من المكتبة العربية
من المكتبة العربية
عرض: شكري رحيم الــدولة اللبنانية.. وتفكك أوصالها إنها قصة عشر من السنوات لعلها العقد الأكثر غلياناً وازدحاماً خانقاً بالأحداث والمعطيات وعوامل التفجير منذ ولادة الدولة اللبنانية في الربع الأول من القرن العشرين. لا أحسب أن الحرب, أحداثاً وفواجع وانقسامات وتفتّتاً وتدميراً للذات وللآخر, على ما لها من أهمية ووطأة وأثر تهديمي في المجتمع والدولة, كانت هي بالذات محور الدراسة في هذا الكتاب-الذي صدر بالانجليزية عن دار أ.ب طوريس في بريطانيا وعن دار جامعة هارفارد في امريكا ـ ونقطة ارتكازها, وإنما أحد المحاور الرئيسة كي لا نقول المحور الأهم هو نظام لبنان (الطائفي - الديمقراطي) وجذوره التاريخية والاجتماعية, وبخاصة طبيعة النسيج الاجتماعي الذي انبثق عنه هذا النظام وكيفية تطوّر هذا النسيج الاجتماعي تطوّراً جاء معه نظامه السياسي كأنه ناتج لابد منه, بل كأنه المآل الذي لا خيار سواه, طبعاً دون أن يعني ذلك أنه خيار سيئ أو أن خيارات أفضل منه كانت في المتناول. أعمق الوقفات وربما أطولها, على الأقل من حيث العودة إليها كلما تطلّب سياق النص ذلك, وأوسعها تحليلاً كانت وقفة الكاتب عند هذا النظام السياسي المحبوك من خيوط التوازنات الدقيقة بين فئات المجتمع, والمرتكز على مبادئ الديمقراطية والحرية والانفتاح وحق القول والتعبير والمعتقد, وهو النظام النابت شذوذاً وسط حظيرة من أنظمة التسلط الدائرة حول القائد الأوحد والرأي الأوحد والحزب الأوحد وانصهار الناس كما القصدير في قالب أوحد. النظام السياسي اللبناني والمسالك الاجتماعية والتاريخية التي عبرها المجتمع اللبناني طوال أربعة قرون من تاريخه الحديث للالتقاء عند هذا النظام ومعاناة هذا النظام في مقابل تشكيلة الأنظمة الإقليمية المستقرة على سكينة شعوبها, هذه الثلاثية لها في (تفكك أوصال الدولة في لبنان) قسمة وافرة من النقاش والبحث. لبنان وبعده الإقليمي في التمهيد للكتاب يقول الخازن: (في سياق عملي البحثي حول السياسات اللبنانية والعربية, وجدتني أعيد النظر في وجهات نظري وافتراضاتي, ليس فقط حيال مصادر النزاع والتوافق في لبنان, وإنما أيضاً حيال العوامل التي شكّلت التطوّر التاريخي للمجتمع اللبناني وكيفية عمل النظام الطائفي). من هنا, فإن الكاتب يسلّط ضوءاً كاشفاً منذ البداية على الطريق الذي سيسلكه دارساً ومحللاً وهو المقاربة المقارنة (Comparative) التي يعتبرها (أجدى من المنهج البنيوي (Structural) أو أي مناهج أخرى) (Social Process) مستنتجاً في المحصلة أن (فهمنا للبنان في زمن الأزمات يبقى مبتوراً ناقصاً إذا نحن لم نأخذ في الحسبان البعد الخارجي وتحديداً البعد الإقليمي). أما اختياره فترة ما بين العامين 1967 و 1976 مدى زمنياً لدراسته, ففي رأس أسبابه كون هذه السنوات العشر (التي تلت أواخر الستينيات أوثق فترات السياسة اللبنانية ترابطاً ما بين النظام الإقليمي والسياسة الداخلية). قسّم الخازن كتابه ثمانية أقسام محدداً في القسم الأول (عملية التفكك السياسي من منظور مقارن) ومتطرّقاً (إلى النقاش الأكاديمي حول نظام لبنان السياسي في فترة ما قبل الحرب). في القسم الثاني, يرسم لنا (المشهد السياسي والطائفي والأيديولوجي الذي سبق الحرب) ويتفحّص (التطور غير المتوازن للطوائف في المجتمع اللبناني) مركّزاً على (الطوائف المارونية والسنيّة والشيعية). في القسم الثالث, يعالج تطور الدولة اللبنانية ودورها وموقعها من ضمن أنظمة الحكم العربية حيث يقارن علاقة الدولة بالمجتمع في لبنان بتلك العلاقة إياها في البلاد العربية, وذلك خلال حالات التأزم المتعلقة بقضايا ذات أبعاد قومية عربية, ليسلّط في القسم الرابع (الضوء على تغيّر طبيعة السياستين اللبنانية والعربية بعد حرب 1967 العربية - الإسرائيلية), معتبراً أن (أبرز ما شهدته تلك الفترة من تطوّرات هو إعلان منظمة التحرير الفلسطينية الكفاح المسلح ضد إسرائيل), ومفرداً (فصلاً طويلاً مفصّلاً لموضوع اتفاق القاهرة عام 1969 متبوعاً بفصل آخر يعالج السياستين اللبنانية والعربية في تحوّلاتهما بعد حرب 1967, كما يشمل البحث هنا المرحلة التي عرفت بالشهابية خلال حكم الرئيس فؤاد شهاب وبعده. العرض المفصّل (للعملية السياسية وللسياسة الإقليمية بين العامين 1970و1974) يرد في القسم الخامس وصولاً إلى القسم السادس الذي يُدرج فيه شرحاً (للمسائل الخلافية التي صبغت النصف الأول من السبعينيات), مركّزاً على (مسألتي المشاركة في السلطة والتغيّر الاجتماعي والاقتصادي). وهنا يبرز سؤال ملح: (إلى أي مدى كانت هذه المشكلات الداخلية تحمل بذور حرب كالتي وقعت في العامين 1975-1976?) فينال هذا السؤال نصيباً وافراً من التحليل حتى يندرج في هذا القسم أيضاً فصل آخر يتناول أحداث صيدا في أوائل العام 1975. وبعد أن يقدم الخازن في القسم السابع (مسحاً لمختلف مراحل حرب العامين 1975-1976 ابتداء من مواجهة عين الرمانة في أبريل 1975 وانتهاء بالحرب الفلسطينية - السورية في خريف 1967), يختتم دراسته في القسم الثامن بـ (تحليل شمولي لعملية زعزعة الاستقرار التي كانت الحرب ذروتها). أما مصادر المعلومات التي اعتمدها الخازن, فبالإضافة إلى (الصحافة اللبنانية غزيرة التنوع), اعتمد (ما صدر أخيراً من مذكرات لسياسيين لبنانيين من ذوي النفوذ) كما يستوقف القارئ والدارس على السواء ما استند إليه الكاتب من (مواد غير منشورة تتعلق بأطراف لبنانية وفلسطينية شاركت في الحرب), وما تسنى له الاطلاع عليه من (تقارير ومعلومات رسمية حول أحداث وقعت قبل الحرب أو في أثنائها) ما مكّنه (من إلقاء الضوء على تطورات محورية, وهو ما لم يكن ممكنا من قبل). من مصادره الرئيسة أيضاً (مقابلات أجريتها مع أكثر من خمسين سياسياً وناشطاً ومراقباً في ميدان السياستين اللبنانية والعربية على مدى عقدي الستينيات والسبعينيات). هل كانت الحرب اللبنانية (حرباً أهلية كلاسيكية خاضها المتحاربون, كلٌ مدافعاً عن أهداف محددة, أم كانت حرباً داخلية شكّلت وسيلة لتسوية حسابات قديمة? هل كانت عصياناً لم يتسن له الانطلاق, أم كانت ثورة لم يُكتب لها النجاح? هل كانت حرباً إقليمية عكست النزاعات المتمادية في الشرق الأوسط, أم كانت حرباً ذات أبعاد دولية شاركت فيها القوى الكبرى?). بداية الجواب عند فريد الخازن أنها (من نواح معينة لم تكن الحرب اللبنانية أيّاً من هذه الحروب, ومن نواح أخرى كانتها جميعا في آن), ومن هذه البداية التي تشكّل مدخل دعوة الخازن لنا إلى مائدة خبزها الفكر السياسي الباحث المدقق العارف المحلل, وشرابها سيد الارتواء بلا منازع: الحقيقة - الميزان, إذا عرفناها فلنا في ذلك أجرٌ واحد, أما أن نعرفها ولا نحيد عنها فلنا في ذلك أجران. لماذا (تفككت أوصال الدولة في لبنان) ونبتت على أنقاضها دويلات وسلطات ومعسكرات, وتعددّت الجيوش, وعصفت بلبنان ريح الشر من النواحي الأربع تمعن فيه تفكيكا, وتستبيح لا تكف? تراه النظام السياسي ما بعد الاستقلال, كانت تعوزه الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وبحبوحة العيش, وصون حقوق الإنسان بحيث استحال لبنان بؤرة للظلم والتخلف والطغيان والعسف وسط نظام إقليمي - عربي نقيض لهذه النواقص جميعاً, فدبّ الرعب في قلوب حماة هذا النظام الإقليمي المثالي مخافة انتقال عدوى الطاعون اللبناني? مَن يتهيّب التاريخ? فريد الخازن, في (تفكك أوصال الدولة...), يتناول مقطعاً من تاريخ لبنان المعاصر, مشتعل الجنبات, متفجّرا, فيسقط منه النار ثم يروح يشرّح كشفاً وتوثيقاً وتحليلاً ومقارنة ليخلص إلى عملية هدم تمهّد للبناء, شرّح المعطيات أشمل تشريح, جمعاً واستقراء واستطلاع آراء, وعلى الأخص تحليلاً لا يستقيم إلا تحت قلم المعرفة والموضوعية ونشدان الحقيقة. أما الهدم فلا يطالعك إلا استنتاجاً وأنت تقارب فعل البناء, بناء ما يراه الكاتب - ويريناه إذا نحن تغلّبنا على الهوى - حالاً من الواقع والمرتجى. فإذا كنا لا نسلّم فقط مع الكاتب, بل نوافقه تمام الموافقة على أن نظام لبنان السياسي الذي قام على التعدّدية والديمقراطية والموازنة بين حقوق طوائفه وفئاته, وعلى الحرية والانفتاح قد جاءت معاناته الكبرى من حتمية تعامله مع النظام الإقليمي الذي يفتقر إلى كل هذه المواصفات والركائز, فهل تخفف هذه الحقيقة من وجع السؤال - الساذج ربما - لدى اللبنانيين, وخاصة منهم الذين برئوا من لوثة العصبية الطائفية: لماذا لم يستو اللبنانيون, كل اللبنانيين, حيال حقّهم المشروع في خدمة بلادهم ومجتمعهم من أي موقع, ومن كل المواقع دون استثناء? لبنان وركائز التاريخ لماذا عجز المجتمع اللبناني عن إزالة كل العوائق من درب تحوّله مجتمعاً واثقاً من نسيجه, مؤمناً إيماناً صادقاً وعميقاً بأن لبنان وطن لكل بنيه, كما أن كلّ بنيه هم له قبل أن يكونوا للمسيحية أو الإسلام أو القومية أو العروبة أو اليسار أو اليمين أو الغرب أو الشرق? لماذا بقي اللبنانيون أقلّ إيماناً برسوخ لبنان دولة ومجتمعاً من عشرات الشعوب الأخرى بأوطانها ومجتمعاتها, رغم أن لبنان لا يفتقر إلى ركائز التاريخ ولا إلى معطيات الحاضر ولا إلى عناصر بناء الدولة الحديثة وأهمّها على الإطلاق ثروته البشرية? أم ترى هذه الثروة تمثّل هي بالذات عامل السلب وعامل الإيجاب في آن معاً? هو ذا التساؤل الذي لم أقع له في الكتاب على نقاش كاف ولا على جواب شاف. فإذا انطلقنا (من كون لبنان مجتمعاً منقسماً غير منيع حيال المنازعات), كان لابد من إيراد الأسئلة التالية كما جاءت في سياق نصّ الكتاب نفسه: 1- متى وكيف أدّت الانقسامات في المجتمع اللبناني إلى النزاع? 2- ما طبيعة النزاع ومدى حدّته, وهل هو سياسي أم عسكري أم الاثنان معاً? 3- متى يؤدي النزاع إلى حرب شاملة وكيف? 4- أيّ نوع من الحرب (الداخلية أو الخارجية أو الاثنتين معاً) ومن هم أطراف تلك الحرب? 5- لماذا انتهت الحرب في العام 1976 (لتستأنف فيما بعد) وكيف? أسئلة ساخنة ولتسليط الضوء على الأوجه المتعددة لانهيار الدولة وتفكّكها في الفترة ما بين 1967 و 1976, عبر النظر إلى هذا الانهيار من خلال البعدين الداخلي والخارجي يعود الخازن إلى إيراد مجموعة من الأسئلة يربطها تسلسل المنطق الذي يبني عليه طرحه: 1- هل كان فشل الدولة حتمياً فقط لأن المجتمع افتقر إلى الانسجام ولأن نظام لبنان السياسي لم يكن شبيهاً بديمقراطيات الغرب المستقرة? 2- كيف نفسّر توقيت الحرب مادام الخلل ضارباً في صلب النظام وأسباب التفكك كانت دائماً موجودة? 3- كيف نفسّر وقوع النزاع المسلح في وقت كان فيه لبنان يمارس عملية انتخابية تنافسية فعّالة ومنتظمة نسبياً, حيث كان ينتخب مجالسه النيابية كل أربع سنوات ورؤساءه كلّ ستة أعوام? 4- هل كانت العلاقات بين الطوائف قد بلغت حدّ الانكسار ولو لم يكن التدخّل الخارجي السياسي والعسكري موجوداً? 5- لو أن النظام السياسي اللبناني كان نظاماً علمانياً غير طائفي, بماذا كان سيختلف في معالجته مشكلات خارجية المصدر كمشكلة الوجود الفلسطيني المسلح بعد العام 1967? 6- لو كُتب للشهابية أن تستمر في برنامجها لتحديث الدولة وتحقيق الإصلاحات الاجتماعية - الاقتصادية, هل كان ذلك ليمنع المواجهات بين الفلسطينيين واللبنانيين ويمنع بالتالي وقوع الحرب? 7- لماذا, مثلاً, تخطّى الأردن التحدّي في مواجهة حركة ثورية فلسطينية مستقرة, كالتي واجهها لبنان وفي الوقت نفسه, في حين ناءت الدولة اللبنانية تحت وطأة هذه المواجهة? 8- ولعلّ السؤال الأكثر بداهة والأقلّ حاجة للبحث عن جواب: لو تسنّت للدولة اللبنانية - إبّان السطوة الفلسطينية العسكرية والسياسية منذ أواخر الستينيات حتى اندلاع الحرب - أدوات السلطة وإمكان حسم القرار السياسي حسماً متفقاً عليه داخلياً (على غرار حسم الأردن قراره), لم نكن لنشهد مجرى للأحداث مختلفاً تماماً عمّا شهدنا? إن (تفكك أوصال الدولة في لبنان) في رأينا المتواضع, سيصنّف في مداه السياسيّ - الأكاديمي اثنين: مرجعاً يوثّق إحدى أكثر مراحل السياسة اللبنانية المعاصرة حاجة إلى من يضعها في إطار من المعرفة والموضوعية والتحليل. ومنهلاً لمعطيات تاريخية - اجتماعية - اقتصادية - ثقافية لا يمكن أن تستقيم من دونها دراسة لبنان, حديثاً ومعاصراً
|