أرقام

أرقام

الـعـسـكـر والمـرأة اللـعـوب!

تفوق الجيوش العربية عدداً جيوش الاتحاد الأوربي بكل دوله الأكثر تقدماً.. فهل نحن أكثر قوة من أوربا?

يقودنا السؤال لقضية مهمة وهي دلالة الأرقام, وكيفية التعامل معها ومدى مصداقيتها.

نقول: (الرقم عنوان الحقيقة)... فقد يغني الرقم عن تفاصيل كثيرة. إنه - وفي كثير من الأحيان - كطلقة الرصاص, لا يحتاج إلى عبارات إنشائية. بل إنه - وفي حالات مثل التعامل في الأسواق المالية - يكون رسالة سريعة المفعول. هذه هي القاعدة, ولكن ليس في كل الأحوال.

نقول أيضاً: إن الرقم الواحد لا يفيد, ومن ثم تصبح المقارنة لازمة للفهم, فعندما نذيع أن الولايات المتحدة - على سبيل المثال - تقترب من حيث عدد السكان من الثلاثمائة مليون.. فهل نعني أن الرقم منبع قوة أو منبع ضعف, يزيد من إمكانات الدولة أو يزيد من أعبائها?

وتتوقف الإجابة على الكثير من المقارنات, فأي مساحة جغرافية يحتلها هذا الشعب, وأي إمكانات اقتصادية تتوافر له, وأي إنتاجية يقدمها الفرد, بل وأي تعداد للسكان تتمع به دول منافسة مثل الاتحاد السوفييتي سابقاً أو مثل الصين في القرن الجديد?!

المقارنة ضرورية مع النفس, وربما في مراحل تاريخية مختلفة تسجل التطور سلباً أو إيجاباً... أو مع الغير ممن يشغلون الساحة, وذلك حتى يكون للرقم معناه وحتى نقف على مغزاه. وفي حالتنا تلك - حالة الجيوش العربية والأوربية - فإن الأرقام قد تشي بأننا الأكثر قوة.. فهل نحن مصيبون في ذلك?

نقول إن الأرقام - إن أحسنّا صنعها - لا تكذب, والمقولة صحيحة إذا عرفنا مضمون الرقم وأنه تعبير عن واقع سياسي واقتصادي واجتماعي.. بل إنه - وفي بعض الأحيان - يكون تعبيراً عن معارك وصراعات وتطورات تاريخية مهمة. ولنأخذ مثلاً ما كانت تحتاج إليه مصر عندما قررت بناء السد العالي في منتصف الخمسينيات, ولم يكن الرقم حين جرى تنفيذ السد في الستينيات يزيد كثيراً على (400) مليون جنيه, أي مليار دولار بأسعار وعملات ذلك الزمان, لكن هذا الرقم الذي بات يملكه فرد واحد في عصرنا الحالي استدعى - وعندما امتنع البنك الدولي عن التمويل - تأميم قناة السويس, فلما جرى التأميم جاء العدوان الثلاثي عام 1956. ثم حدث تمصير المصالح الأجنبية وجرت المياه في قنوات جديدة. إنها السياسة والاقتصاد والحرب في وعاء واحد, وعبر رقم واحد!

والأمثلة بعد ذلك كثيرة, فعوائد النفط ليست ما يدخل الخزائن, ولكن ما تشتريه أو تصنعه هذه العوائد.. كذلك, فإن أموال التسليح - ونحن ننفق الأكثر في العالم قياساً على الناتج القومي - ليست مقياساً للمنعة والقوة, لكن المقياس هو ما توفره هذه الأموال من أمن قومي.

هذه الجيوش الجرّارة

وربما تكون السطور السابقة هي ذاتها مفتاح ما نتحدث عنه, فهل نحن - وقد امتلكنا جنوداً وقوات أكثر - أصبحنا أكثر قوة من أوربا الموحدة? السؤال تثيره التقارير العسكرية الدولية, بل يثيره أيضاً تقرير التنمية البشرية الذي يصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة والذي حاول أن يعقد هذه المقارنة عام (1996) فذكر أن تعداد الجيوش العربية (لعام 1993) هو مليونان و(286) ألف مقاتل. في مقابل مليونين وتسعين ألف مقاتل للاتحاد الأوربي, وبطبيعة الحال فقد استمرت الفجوة بين المجموعة العربية والمجموعة الأوربية طيلة التسعينيات والتي كانت بمنزلة حقبة جديدة من التوتر والعسكرة والتي سجلت أيضاً أن الشرق الأوسط الأكثر إنفاقاً من الناحية العسكرية, بل إنه قياساً على الناتج القومي فهو ينفق ما يعادل ضعف النسبة السائدة كمتوسط عالمي.

وفي حالة الجيوش, وحين نفحــص الأرقـــام, فلابد أن نسجل الحقائق التالية:

1 - أن عصر الجيوش الضخمة قد تراجع. لم يعد العالم بحاجة إلى جيش نابليون أو هتلر أو ستالين فالتطور في التسليح جعل (النوع) أهم من (الكم).. وجعل الحرب الجوية والصواريخ سنداً قد يفوق السند الذي توفره الحرب البرية التي تعتمد على أسلحة مثل المدرعات والمشاة.

وبينما خاضت مصر - على سبيل المثال - معركة برية بالدبابات عام 1973 هي الأضخم منذ الحرب العالمية الثانية وحرب كوريا, فإن الولايات المتحدة وفي عام (1991), ومن بعدها في عام (2001) قد خاضت عاصفة الصحراء ومن بعدها حرب أفغانستان بلا قوات برية تذكر, ومن خلال ما يمكن تسميته (الحرب عن بعد), أو (الحرب بلا خسائر), وكانت كلمة السر هي التفوق في الاستطلاع وكل أنواع الأسلحة.

2 - ومع تغير نوعية الأسلحة المستخدمة وتقدمها بما يصنع منظومة قتالية مختلفة, حدث تطور فيما توفره هذه الأسلحة من نيران, فالعسكريون لا يتحدثون عن عدد المدافع والدبابات والطائرات. لكنهم يتحدثون في مجال المقارنة عما يمتلكه كل طرف من قوة نيران, وعن أي مدى تصل إليه وسائل القتال. والمثال هنا في سباق الصواريخ والذي بات يسيطر على الشرق الأوسط, ومقياس كفاءة الصاروخ: مداه وقوة شحنة التفجير التي يحملها.

3 - ويبقى عنصر ثالث يتعلق بنسبة الجيش العامل للجيوش الاحتياطية, وهو ما تطبقه إسرائيل حيث تحتفظ باحتياطي كبير يتم استدعاؤه عند الحاجة. بينما يظل حجم الجيش العامل صغيراً نسبياً.

الأحجام والأرقام إذن لا تكفي وحدها للمقارنة, وإنما فحوى الأرقام هو ما يهدينا إلى الحقيقة, وهي متعددة الأوجه.

إنفاق أكثر وأمن أقل

أحد أوجه الحقيقة أننا أمام (إنفاق عربي دفاعي أكثر... ولكننا أيضاً أمام أمن قومي أقل). تضاعفت الميزانيات والمشتريات العسكرية, وتضاعفت أعداد الجيوش لكن الأمن مازال مهدداً وهشاً.

وإذا كانت (العسكرة) قد بدأت كذراع قوة لدول استقلت حديثاً وواجهت تحديات كبيرة أبرزها في الستينيات والسبعينيات الصراع العربي - الإسرائيلي. وإذا كانت هذه العسكرة قد نمت في السبعينيات بعوائد النفط, ثم نمت في الثمانينيات بسبب الحرب العراقية - الإيرانية, ثم استمر نموها في التسعينيات بسبب حرب الخليج الثانية.إذا كان ذلك قد استمر على مدار ما يزيد على ثلث قرن فإن الأرقام تصف ما جرى في الفترة نفسها التي نقارن فيها بين الجيوش العربية والأوربية فيقول تقرير التنمية البشرية لعام (96) إن سلطنة عمان تخصص حوالي (16) في المائة من ناتجها للإنفاق العسكري وأن كلا من السعودية والكويت والعراق تنفق ما بين (11 و 16) في المائة من الناتج على أغراض عسكرية وأن نصيب الفرد في الكويت وهو (2000) دولارفي العام صار هو الأعلى في العالم كله. وانعكس ذلك على عدد أفراد الجيوش - وهو ما نتحدث عنه - فزاد حجم القوات العمانية (17) ضعفاً والسعودية (253) في المائة والكويت (138) في المائة, وذلك خلال عقد واحد من الزمان يمتد ما بين (1985 و 1994)!

نمت الجيوش وزادت عدداً وعدة وزاد الإنفاق فحررت مصر سيناء بعد حرب (73), وحدثت مواجهات مع إسرائيل... وفيما عدا ذلك فقد تراجع الأمن القومي العربي وجرى استخدام السلاح في غير موضعه, أصبح الخليج أكثر انكشافاً واعتماداً على الغير.. وأصبحت دول الطوق أكثر عجزاً عن مواجهة إسرائيل, وأصبحت الجيوش أكثر وهناً بعد أن جرى استخدامها في صراعات داخلية بالسودان واليمن والجزائر والصومال. أو جرى استخدامها في حروب عربية - عربية كما هو الحال بين العراق والكويت.

وهنا, قد نضع أيدينا على ما يميز الجيوش الأوربية (الأقل عدداً) عن الجيوش العربية الأكثر عدداً - أعني: استراتيجية العمل بين هذه الجيوش - فبينما توزعت جيوشنا لأغراض قطرية ولصراعات داخلية توجهت جيوش أوربا لتدخل في منظومة واحدة على مستويين: المستوى الأوربي والمستوى الأطلنطي..وفي كلتا الحالتين وفرّت الأمن لبلادها, وكان التنسيق فيما بينها عنصر قوة لا يستهان به.

العبرة إذن ليست بالأرقام المجردة, فالرقم قد يكون (عنوان الحقيقة), وقد يكون كالمرأة اللعوب, ظاهره غير باطنه, يصدق ذلك في الاقتصاد وفي شئون الحرب والمجتمع, فإذا تركنا قضية الجيوش لاكتشفنا أن بعض البلاد العربية لا تعرف بالضبط عدد سكانها, وتغيب معظم مؤشراتها عن أي تقارير دولية.

إنه الغياب وليس التخلف وحده, وقد تكون البداية رقماً زائفاً, أو أرقاما حكومية للدعاية, أو سوء فهم لأرقام سيارة لا تقول كل الحقيقة, وقد يحدث العكس فنملك الكثير لكننا لا نحسن استخدامه كما هو الحال بين العرب وإسرائيل.

إننا نملك أكثر, لكنهم يتفوقون!!

... ورقــم الــتـــجـــارة الـحـــرة

(45) عاماً مرّت على مساعي الدول العربية للدخول في وحدة اقتصادية.. وأقل من ذلك قليلاً في سعيها من أجل سوق مشتركة, لكن الأمرين لم يتحققا إلا في أضيق الحدود فقد تخلفت ثلث الدول العربية عن دخول اتفاقية الوحدة الاقتصادية, وتخلف الثلثان عن دخول الجانب التنفيذي لها وهو الجانب الخاص بإنشاء سوق عربية مشتركة.

في السنوات الأخيرة حدثت محاولة لتعويض ما فات وإحياء ما مات, لكن المحاولة الأوسع - وإن كانت أقل عمقاً هي ما انتهت إليه البلاد العربية من البدء بمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى والتي تنساب من خلالها السلع الوطنية عبر الحدود بلا قيود جمركية أو نقدية أو بنكية.

في نهاية عام (2001) سجلت الأرقام انضمام (14) دولة تمثل (طبقاً لإحصاءات عام 2000): (82%) من مجموع سكان الدول العربية وتحقق (89%) من الناتج المحلي العربي وتمثل (94%) من الصادرات العربية البينية.

المنطقة الحرة بدأت - ولعشر سنوات - عام (97), ومن المتوقع اختصار فترة التنفيذ لتنتهي عام (2005).

 

محمود المراغي