هل تحتاج "الديمقراطية" إلى بعض من "التيمقراطية"؟

هل تحتاج "الديمقراطية" إلى بعض من "التيمقراطية"؟

حديث الشهر
في معركة انتخابات الرئاسة الأمريكية
من يشتري الرئيس؟

موضوع لا يبلي جديده هو معركة الانتخابات الأمريكية وانتخاب الرئيس الجديد، ففي نوفمبر بعد كل أربع سنوات تتجدد هذه المعركة أو السباق إلى البيت الأبيض، بين رئيس في السلطة ومتحد جديد. وفي بعض الأحيان بين رئيس يودع واثنان يتنافسان على الوصول إلى المكتب البيضاوي المطل على الحديقة الغربية للبيت الأبيض حيث يتخذ أقوى رئيس منتخب لدولة في عصرنا الحديث أصعب القرارات وأكثرها تأثيرا، ليس في مواطنيه الأمريكان ولكن ربما - ليس كمثل أي رئيس آخر - في عدد كبير من سكان الكرة الأرضية. وكلما دقت أجراس الانتخابات العامة ونادى المنادي وصدح النفير لبدء عملية انتخابية حرة كي يقوم الناس باختيار ممثليهم عن طريق صناديق الانتخاب، عادت الأقلام والأفكار من جديد لسبر أغوار هذه الممارسة التي سماها الفكر الإنساني الحديث "الديمقراطية"، والتي لم يكشف الإنسان حتى اليوم بديلا مقبولا لآلية سياسية تغني عنها، برغم كل المثالب الموجهة إليها والنقد الذي تحوزه، وبرغم الأخطاء المضحكة أو المأساوية في تلك الممارسة.

الديمقراطية بأبسط معانيها ليست عقيدة، بل فكر إنساني، فالعقيدة ثابتة والديمقراطية متغيرة ومتشكلة على شاكلة المجتمع ومؤسساته، بل هي فوق ذلك ليست ثابتة الآلية في المجتمع الواحد على مر الزمن، هذا ما أثبتته دراسات تاريخ الأفكار السياسية. وعندما نتحدث عن تاريخ الأفكار السياسية فإن كلمة تاريخ تبدو لنا أكثر أهمية من كلمة سياسة، فتاريخ الأفكار السياسية غير قابل للانفصال عن تاريخ المؤسسات وعن تاريخ المجتمعات وعن تاريخ الأحداث والعقائد الاقتصادية وعن تاريخ الفلسفة والأديان وعن تاريخ الأدب والتقنيات .. باختصار، عن مسيرة متكاملة من التطور الثقافي والإنساني.

العقد الاجتماعي والمصالح المرسلة

دون الإبحار في تاريخ الديمقراطية كمفهوم وممارسة تاريخية طويلة، فإن المتفق عليه هو أن الممارسة الديمقراطية الحديثة قامت على قاعدة العقد الاجتماعي المكتوب في معظم الحالات، والذي يحدد آليات الحكم بين الفرقاء في مجتمع محدد، هذا العقد الاجتماعي ملئ بآليات تصحح اللاتكافؤ والاختلالات التي تحدث بين البشر في المجتمع الواحد والتي هي دائما موجودة وشبه طبيعية، وبما أن البشر في حالة صراع دائم مع الطبيعة لتذليلها، فهم أيضا في صراع دائم ظاهر أو خفي مع بعضهم البعض، سواء في سباق على السلطة أو المال أو مصادر الثروة. فلا بد من سلطة مرتضاة توجد للتحكيم بين هذه المصالح المختلفة والمتنازعة دائما. الديمقراطية هي أن يكون هناك توازن للتهديد بين المصالح المختلفة والمتنازعة دائما. الديمقراطية هي أن يكون هناك توازن للتهديد بين المصالح المختلفة في المجتمع، لذلك نجد في الديمقراطيات الحديثة حزبا أو فئة تقوم بالحكم، وحزبا أو فئة تقوم بالمعارضة، ليس لأن الفئة الأولى غارقة في الأخطاء، بل لأن الفئة الثانية دورها أن تقوم بالمحاسبة والتقصي، وفي النهاية هناك مرجعية للجميع هي الشعب بأكمله يقرر في فترات زمنية محسوبة أي الممثلين في السلطة الرقابية والحاكمة على السواء يمكن أن يكون موضع ثقة أو لا يكون. بجانب ذلك فقد طورت مجتمعات مختلفة مؤسسات أخرى رقابية منها الرسمي كالمؤسسات الرقابية المحاسبية، ومنها الشعبي كمؤسسات الصحافة والإعلام. وعلى الرغم من كل الاحتياطات التي انتبه إليها مفكرو السياسة من أجل بناء مؤسسات سياسية قادرة على تنظيم المجتمع وحكمه لتحقيق مصالح الأغلبية، فإن هذا التفكير المثالي لم يتحقق. وربما ما دمنا بشرا فلن يتحقق، فهناك العديد من العوامل التي تتدخل لحرف تلك الأهداف عن مواضعها، فهناك بنى اجتماعية يتم التثقيف الداخلي فيها على أساس أهمية العلاقات العائلية أو الفئوية أو القبلية، وأن مصير الفرد ومصالحه متوقفان على تلك العلاقات، وتؤثر هذه الأفكار تأثيرا كبيرا في اتخاذ الفرد لقراراته السياسية. وغالبا ما تتم هذه القرارات على ذاك الأساس، وهناك أيضا النموذج الاقتصادي السائد في المجتمع، وهي مختلفة عن المجتمع الصناعي. فالمشاكل السياسية التي يتحتم على هذه المجتمعات حلها مختلفة بالضرورة، وهي كذلك مختلفة في المجتمعات ذات الندرة الاقتصادية في ال موارد عنها في المجتمعات ذات الوفرة، ولكن يبقى الاعتقاد ثابتا في المجتمعات التي لا تكون السلطة فيها مؤسساتية تقوم بحل المشكلات السياسية - التي لا بد قائمة - بشكل سلمي فسوف تعيش مناخا من الحذر والشك والتنافس غير المقنن. وتقاس قيمة أي نظام تمثيلي بما يحد من احتمالات التلاعب، وبقدرته على أن يعكس كل ظلال الفوارق لجماعة الناخبين.

في الطريق إلى بناء المجتمع الأهلي أو المدني واجهت شعوب عديدة أصعب فترات الانتقال وهي الانتقال من القبيلة إلى الدولة، فهذا الانتقال يفترض نظريا وجود بيئة تعيش فيها جماعات إنسانية، وسيادة مقبولة من الجميع، ورقابة تهدف لتوظيف الفائض المجتمعي ليكفي الكل. تلك هي الظروف المادية، وهي مهمة لتفسير التحول من القبيلة إلى الدولة ولكنها غير كافية بحد ذاتها أو جازمة للتحول، فالتحول يستمد أساسه من ثورة في العقليات، وهي العملية الأصعب والأطول زمنا.

شكوك حول الممارسة الديمقراطية

لقد شكك لفترات طويلة عبر التاريخ في قدرة الديمقراطية على تقديم حلول معقولة للمشكلات السياسية التي تواجهها الشعوب، وكان هذا التشكيك في مختلف العصور ولمختلف الأسباب، وتحت يدي نص من هذه النصوص لم يكتبه غير أدولف هتلر النازي الألماني المشهور، الذي تسبب في حرب عالمية ضروس، لقد كتب النص في كتابه المعروف "كفاحي" ونشره في الثلاثينيات، ويقول في الديمقراطية رأيا هذا نصه:

"ما نسميه الرأي العام لا يرتكز دائما على الخبرة الشخصية ومعرفة الأفراد معرفة حقيقية، فهو في الغالب خاضع لتأثير الدعاية التي توجهها إليه الصحافة يوما بعد يوم، وتنفث سمومها في دمه دون أن يشعر. إن الصحافة هي التي تتولى تنشئة الجمهور سياسيا بما تنشره من أخبار وتبثه من أراء .. إن نظامنا البرلماني بحالته الراهنة لا يهمه قيام مجلس نيابي تحشد فيه الكفاءات، بقدر ما يهمه حشد قطيع من الأصفار يسهل توجيهها، بحيث يظل الممسك بالخيط من وراء الستار بعيدا عن كل مسئولية".

هذا الرأي الذي يبدو متطرفا ليس بعيدا عن بعض آراء تقال اليوم وجوهرها عدم كفاءة القادمين إلى المجالس المنتخبة، إما لأسباب عرقية أو فئوية أو تعصبية بشكل ما من الأشكال. وعلاج هذه المشكلة ليس بالحديث عن سلبيات الديمقراطية بل ببذل الجهد لتوعية الناس بفضائل هذا النوع من الفكر الإنساني والاجتهاد لتحسين الممارسة، حيث إن الديمقراطية تخرج أفضل ما في الإنسان، لأن فضائل الإنسان - أي إنسان - ليست فطرية كلها، إنما هي في معظمها مكتسبة نتيجة للممارسة، لذلك فإن الديمقراطية الحقة تؤمن بالإنسان الفرد وقدرته على التطور والمساهمة الإيجابية في مجتمعه من أجل العمل على تقليل العاهات الاجتماعية.

يفهم البعض أن الممارسة الديمقراطية مطلوبة لذاتها، وهنا الإشكالية المعقدة في ممارسة هذا النوع من الحكم في العالم الثالث فهي - أي الديمقراطية - بأشكال ممارستها المختلفة عبارة عن جسر لبناء المجتمع المدني، ويوكل إلى هذا المجتمع المدني الكثير من المسئوليات، إنها اعتراف بأن الشعب قادر على ممارسة حريته والقيام بواجباته، إنها تطبيق المساواة المبتغاة.

أشكال كثيرة من الممارسات الاستبدادية تركز على أيديولوجية المساواة، ولكن نهجها معاكس لنهج الديمقراطية، فهي مساواة العطاء من الدولة وتحكم الدولة في شخص فرد أو حزب في كل مصادر الثروة والسلطة، تمنع وتمنح، بينما الديمقراطية تسعى دائما إلى ترك المبادرات الخاصة لتكون القائدة في المجتمع، لذلك كان هناك ربط دائم بين الديمقراطية واقتصادات السوق وبناء المجتمع المدني ومؤسساته، إلى درجة أن الكثير من الكتابات حول الموضوع يربط بين التطور الرأسمالي في أوربا الغربية وانتشار وثبات الممارسة الديمقراطية، غير أن الرأسمالية ليست كامرأة قيصر بعيدة عن الشبهات، فقد أصبح هناك نقد متزايد لتدخلات أهل رأس المال في توجيه نتائج الانتخابات في أوربا الغربية، إلى درجة أن هذه المجتمعات أخذت تقنن وتراقب مصاريف الأحزاب التي تستخدمها في الانتخابات وتدقق في مصادرها.

أمريكا .. المال والسلطة

قد يفاجأ البعض إن قيل لهم أن أول الأحزاب السياسية في التاريخ التي حملت تعابير العمال والعمل في أدبياتها، نشأت في الولايات المتحدة، في عشرينيات القرن التاسع عشر وثلاثينياته. وأدى التركيز على اللاطبقية في الأيديولوجيا السياسية الأمريكية، إلى حمل الذين يتناولون السياسة الأمريكية إلى اعتقاد بأن الانقسامات الحزبية في أمريكا أقل ارتباطا بالانقسامات الطبقية منها في أي بلاد أخرى، ولكن الدراسات التي أجريت لعمليات الاقتراع في أمريكا ترفض هذا الرأي مؤكدة أن نسبة الاقتراع لصالح الحزب الديمقراطي كانت في زيادة مستمرة في كل انتخابات جرت في أمريكا منذ سنة 1936، إذا حسبنا عدد المصوتين صعودا من أسفل درجات الدخل المادي في المجتمع. ولقد وجدت هذه الدراسات أنه كلما ارتفع الدخل والمكانة مال المواطن نحو التصويت للجمهوريين، ووجدت دراسة قام بها مركز الدراسات الدولية في معهد التقنية في ماسوشيتس في وسط الخمسينيات من هذا القرن (1955) أنه كلما كبرت الشركة التي يعمل فيها الموظف من أبناء الطبقة الاقتصادية العليا، كان احتمال تحوله إلى الحزب الجمهوري أكبر وأوسع. وتؤيد دراسات لاحقة أن مركز جاذبية الثراء هو في جانب الجمهوريين، ومركز جاذبية الفقر هو في جانب الديمقراطيين وتتعزز العلاقة بين الموقع الاجتماعي / الاقتصادي والسلوك السياسي في أمريكا، كما في غيرها من المجتمعات، بالعوامل الدينية والعرقية، فشرائح معظم الأمريكان من أصل إفريقي، والمهاجرون وأبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة تميل إلى الديمقراطيين، في حين أن البيض الإنجلو ساكسون البروتستانت أكثر ميلا إلى الجمهوريين. وهذا لا يعني أن هذا التقسيم قاطع ونهائي أو ثابت تاريخيا لا يتغير، بل لعله في التسعينيات من هذا القرن ظهرت بوادر للتغير في علاقة الأحزاب بالطبقات الاجتماعية، فهذا هو حزب العمال البريطاني يخلع ثوب علاقته التاريخية بطبقة العمال الكلاسيكية التي أنبتته ودعمته، كي يتحول إلى حزب العمال الجديد ممثلا لمصالح الطبقة المتوسطة التي تعمل بالخدمات الجديدة، وكذلك الحزب الديمقراطي الأمريكي يتجه لتمثيل طبقة الخدمات الوسطى والعريضة، ومن هنا يأتي التنافس على كسب المؤسسات المالية وتنافس هذه المؤسسات على كسب الرئيس.

سياسة أم تجارة

منذ أن أطلق ثيودور وايت كتابه الذي أصبح علامة مميزة لأي انتخابات أمريكية والذي سماه "صناعة الرئيس"، منذ ستة وثلاثين عاما (في سنة 1960)، تشهد كل سنة انتخابية إطلاق عدد من المؤلفين السياسيين لمجموعة من الكتب تتناول الحملة الانتخابية الأمريكية، وكانت مثل هذه الكتب تتعرض لأمور شتى في الحملات الانتخابية: شخصية المتنافسين، قدراتهم، الماكينة الإعلامية خلف كل واحد منهم. أما انتخابات 1996 الحالية فقد شهدت نوعا جديدا من الكتابة يدور حول من يمول الرئيس، وما هي المؤسسات الصناعية والخدمية الكبرى التي تدفع لحملة الرئيس، ولماذا تدفع؟

هذا الاهتمام أصبح مركز اهتمام حملة انتخابات 1996 الحالية وصدر كتاب اشترك في تأليفه مجموعة من المؤلفين وقام بتحريره شارز لويس، والمركز الوطني لسلامة الأداء السياسي Center for public integrity ويسلط هذا الكتاب الضوء على تداخل المصالح الخاصة الكبرى في انتخاب الرئيس الأمريكي القادم.

يركز الكتاب على التداخل الضخم بين المصالح الخاصة وبين مسئولي الإدارات المختلفة في الحكومة الأمريكية، فمثلا منذ 1974 حتى سنة 1990 حدث أن حوالي نصف العاملين في البيت الأبيض في الشئون التجارية تحت إدارات مختلفة قد عملوا بعد ذلك لمصالح مؤسسات وشركات وحتى حكومات أجنبية كانوا قد فاوضوا ضدها عندما كانوا مسئولين رسميين، ومنذ 1979 هناك مائة واثنا عشر عضوا سابقا في الكونجرس الأمريكي حولوا لحسابهم الخاص حوالي عشرة ملايين ونصف مليون دولار من الأموال التي لم تنفق في حملاتهم الانتخابية وكانت قد جمعت لذلك الغرض فقط، ومنذ 1977 تبين أن نصف رؤساء الأحزاب السياسية كان لديهم تضارب مصالح، ويقبلون أجورا مالية من شركات كبرى ومكاتب قانونية ومصادر أخرى. وبين 1984 و1993 ترك الكونجرس تسعة وتسعون نائبا، واحد وثمانون نائبا منهم بقوا في واشنطن لعمل كمدافعين (لوبي) عن مصالح مختلفة، والمساعدون لأعضاء الكونجرس ارتفع عددهم من ألفين وخمسمائة فقط سنة 1945 إلى واحد وعشرين ألفا في التسعينيات. هذه بعض الحقائق التي تشير إليها الكتب في تحول العمل السياسي في الولايات المتحدة إلى صناعة متكاملة، ولكن ماذا عن حملة الرئيس نفسه؟

مال أكثر وأبكر

الحملة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة لم تعد مسابقة جمال أو سباق خيول، بل مزاد ضخم تتنافس فيه بلايين الدولارات للتأثير والحصول على مدخل لمرشح يكون الرئيس القادم للبيت الأبيض. هذا لا يعني أن المال كعنصر وحيد فقط هو الذي يحدد انتخابات الرئيس، فقد كان هناك العديد من المرشحين الفاشلين وكانت لديهم مصادر مالية كبيرة وفشلوا في الانتخابات. بجانب رسالة متوازنة ومقدمة للجمهور بشكل مركب وبجانب آلية انتخابية فاعلة، فإن المال عامل مهم في النجاح الانتخابي. وقبل الانتخابات الأولية لاختيار المرشحين في فبراير الماضي أجري استطلاع رأي بين النخبة المالية والاقتصادية الأمريكية حول مَن من المرشحين يحوز تأييد حزبه، وفي كل الانتخابات منذ 1976 تبين أنه كان المرشح الذي استطاع أن يحصل على أكبر قدر من المال في نهاية السنة قبل بدء السنة الانتخابية، وأصبح بذلك مؤهلا للحصول على دعم مالي من الحكومة الفيدرالية - كما يقضي القانون - يبلغ ستين مليون دولار لحملته الانتخابية، كان ذلك المرشح هو الذي يحوز ترشيح حزبه لدخول سباق الرئاسة، وأصبح من المسلمات السياسية الأمريكية أن مفتاح دخول البيت الأبيض "كثير من المال في وقت مبكر".

التحالف بين المرشحين السياسيين ومموليهم الماليين ليس ظاهرة خاصة بالانتخابات الأمريكية، العلاقات المشبوهة بين المال والسياسة مرض مستوطن في السياسة بشكل عام، والناخب الأمريكي وصل إلى فهم هذا المرض وتقنينه، فليس من المعقول توقع أن يحصل كل مرشح على آلاف الملايين من الدولارات من التبرعات من شركات ومؤسسات ثم يعتقد البعض أن هذه التبرعات قد قدمت دون توقع الحصول على مردود في المستقبل، وما دام هذا النوع من النظام موجودا ومسموحا به فستبقى الحملات الانتخابية الأمريكية تحت شكوك كثيفة من الناخبين.

مظاهر عدم الاهتمام وخيبة الأمل في السياسة بشكلها الحالي أصبحت عميقة اليوم لدى المواطن الأمريكي إلى درجة أنه في انتخابات الرئاسة لسنة 1992 التي خسر فيها جورج بوش السباق، كان هناك خمسة وثمانون مليون أمريكي يحق لهم المشاركة في التصويت لم يعبأوا بالذهاب إلى صناديق الانتخاب، وفي سنة 1994 في الانتخابات للكونجرس لم يشارك مائة وأربعة عشر مليون أمريكي يحق لهم المشاركة في تلك الانتخابات والتي حملت أغلبية جمهورية إلى الكونجرس. أما هؤلاء الذين يساهمون في العملية الانتخابية من الأمريكيين، فمن الواضح غضبهم على الممارسة، فمنذ 1992 كان منصب الرئيس وأعضاء الكونجرس من ديمقراطيين وجمهوريين على السواء عرضة للخلع من مناصبهم دون توقع عن طريق عدم إعادة انتخابهم، وما ظاهرة الحزب الثالث الذي يحاول روس بيرو أن يخرجه إلى المعترك السياسي منذ بداية التسعينيات إلا مظهر آخر لعدم الرضا الذي يتسع. عصر عدم الرضا هذا لم يظهر فجأة، فبعض المحللين السياسيين يعتقدون أنه تراث ثلاثة عقود من الاستقطاب السياسي، الذي شدد على الموضوعات الرمزية والقضايا قصيرة الأجل. أعطى عدم الرضا هذا شيئا من المخارج، سمح للمال بأن يأخذ دورا متعاظما في الانتخابات، وترك البلاد قلقة حول قدرتها على استمرار مستوى المعيشة الذي عرفته فلن يكون هناك عجب أن أصبح الأمريكيون يمقتون السياسة والسياسيين. منذ السبعينيات وتحديدا منذ فضيحة ووترجيت التي شهدت أول إطاحة بالرئيس الأمريكي أثناء فترة ولايته وما تلاها من فضائح سياسية، اكتشف الأمريكيون على نطاق واسع الوجه القذر للسياسة، من حسابات سرية في البنوك وغير ذلك، ومن بين ما تم كشفه أن إحدى وعشرين شركة أمريكية كبرى اعترفت بذنبها في إعطاء دعم مالي غير شرعي مجموعه حوالي مليون دولار لخمسة من مرشحي الرئاسة من الديمقراطيين، ومعسكر ريتشارد نيسكون الانتخابي. الغضب الشعبي على ووترجيت وما تلاها نتج عن إصلاح سياسي مهم في تاريخ أمريكا، فقد حدد سقف أعلى للمساهمة في التبرع للحملات الانتخابية، كما فرض الإعلان عن قيمة التبرع من خلال هيئة أنشئت خصيصا أسميت الهيئة الانتخابية الفيدرالية، كما شرع لأول مرة في تاريخ أمريكا أن يحصل المرشحون الرئيسيون للانتخابات الرئاسية الأمريكية على دعم مالي، ولا يتجاوز التبرع الفردي ألف دولار، كانت تلك الإجراءات مصممة كي تبعد القطط السمان من شركات ومؤسسات ذات مصالح خاصة عن التأثير في الحملة الانتخابية الرئاسية. هذه الإصلاحات أصبحت قانونا تحت رئاسة جيرالد فورد الذي أعقب الإطاحة بنيكسون. وبعد عقدين من الزمان، ومن سخريات القدر، فإن الإصلاحات السياسية التي أعقبت ووترجيت وأريد بها إصلاح الخلل، أصبحت هي بذاتها مقننة للنفوذ المالي في السياسة، فأصبحت الألف دولار، وهي مساهمة الشخص الواحد، تتضاعف بعدد أفراد العائلة، حتى الأطفال والموظفون في المؤسسة الواحدة، كل يدفع باسمه ألف دولار، وكانت النتيجة عشرات الآلاف من الدولارات ذات المصدر الواحد. بجانب هذا فإن المصالح الخاصة مثل نقابات العمال والمؤسسات الخدمية أصبح من حقها أن تدعو إلى تجمعات لجمع الأموال من أفرادها على أساس ألف دولار للشخص الواحد وتقدمها مجتمعة للمرشح المطلوب. كل ذلك أصبح قانونيا بعد الإصلاحات تلك، لذلك فإن أحدا لا يستغرب أن معظم استطلاعات الرأي للناخب الأمريكي تقول إن الناخبين لا يثقون في الرسميين المنتخبين، ويشعر معظمهم بأنهم في غربة عن واشنطن العاصمة التي تتخذ فيها القرارات السياسية.

ولقد توقع المحللون السياسيون أنه في الأيام التسعة والعشرين التي تشكل الاختيار الأولي في كل الولايات، أي في تلك الأيام من فبراير ومارس 1996، لا بد أن يكون كلا المرشحين الديمقراطي والجمهوري قد راكما - كل على حدة - مبلغ عشرين مليون دولار لبدء إدارة الحملة الانتخابية. وهذا المبلغ الضخم يجعل العديد من المرشحين، أو الذين يفكرون في الترشيح، ينسحبون مبكرا من السباق الانتخابي لعجزهم عن تدبير مثل هذا المبلغ الضخم. ومع هذه التكاليف الضخمة فلم يتقدم أحد المرشحين جديا بأي اقتراح لتغيير دور المال في الحملة الانتخابية. في السنة السابقة للانتخابات الرئاسية الماضية استطاع المرشح بيل كلينتون أن يجمع 3.3 مليون دولار، وثلاثة من المشرحين الجمهوريين جمعوا أكثر من ذلك الرقم في الثلث الأول فقط من السنة السابقة لانتخابات 1996، وهذا يدل دلالة قاطعة على دور المال في الديمقراطيات الكبرى في عصرنا الحديث.

ترجمة مؤثرة لقوة المال

المال الذي أشرنا إليه كعنصر صار فاعلا في عملية الانتخاب لأكبر سلطة في أكبر قوة عالمية، أي منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، هو مال مشروط بالطبع، شأن أي تبادل مالي .. له ضمانات، وعليه فوائد. وهنا يبرز اللاعب التاريخي، في ساحة المال، ليؤدي دوره المعهود في فرض شروطه، ليعطي ويأخذ. هذا اللاعب المالي التاريخي - منذ ظهرت قوة المال على ظهر كوكب الأرض - هو الجماعة اليهودية، وفي الولايات المتحدة تتمتع هذه الجماعة بقوة انتخابية تفوق عدد أصواتها بكثير، برغم أن " الصوت اليهودي" له فاعليته في عملية الاقتراع. والتفسير الواضح للقوة الانتخابية للجماعة اليهودية في الولايات المتحدة مرده الأساسي لقوة المال اليهودي. صحيح أن القدرة والخبرة التنظيمية للجماعة اليهودية في الولايات المتحدة تجعل تأثير اليهود الانتخابي أكبر من عدد أصواتهم، لكن ذلك العنصر يأتي في المرتبة الثانية بعد تأثير المال. اليهود يمثلون في الولايات المتحدة 3% تقريبا من عدد السكان، لكن معدل المشاركة اليهودية في الانتخابات القومية يصل إلى 90% من كتلتهم الانتخابية بينما يتراوح بين 40 - 50% في المعدل القومي الأمريكي، وهذا يحول القوة التصويتية الضعيفة للجماعة اليهودية إلى شيء ملموس في حالات معينة مهمة.

ففي ولاية نيويورك على سبيل المثال يؤلف اليهود حوالي 14% من عدد السكان، ولكنهم يدلون بما معدله 16% - 20% من الأصوات. هذه المشاركة الانتخابية النشطة للجماعة اليهودية تلعب دورا مهما، لكن مع ذلك تظل هناك الكتلة الانتخابية الأكبر خارج حدود التصويت المباشر للجماعة اليهودية. وهنا يأتي دور قوة المال لتشكل ما يمكن تسميته بالتصويت غير المباشر، فالتبرعات المالية من المرشحين التي تقدمها الجماعة اليهودية الغنية تمثل العنصر الأهم في التأثير الانتخابي لهذه الجماعة. ونتيجة تأليف ما يسمى بلجان "العمل السياسي" أصبح للمال القادم من دائرة الجماعة اليهودية تأثير متعاظم أكبر من أي وقت مضى، خاصة أن هذا المال يجيد الاتجاه نحو القنوات الأكثر تأثيرا في الكتلة الانتخابية الأكبر خارج دائرة الجماعة اليهودية الأمريكية، والتي قد تكون متعارضة مع التوجهات الخاصة لهذه الجماعة، تحديدا فيما ينصب على الدعم المكلف لإسرائيل. والقناة الأكثر تأثيرا في تلك الكتلة الكبيرة هي - بداهة - قناة التوجيه والتأثير عبر وسائل الإعلام. ومن المعروف أن هذه القناة الحيوية واقعة بمعظمها في يد الجماعة اليهودية الأمريكية، ليس فقط على مستوى المنتج النهائي كمحطات التلفاز والصحف والمجلات ودور النشر، بل أيضا ما يمكن تسميته بالمواد الخام للماكينة الإعلامية، حيث يسيطر اليهود على تجارة الورق كمثال، إضافة لنسبتهم الطاغية من العاملين في الاستوديوهات والصحافة، فكأنهم يصرون على امتلاك الأداة والمؤدي على السواء في العملية الإعلامية ليضمنوا الأداء المطلوب، ومن ثم التأثير المطلوب لتحريك الكتلة الانتخابية - غير اليهودية - الضخمة في الاتجاه المتسق مع مصالح الجماعة اليهودية سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها (إسرائيل).

هذه الترجمة العملية لقوة المال، والمتبلورة في التوظيف الإعلامي بهدف التأثير الانتخابي، ليست هينة أبدا. حتى أن استقصاءات آراء جمهور الناخبين، بل ونتائج استطلاع الرأي، يمكن صياغتها إعلاميا لإحداث التأثير المطلوب لصالح طرف من أطراف السباق على مقعد الرئيس. وعندما يبدو ذلك عسيرا فإن الترسانات الإعلامية لا تعدم وسائل الالتفاف على كل عمليات جس النبض، وسبر الغور، لدى جمهور الناخبين الكبير. فبرامج التحليلات السياسية، برغم ادعاء العلمية، لا يمكن أن ننفي عنها صفة الانتقاء، ومن ثم نية التأثير، ناهيك عن استخدام أرقى تقنيات الإعداد، والإخراج، لتتحول الثواني القليلة المخصصة لكل مرشح، إلى ضربات كبرى شديدة التأثير في جمهور الناخبين، وهذه الثواني القليلة ينفق عليها الشيء الكثير، من تكريس خبراء رفيعي المستوى، في الدعاية، وعلم النفس السياسي، بل حتى علماء نفس الألوان. فكرنفالات المرشحين التي تظهر منها ثوان خاطفة على شاشات التلفاز، أو العبارات أو الشعارات المركزة التي تقال في برهات من الزمن، هذه كلها تأتي بذخيرة هائلة من الدراسات وجيش من خبراء التأثير الإعلامي.

إنها قوة المال، مترجمة إلى أكثر مظاهر التأثير فتكا، دون دماء، ولا اشتباكات، ولا تماسك بالأيدي، ولا تزوير ولا كل تلك الوسائل البائسة التي تنتهج في انتخابات العالم الثالث. فهل يبرئ ذلك انتخابات العالم الأول؟

الكاتب التشيكي (فاسلاف هافيل) الذي أصبح رئيسا لتشيكيا كتب مقالا سماه "قوة من لا قوة له" تحدث عن بقال كان لمعظم حياته قد قبل العيش تحت نظام شمولي من أجل مسايرة الحياة، ويوما ما خطرت للبقال فكرة، وتوقف عن الحياة في أكذوبة، رفض التقليد وحطم قوانين اللعبة، واكتشف ذاته المطحونة وهويته، وأعطى حريته دفعة أساسية. بطل هافيل بدأ يعيش الحياة مع الحقيقة لا الأكذوبة. كتاب شراء الرئيس - الذي عرضنا بعضا منه - ومثله من الكتب تكشف الأسس الحقيقية لقاعدة السلطة في أكبر وأعظم دولة موجودة على الأرض اليوم.

وإذا كان نقد نظام انتخاب الرئيس مفتوحا ومتاحا إلى درجة وجود مؤسسة رسمية تقوم بهذا العمل فذلك دليل على القوة في نظري لا الضعف. وعندما يقول هذا الكتاب وبالحرف الواحد ولكل من يريد أن يقرأ "إن هناك ثقافة فساد قانوني في العملية السياسية الأمريكية لا بد من إصلاحه" فإنه بذلك يدعو إلى إصلاح هذا الفساد، بل يصنع الخطوة الأولى في إصلاحه. ولكن، كيف؟

عودة إلى أفلاطون

في مسألة كالديمقراطية في بلد يرفع لواءها إلى أقصى حدود الحرية " الليبرالية" في كل شيء.. ابتداء من التجارة وحتى ثياب الناس، فإن كلمة "الإصلاح" تتحول إلى مشروع ضخم ضخامة كيان الولايات المتحدة المادي والمعنوي في عالمنا. لكن يبدو أن المشروع يبدأ من الفكر. ومشكلة الديمقراطية في الولايات المتحدة (والعالم الحر بالتالي، والعالم الذي يريد - أو يراد له - انتهاج النموذج السياسي الأمريكي) هي مشكلة الإنسان المعاصر والمنجزات المعاصرة جميعا، ابتداء من التقنيات التي بدأتها الثورة الصناعية وحتى الأفكار الموازية لانفجار هذه الثورة وتطورها. المشكلة أن الإنسان لم يطور نوازعه وغرائزه ليتواكب رقيا مع هذه الوسائل المادية المتطورة والأفكار الموازية التي لا تقل عنها تطورا. وهنا يعاد طرح مفهوم الأخلاق كضرورة إنقاذ في مأزق الإنسان المعاصر ككل.

وفي السياسة ثمة طرح يعالج مشكلة الديمقراطية الحديثة لعله يكون اقتراحا ملائما وهو شديد الشبه بمصطلح الديمقراطية - شكلا على الأقل - هذا الطرح المقترح يسمى "التيمقراطية". "والتيمقراطية" مصطلح يوناني الأصل مكون من مقطعين يونانيين أولهماTIME ويعني الشرف، وKRATOS ويعني الحكم. فالمعنى إذن أنه نظام الحكم المؤسس والمرتكز على معاني الشرف. ويعود بدء حياة المصطلح إلى أفلاطون الذي استخدمه في كتابه الشهير "الجمهورية" للتعبير عن نظام الحكم الذي يؤثر المجد والسلطان والشرف على النظر والدرس والتفكير. بمعنى آخر، هو إعلاء شأن الأخلاق في التعامل السياسي. وبرغم قدم عهد المصطلح، والمعنى العسير له إذا أخذ بملابساته التاريخية وظروف صياغته في سياق تصور أفلاطون عن دورات الحكم وطبيعة فسادها ونداء إصلاحها، فما يحدث في الديمقراطية المعاصرة يستدعي "الفكرة" التي يوحي بها المصطلح.

ومن بين الفلاسفة الأمريكان المعاصرين يبرز في هذا الإطار اسم "جورج سانتيانا" الذي يقرر بعد استعراضه للنظم السياسية المختلفة أن "التيمقراطية هي أفضل النظم". وهي من وجهة نظره ذات طابع أرستقراطي بمعنى - في سياق وجهة النظر ذاتها - إتاحتها الفرصة للأكفاء فقط، والمتميزين شخصيا، أن يرتقوا سياسيا لمعالجة شئون السياسة. وهي بذلك - تبعا لرأي "سانتيانا" - نظام يجمع مميزات النظم الأرستقراطية والديمقراطية مع تحاشي مثالب هذه النظم، لهذا تمثل - في رأيه - النظام الأقدر على "إنقاذ البشرية من الفوضى السياسية التي تجتاحها".

لكننا لو عدنا إلى مفهوم أفلاطون نفسه عن "دورات الحكم" لاكتشفنا أن "التيمقراطية" هي "دورة" يلحق بها الفساد أيضا، لهذا لا بد من إصلاحها بدورة جديدة مختلفة عنها، تصلح ما لحقه الفساد.

فساد السياسة إذن، طبيعة تبرز مع تراكم أهواء البشر وميلهم الغريزي باتجاه مصالحهم المغلقة. لكن البشرية التي تفسد هي أيضا التي يخرج من بينها مفكرون ذوو ضمائر وقدرة على الارتقاء الإنساني لقرع نواقيس الخطر والتبشير بفضائل تتجاوز المفاسد. ويبقى الضمير في مجال الممارسة السياسية في عصرنا - ودفعها نحو دورات حياة جديدة أكثر صحة .. وأكثر أخلاقا !

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات