منها جامعة السربون وجامعة القاهرة.

وقد أهّلته مؤلفاته القيّمة وعضويته في لجان (القاموس الفرنسي) و (الشعر الفرنسي) و(الفرنكوفونية), ليتبوأ كرسي الأكاديمية الفرنسية (مجلس الخالدين) سنة 1983 كأول إفريقي ينتخب عضواً فيها منذ إنشائها في القرن السابع عشر, ويجلس بين صديقيه الحميمين: (جان جاتمون) الفيلسوف الكاثوليكي و (جان هامبورجر) العالم الفيزيائي.

وقد منحه صديقه المغفور له الملك الحسن الثاني - رحمه الله - الذي كان ينوه بهذه الصداقة - مقعداً بأكاديمية المملكة المغربية لثقافته الواسعة ولدرجته العلمية العالمية ولصداقته للمغرب والمغاربة ولدفاعه المستميت عن استقلال المغرب ووحدته الترابية.

وقد كرّمه عدد من الدول الإفريقية والأوربية كأعظم مدافع عن التراث الإفريقي الحضاري القديم, وأبرز شاعر إفريقي مزج (الهمّ الذاتي) بالهمّ القومي الإفريقي, وأكبر محرر للإنسان الإفريقي من كل أشكال التبعية والعنصرية. فكرّمته فرنسا ومصر والمغرب (بمبادرة من المنتدى الثقافي العربي الإفريقي بأصيلة) كما أطلق اسمه على (الجامعة الفرنكوفونية الإفريقية الدولية للناطقين باللغة الفرنسية).

ومما يلفت الانتباه أنه بعد هذه المجهودات الجبّارة التي بذلها سنجور في عالم السياسة والآداب والحضارة العالمية لم تمنحه الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب بعد أن رشح لها عدة مرات. وقد سأله أحدهم عن هذه اللامبالاة المقصودة أو غير المقصودة فأجابه: (إن ما يهمني في حياتي هو أشعاري!).

هذا هو سنجور - الذي فارق هذا العالم في مطلع الألفية الثالثة - الشاعر الرئيس والرئيس الشاعر والكاتب النحرير والمؤرخ البليغ والعالم الوديع والسياسي الحكيم

 

عبدالحق المريني







ليوبولدسدار سنجور