التفكير المرن والسلام الاجتماعي

التفكير المرن والسلام الاجتماعي

التفكير المرن يتخذ المرونة أسلوبًا, ذلك الأسلوب الذي يعد أحد شروط التفكير العلمي, الذي حقق الإنسان بفضله إنجازات كبرى على الصعيدين المعرفي والمادي, خلال فترة وجيزة من عمر الإنسانية, لم تزد على ثلاثة قرون ونصف القرن.

يعد التفكير أرقى العمليات العقلية المعرفية, حيث يمارسها العقل عند الشعور بمواجهة موقف يتطلب تصرّفًا, في نطاق الظروف والعلاقات القائمة, وطرائق التفكير هي رؤى وأساليب, لذا فهي سلوك مكتسب يبدأ الإنسان بتعلّمها منذ بدء نموّه العقلي في مرحلة الطفولة.

وعلى هذا فكلنا نفكر, أي: نتعامل ذهنيًا مع القضايا والموضوعات, إلا أن لكل منا طريقته في التفكير, حتى بات توزيع التفكير على أنماط أمرًا عسيرًا, غير أنه أمكن تقسيم التفكير إلى مستويات تبعًا لعدد من المعايير, ومن بين هذه المستويات يمكن أن نجد تفكيرًا مرنًا, وتفكيرًا متصلّبًا.

وقد أمدّت المرونة الفكر العلمي بمزية فريدة, تلك المزية هي تراكم العلم من حيث قابليته للتغير في مفرداته, إذ هو في تطوره يأخذ مجرى عموديًا, إذ يظل كل بناء منهجي للعلم كالنظريات والقواعد والقوانين والفروض في تغير مستمر تبعًا لتطور مراحل البحث العلمي.

وقد يصل الأمر بتلك التغيرات إلى إلغاء أو تعديل في بعض تلك الأبنية, لذا يقر العلم أن مفرداته اليوم ليست نهائية, وأن حقائقه ليست مطلقة, وأن قواعده ليست أزلية, إذ يظل العلم يتوصل إلى الجديد, ومن هنا تنزوي نظريات, وتنتفي عنها القيمة العلمية, وتظل لها قيمة تاريخية فقط, بعد أن تحل محلها نظريات أكثر صدقًا وثباتًا.

وإذا كانت المرونة إحدى سمات العلم, فهي تتضح أيضًا, بمقادير مختلفة, في أنماط أخرى من التفكير والتصرّف, إذ تفرض أخلاقيات السلوك الإنساني اتضاحها في مجمل أنماط التفكير, لأنه بفضلها يمضي السلوك البشري في طريق أكثر أمانًا, فالمرونة في التفكير مهارة إنسانية تبدو في تعامل الإنسان مع الأفكار وطرائق الحياة دون تشدد أو تعصّب, وهي لا تعني القبول بما يطرحه الآخرون, بل تعني الإنصات إلى آرائهم وتحمّلها وإتاحة الفرص لها للتعبير.

وللمرونة نمطان بارزان يؤلف أولهما المرونة التلقائية, وثانيهما المرونة التكيفية, ويتمثل الأول في إمكان الفرد أو المجتمع الإتيان ببدائل فكرية متعددة عند التعامل مع قضية في موقف, وعدم الاقتصار على موقف واحد, دون غيره, بينما يتمثل الثاني في القدرة على تغيير الأفكار والأساليب السلوكية, تبعًا لمعطيات لها صفة الصدق والواقعية والموضوعية.

المرونة منهج سلوك

ليس التفكير المرن تخبّطًا, وليس تأرجحاً بين الأفكار والاتجاهات, أو أسلوباً في المحاولة والخطأ, ولا سيراً في الركب, ولا عملية مسايرة للآخرين, بل هو منهج في السلوك يضع في الاعتبار متغيرات واقعية وموضوعية, إذ إن المرونة ليست انسياقًا وراء فرد أو جماعة, أو وراء رأي أو فكرة, ولا هي مجرد ميل نفسي إلى اتجاهات متبناة من قبل الآخرين, بل هي موقف مستقل, وطريقة منهجية ينفتح من خلالها الفرد أو المجتمع على أفكار الآخرين وعملياتهم الفكرية, مع الالتزام بالتقييم على أسس منظمة.

وعلى هذا, فإن الأخذ بالمرونة في التعامل الفكري والسلوكي يقتضي عددًا من الضوابط في مقدمتها نبذ التصلّب, وما يدخل في عداده من أساليب المغالاة والتشدد والتعصّب والتطرّف.

وينطوي منهج المرونة على قبول الآخر والتعايش معه, والقبول بالتطور والتعديل مادامت الأفكار, في مجملها ليست يقينية ولا مطلقة مع القبول بالتعايش مع أفكار الآخرين, والتوافق مع معطيات التغيير والارتقاء, والتعامل مع مجمل الأطروحات الفكرية دون الاستناد إلى قرارات مسبقة أو إجابات جاهزة, والقول بالحوار والنقد والتقييم, مع الالتزام بحدود الحرية دون تجاوز ما تنطوي عليه من استحقاقات.

وفوق هذا وذاك, فإن المرونة تتنافى بالضرورة مع مجمل أساليب العنف والتسلّط والتهديد, وعلى هذا, يمكن أن توصف المرونة بأنها طريقة التعامل مع القضايا والمواقف, ومع الأفراد والجماعات, بحيث تبتعد تلك الطريقة في التفكير عن الجمود والتصلّب والتشدد, وتقبّل المراجعة والتغيير, إذ إن التصلّب صفة التحجّر في النظرة والمغالاة في الأحكام, واحتكار الصواب ورؤية الآخر بالضرورة باطلاً, وكثيرًا ما يقف أمام ما يعارضه موقف الخصومة والعداء.

والتعصب الذي تعانيه البشرية, اليوم, هو أحد أخطر المشكلات, التي تهدد التماسك الاجتماعي, والتي تحدث فجوات عميقة في صميم التكامل الإنساني, وإذا كان التاريخ قد قدم مؤشرات كثيرة كانت قد أفصحت عن سعة الويلات المفجعة, التي تحملتها البشرية عبر العصور الماضية بسبب التعصّب بأنواعه المختلفة, فإن الحاضر لم ينج من آثاره المدمرة, كما أن مؤشرات علم المستقبل تتوقع أن يكون خطر هذه المشكلة أكبر في الغد, وأن الإنسان سيظل ضحية لها, إذ هي تستنزف قدراته العقلية وإبداعاته الفكرية, بل تهدد بمسخ إنسانيته, إذ لم يكن التعصب مقتصرًا في ضحاياه على الأرواح وحدها, بل هو يتمدد إلى اغتيال السلام الاجتماعي والعاطفي للإنسان.

ونشير إلى أن المعلومات التي تتناقلها وسائل الإعلام أو يتناقلها الناس فيما بينهم, منها ما هي منقوصة, أو أحادية الجانب, أو متحيّزة, أو هي أفكار نمطية. ومثل هذه يمكن أن تقود إلى ميول متحيّزة أو متعصّبة, أو تكوين انطباعات غير صحيحة عن الأفراد والمجتمعات والموضوعات, أو بلورة نزعات, ويمكن لهذا كله, أن يؤلف جوًا أوليًا لظهور اتجاهات أحادية, وهو يفضي إلى العناد الاجتماعي, الذي يشكّل جوًا للتعصب والتصلب.

ومن هنا, فإن منهج المرونة ينطوي على القبول بمراجعة المقررات الفكرية والسلوكية على مستويات العلم والثقافة معًا بما فيها مراجعة الذات, والاستعداد لإعادة النظر, وفي الأحوال التي يقتضي الأمر فيها مقاومة أفكار بعينها, يترتب تقليب الأمر على الوجه والقفا.

والتفكير المرن يضفي على الأفكار والعمليات الفكرية صفة ديناميكية, لأن هذا التفكير هو عامل تحريك لمجمل التوجهات والأيديولوجيات والمقولات, وهو يحفز الأفراد والجماعات على مراجعة الذات, ومراجعة الماضي, وتقويم الحاجز, واستشراف المستقبل.

إعلامنا.... والتصلّب

ويلاحظ أن وسائل الاتصال الجماهيري في الوطن العربي كثيرًا ما تقع في خطأ التأكيد على التفكير المتصلّب, الذي يقابل التفكير المرن من خلال نشرها الأفكار الداعية إلى إثارة الأحقاد بين الأيديولوجيات والثقافات والمعتقدات والأعراف والمذاهب. ويزيد من ذلك أن الأفراد كثيرًا ما يجنحون, في مواقف كثيرة إلى قبول أفكار دون إخضاعها للتدقيق, كما أن منهم مَن يميلون إلى تبرير مواقفهم الانفعالية, تبريرًا عقليًا, لذا تعد أفكار الكثيرين وعقائدهم وأحكامهم غير واعية, ومنهم من يظلون على استعداد للدفاع عن تلك المعاني تحت واجهات شتى في وقت يتكشّف فيه أنه ما اعتقدت جماعات أنها وحدها على حق, وغيرها على خطأ, حتى نشأت الصراعات, وقامت النزاعات وأريقت الدماء مثلما يتكشّف أيضًا أنه ما ارتقت جماعة, وحافظت على رقيّها وسلامها الاجتماعي, إلا تلك التي أمكن لها أن تأخذ بالمرونة في التفكير طريقًا في التعامل مع الموضوعات.

وهناك مصادر وعوامل وتبريرات لتسويغ التصلّب, كما أن هناك أساليب لا حصر لها لنشر التصلّب وإشاعته عبر أقنية الاتصال وأنماطه وأشكاله, وعلى هذا, فإن التعصب كطريقة للتفكير وجد على مدى العصور أجواءً توفر له الانتعاش في المجتمعات, ولايزال البشر يختلقون المكوّنات الفكرية لاستمراره دون أن يقدّروا عواقب ذلك, وما يلحقه من تحطيم للذات والآخر.

وإذا كان إعلامنا العربي كثيرًا ما يندد بالتفكير المتعصب, فإن المراجعة الموضوعية لعوامل وأخطار هذا التفكير, وكيفية التخلص منه, لم تخضع للتناول العميق. يضاف إلى هذا أن هناك أطرافًا كثيرة تنزع نزعة تسويغية لهذا الموقف أو ذاك, خاصة أن لهذه الأطراف دورًا له قدر من الأهمية في الثقافة السائدة, ولها ردود أفعالها العنيفة, فضلاً عن أن هناك مصادر وعوامل لتغذية التفكير المتصلّب, كما أن هناك أساليب مختلفة لإشاعة التعصّب ونشره على قنوات الإعلام.

وعلى هذا, فإن التصلب كطريقة تفكير هو أكثر من كونه تحمّسًا لموقف أو قضية, وهو يعمل من أجل أن يجد لنفسه أجواء توفر له الحركة, ولايزال المتصلبون يتشبثون محاولين إثارة المشكلات الفكرية دون أن يقدروا بحكمة عواقب ما يلحقه ذلك من تحطيم للذات والآخر.

التصلب والنزاعات

ومع أن هناك أدبيات كثيرة تعطي العامل الاقتصادي موقع الصدارة في إثارة النزاعات, فإن أحدًا لا ينكر ما ينتهي إليه أسلوب التفكير في التعامل مع القضايا, حيث يظل للتفكير من حيث نوعه, دور مهم في إقرار الأحكام النهائية, وبذا كانت الأيديولوجيات المتصلبة وراء الكثير من النزاعات, ووراء انفلات التماسك الاجتماعي, ووراء إحداث الفجوات في صميم الكيان الإنساني, وإثارة الأصول الإثنية والعرقية, بحيث تصبح عوامل نفرة.

وحين يتخلى الفرد عن المرونة, ويجنح إلى العناد, فإن الأمر قد يبلغ حد التطرّف في إصدار الأحكام واتخاذ المواقف, والتمادي في شدة التشبث بمضمون ثقافي, أو تفسيرات عقائدية, ويؤلف هذا وذاك خروجًا على منظورات الفكر العلمي, خاصة أن الإصرار على إبقاء أفكار أو أوضاع, كما هي دون تطوير يتنافى مع مبدأ أساس في حركة الحياة, الذي يتضمن أن كل شيء قابل للتغيير, وإلا تجاوزته تلك الحركة.

ومن المواقف المتصلبة, ما هو وليد مشكلات نفسية أو اجتماعية أو أخطاء في التنشئة, وقد أظهرت الكثير من المواقف أن هناك مَن يسايرون آخرين في تصلبهم, استنادًا إلى سمات دفينة في شخصياتهم أو إلى خبرات سابقة.

وحضور النظرة المرنة إزاء الجماعات والمعاني, يقتضي حضورًا للحرية في حياة المجتمع, كي تتوافر فرص في التعبيروالتجسيد, والدعوة إلى التغيير, وتناول القضايا بواقعية بعيدًا عن أجواء التسلط والعنف المادي أو المعنوي, حيث إنه إذا كان هناك مَن يريد الانفتاح للعقل العربي, فإن هناك مَن يريد محاصرة هذا العقل, ومنعه من الانفتاح وتقييده بألف طوق وطوق.

منهج المرونة

وإزاء هذا, يترتب أن تعمل الأجهزة المعنية في وسائل الاتصال الجماهيري من أجل بلورة وعي يستنير بمنهج المرونة, بحيث يظل هذا المنهج معيارًا يحتكم إليه, خاصة أن التصلب هو حاجز يصد كل فكر جديد, ويترك ضحاياه في معزل عن التطور, ذلك أن الافتقار إلى المرونة لابد أن يئول إلى نزعات التزمّت.

وهناك من يرى أن التجربة العربية المعاصرة لم تول انتباهًا كافيًا لأهمية المرونة, وهناك مَن يحلو له الترديد أن الفكر العربي المعاصر تأثر بأفكار أحادية بشكل أو آخر, كالفاشية والنازية والشمولية, وأن الفكرالعربي مشبّع بمواقف الانفعال.

والمشكلة هنا أن حركة الإعلام والثقافة بما فيها ما يجري على صعيد الأدب والفن, وحركة التعليم أيضًا, تنطوي على التفكير, الذي يعزز التصلب, سواء أكان ذلك على صعيد الوقائع التاريخية, أم على صعيد المقررات الدراسية, وعمليات التثقيف, إذ هي تتضمن ما يبرز مواقف العناد, والرأي الواحد, ومواجهة الآخر تحت عناوين مختلفة.

ومن جانب آخر, فإن للأسرة دورًا في إقحام منظورات التصلّب إلى شخصيات الأطفال منذ نعومة الأظفار.

وبوجه عام, فإن مؤسسات التنشئة ابتداءً بالأسرة, مرورًا بالروضة والمدرسة والمؤسسة الاجتماعية والثقافية, كثيرًا ما تمنح المكافأة لمواقف التصلّب الذي يتبلور لدى الأطفال عبر عمليات اتصالية مباشرة وغير مباشرة, يؤلف فيما بعد أبرز معوقات الاتصال الإنساني. وعلى هذا يدعو بعض المشتغلين بالتربية والاتصال, إلى أن التربية الحقّة هي التي لا تنشغل بالولاءات قدر الاهتمام بتنمية القدرات على التفكير المرن.

وإذا كان من بين مواقف التصلب ما هو ناشئ منذ الصغر, فإن منها ما هو وليد الكبر أيضًا.

 

هادي نعمان الهيتي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات