الكُتَّاب والقُرَّاء .. علاقة متوترة

الكُتَّاب والقُرَّاء .. علاقة متوترة

كلمة الأدب تثير الحيرة في عقول بعض الدارسين, يتساءلون عما إذا كان هناك شيء خاص اسمه الأدب, الأعمال الفلسفية والتاريخية واللاهوتية والأخلاقية تتداخل فيما بينها, لكن كثيرًا من الدارسين الآن لا يقرأون الكتب العظيمة, يزعمون أنها ليست أدبًا خالصًا!

تغلب علينا بعض الاعتبارات الأسلوبية, ومن ثم لا نتحدث عن جهود متفاعلة. إن الحدود ليست إلا تحكمًا مؤقتًا متغيرًا. من حقنا أن نفتح أخرى ثانية. كل شيء يغري بتجاوز مطالب فئة معينة تقيم لنفسها سلطة ذاتية, أليس من الأجدى أن نتصور بيتًا مشتركًا يتبادل أهله الحوار واللغة وتعدديات الخطاب وفجواته وإحالاته. هناك دائمًا فرصة للقتال بين النصوص, نحن شركاء في نصوص مجهولة تحتاج إلى الكشف.

لدينا أبنية صغيرة تعكف على مسألة الاضطرابات وعدم الاستقرار, ولدينا طموحات تداخلية عبر تخصصات مختلفة, لدينا تداخلات القانون والسياسة والمحادثة والصرامة. لا نريد أن نتخفف من دراسة عبء إدارة الحياة وسط تخصصات ضيقة, ولا نريد تجاهل حقائق الحوار الذي نتداوله في المجتمع. التحقق الاجتماعي للحوار أمر مهم, نحن نتوقف أحيانًا عند مستوى سطحي ثانوي أو مستوى ترفيهي أو مستوى بسيط.

إن فئات غير قليلة لا يعنيها أمر التفاعل الاجتماعي وما يسميه علماء المسلمين باسم مصالح الأمة. إن كثيرًا من الكادحين الفقراء ليس لديهم فرصة التفكير في أمر التفاعل. نحن نعلم أشياء دون أن نكترث بغيبة كثيرين عن الحوار. نحن لا نشارك في الحوار. الأكاديميون أنفسهم معزولون, الناس عاكفون على أنفسهم, والناقد لا يعنيه التوجه العملي, تعنيه مثالية أدبية لا علاقة لها بكثير من ممارسات الحوار.

هذه الممارسات قد يهددها الطابع الصناعي الذي تُعد فيه بعض الأفكار, وتوزع فيه الأدوار, ويختار الأشخاص وفقًا لبعض المعايير, وربما تصدر التوصيات قبل أن تعقد الاجتماعات.

لا يشغل الأكاديميين أمر كثير من العلاقات الاجتماعية ذات الطابع الاحتفالي فضلاً عن غيبة حوار حقيقي مع ذواتنا, والاكتفاء بالمسابقة المنمقة, والغفلة عن التراجع والاستنزاف. شغلتنا بعض الشعائر, وبرعنا في أن نعيش على وجهين, وتكاسلنا عن بحث التفاعل الغائب. نحن غالبًا نتجاهل شئون الحوار الفعلي وشئون الأصوات المتعددة والاجتهادات المتنوعة المتنافرة, وشئون الاتهام المتبادل, والشكوك والمخاوف المتبادلة, التي صنعت بواطن عقولنا. نحن نتشدق بحوار حضارات وحوار أديان قبل أن نحاور أنفسنا, وقبل أن نسيطر على زحام الخطاب. نحن نتكلم أكثر مما نعمل, وأكثر مما نصمت. لقد استهلكنا أنفسنا في الكلام الذي يبدد طاقة الفرد وطاقة الجماعة. نحن نعزف عن الاختلاط الحقيقي اكتفاء بجمل قصيرة وعناصر متفرقة, النقاش قليل, وتعاملنا الحقيقي مع اللغة لا يلقى عناية واضحة. تعاملنا الدراسي مغرق في تخصصات أشبه بالعصبية.

الخاصة والعامة قطيعة بلا جسور

نحن لا نتفاعل, والقراءة عندنا قلّ أن تكون دربة على التفاعل والمشاركة القلقة, والريب في بعض الإجراءات التخصصية, فضلاً عن الريب في كلمات تدخل خفية في ثنايا كلمات. جنى على بعض الفئات طول اشتغالها بما تسميه الخيال والجمال. نحن جميعًا نتحدث عن مآزق جماعية دون أرق. والخاصة من الناس لا يملون من حديث مفرّغ من العلامات.

نحن نبرع منفردين, ولا نبرع مجتمعين, المختصون - كذلك - لا يسمعون أصوات غير المختصين. الخاصة تتحدث دون انقطاع عن قلة اشتغال الجمهور بالمصلحة العامة, لكن الخاصة لا تعلم عن الجمهور الكثير, الخاصة تهتم بطائفة من النصوص أكثر من اهتمامها بالبشر. النصوص الآن تكاد تنافسنا - وشئون الكثافة الدلالية وفقد المرجعية والنزعة اللغوية بعامة لا تعني ألوف الألوف.

ما يعني النخبة ربما لا يعني الكثيرين, إننا نعمل, والمختصون يتكلمون, الخاصة تخاطب العامة بما لا تحتاج إليه العامة أحيانًا. كثير من العامة يُعجبون بذكاء الخاصة ثم لا يطمئنون, بين الخاصة والعامة فجوة وريب متبادل.

الخاصة تعنيها الكتابات الجديدة, والعامة تعنيها الحلول العملية, الخاصة تتمتع بقدر من الانفصال والاغتراب, والعامة تعرف هذا معرفة جيدة.

الخاصة تحرص على البلاغة لكي تسوس العامة, والعامة ترى البلاغة فنا لا تتسع له حياة الكادحين, الغريب أيضًا أن الخاصة الآن تتنكر للإحساس التاريخي الذي يجله الشيوخ من العامة.

ما يقوله الناس في المجتمع يخضع لتصفية الخاصة وأهوائها, الخاصة تحتكر لنفسها فكرة القوة والغنى, وهي الآن تمضي وراء التفكك وما إليه, هنا يتعجب العامة لكنهم لا يمضون في النقاش, كل فئة لها مصالح وقدرات على مقاومة فئات أخرى, لكننا قليلاً ما ندرس هذا. الخاصة - باختصار - تقدس الكتابة وقوة العبارة, لكن القراء يقرأون بنصف عقولهم, عامة الناس بينهم وبين الكتابة واللغة مسافة, لكن الصفوة لا تدرس هذه المسافة ولا توقرها ولا تنظر إليها نظرة عادلة. تشكو الخاصة الآن من الخلل والاضطراب الذهني واللغوي, لكنها - مع الأسف - تبرئ نفسها. الخاصة تقول منذ زمن بعيد إن البلاغة هي الإيجاز, لكن خاصة هذا الزمن لا تقتنع بالإيجاز لأن الإيجاز لا سلطان له. الخاصة تؤكد الفضول, وتعزو إليه كرامة. الخاصة لا تشفق علينا, لا أحد يعلمنا لغة بلا فن ولا ظواهر أسلوبية ذات أبهة. علم الخاصة باللغة العامة علم ضئيل. الخاصة تجر العامة جرًا نحو التفنن, والخاصة تكسب الكثير لأنها تقول ما لا يقوله الناس. الخاصة تفرض علينا فرضًا مصالح أدبية ضيقة أحيانًا.

الخاصة آخر الأمر (تتملق العامة), وتضمر شيئًا آخر. القراء يسعون إلى معرفة الخاصة لكن الخاصة لا تسعى بإلحاح إلى معرفة ما يدور في قلوبنا وعقولنا.

العامة - مع ذلك - يوقرون الخاصة توقيرًا كبيرًا لكنهم الآن يتساءلون فيما بينهم, أو يقولون في مجالسهم الخاصة أضعاف ما يعلنون.

إذا كان موضوعنا هو التفاعل, فإن ثمة صعوبات غير قليلة تجعل قلة من الناس تعطي وكثرة من الناس تأخذ أو تتردد دون ضجة. الخاصة لا تمل من الحديث خوفًا على نفسها, والعامة عن الناس يأخذون الآن كل شيء مأخذًا قريبًا. لقد وقرت في النفوس بعض الاعتقادات اليائسة, وأخذنا نستمتع بالتلفزيون والراديو أخبار الرياضة والفنانين والمشهورين ودنيا الحوادث والطرائف, لكن في النفوس عزلة وانفصالاً, لا قوة أو حوارًا. في قلوب الشباب وعقولهم قدرية أقوى مما شهدنا في أجيال ماضية, لكل واحد مشاكله وعالمه, أهدافه ومطامعه, لا وقت عنده للتفاعل. هذه الملاحظات نعرفها جميعًا, ولكن ما نعرفه جميعًا لا ندرسه ولا نتأمله بمعزل عن أهواء بعض الخاصة الذين جعلونا مادة أولية لحياتهم ونبوغهم وسلطانهم.

الكاتب قد يفترض أنه قائد ملهم مبعوث من السماء أو من المجتمع لتنويرنا وإنقاذنا. الكاتب قد يفترض أن كتابته رسالة, وأن سماعنا لما يقول واجب مفروض, كل كاتب يتظاهر بالديمقراطية, ولكن هذه الديمقراطية لا تخلو من نرجسية, الكاتب الآن هو شيخ القبيلة أو المعلم, أو الناصح الأمين أو البدر الذي تحدث عنه البحتري. الكاتب دان إلينا, لكنه شاسع عنا أحيانًا. الكاتب يتصور أنه مفرط في الغلو, وضوؤه قريب منا نحن العامة, الكاتب إذن حاكم فريد يملك ما لا يملك الحكام. هذه التصورات لا غلو فيها ولا مبالغة.

قد يكوّن الكاتب لنفسه مملكة حصينة, قد يتحدث إلينا كل صباح أو كل أسبوع, قد يبسط علينا قوته ومهارته, آراءه وخواطره.

ذلك أنه يملك الحديث, ويملك الآذان أيضًا. العامة يعرفون هذا كله, لا يناطحونه, وربما لا يمارون فيه. ولكنهم يمضون لشئونهم, وعلى لسانهم بسمة متواضعة واثقة. للعامة مكرهم المسالم الهادئ, هم غالبًا لا يقرأون, فإذا قرأوا اليوم أعفوا أنفسهم من القراءة غدًا. العامة يرون الكتابة علامة النظام الاجتماعي, نتفق عليه ثم نثوب إلى أنفسنا. لايزال أمر الانفصال والتنافس غير المعلن بين الكاتب والقارئ وغير القارئ محتاجًا إلى بحث وفكاهة وسخرية وتأمل.

لمن يكتب الكاتب الآن?! سؤال ليس من السهل الإجابة عنه. الكاتب يكتب لنا جميعًا, أو يكتب لفريق دون فريق, أو يكتب لمن يحبونه ويسخطون عليه لمن يقتنعون به ومن لا يقتنعون. الكاتب - مع ذلك - في موقف حرج لا يحب أن يعترف به, فهو مضطر إلى أن يقول ما يحب, وأن يقول ما لا يحب. المطبعة لا ترحم ولا تقبل الاعتذار.

الكاتب إذن يبدأ بطلاً ثم يستحيل مكرهًا لا بطلاً, لكنه لا يصرح لنا بشيء من ذلك. يظل يدنو ويعلو, يرضى ويسخط, ويلبس كل يوم لبوسًا. يستدرجنا ثم يسخر منا, ثم يعاود الكرة. القارئ وغير القارئ يعلمان هذا كله, وربما يحمدان الله على ما وهبا من حرية.

المهم أن القارئ والكاتب يتبادلان المحبة والسخط, يعرف كل منهما صاحبه, وينكر كل منهما صاحبه. الحياة الحديثة قوامها تعقيد أمر الاتصال والانفصال, تعقيد الجمع بين الرفض والقبول, الكاتب والقارئ يتعاونان ويفترقان. الكاتب الآن في قبضة العامة لقد وقف موقف المنتمي إلى الخاصة من الناحية النظرية, لكن قوة العامة تشتد يومًا بعد يوم, وهي الآن لا تسمح لكثير من الكتّاب بالانفصال التام عنها أو العلو عليها. الكاتب إذن سلطان في ظاهر الأمر, تابع في الحقيقة من هذا الوجه أو ذاك. لكن الكاتب لا يرضى بهذا رضا تامًا. إنه ينتقم لنفسه, ويعبث عبثًا حلوًا أو مرًا بالقراء. القراء يعلمون هذا علمًا حسنًا.

لكنهم لا يملكون أقلامًا ولا يعرفون فن الكتابة وهم يكتفون بالنظر العابر, وهم يتجاوزون هذا النظر. هم أيضًا يلعبون مع الكتاب, وهم لا يعرفون ما يعرفه الكتاب. الكتاب يفرحون بصداقة القراء, لكنهم لا يركنون لهذه الصداقة دائمًا. كذلك القراء يفرحون بصداقة الكتّاب, لكنهم أيضًا لا يثقون بها ثقة تامة في كل حال.

القارئ مستهلك ومنتج كذلك

الكاتب سلطة مجتمع, وكل سلطة تثير فنونًا متعارضة من الاستجابات, والقارئ مستهلك له قوة الاستهلاك وأثره, وله أحيانًا قوة الإنتاج وبراعته. القارئ قد يعتمد على نوع من المراوحة والسلبية القاتلة, والكاتب قد يكتب غير واثق من السمع, والقارئ يقرأ أو يعزف عن القراءة غير واثق من قوة أثره, ربما يسأم الكتاب من القراء, ويسأم القراء من الكتاب. والمجتمع قد يتعثر في هذا المكر المتبادل الذي كان يسمى في العصر القديم باسم الأخذ من كل شيء بطرف. هذا هو تسخير القراء للكتاب, وهذا هو الكاتب الذي فرض عليه تمثيل كل الأدوار أو تقمص كل الشخصيات, أو تقليب المكياج دون انقطاع. هذا يعني أن الكتاب والقراء يجفون بعضهم بعضا, حين يودّ بعضهم بعضا.

الكاتب إذن لا يطمئن إلى القراء دائمًا. الكاتب يراوغهم أحيانًا عالمًا بما يصنع, الكاتب قد يصارع القارئ, كذلك القارئ, الدور الذي يشترك فيه القراء والكتاب دور لا تضحية فيه ولا فداء, بل هو دور تجارة وربح وخسارة, وتعاقد على أن يصبر أحد الطرفين لصاحبه, وأن يتركه بعد قليل دون ندم.

أخشى ألا تكون الكتابة, في هذه الأيام, هي الممثل الرئيسي لثقافتنا, لأن للكتابة نصيبا لا يسلم له في سهولة. إننا نحفل, على الأرجح, بأشياء أخرى غير الكتابة على رأسها كرة القدم. كرة القدم تمثل نصًا مهيبًا مكثفًا حركيًا لا نصًا بسيطًا. كرة القدم نص يتألف من اللاعبين والمتفرجين والغلاة والمتعصبين, والأحاديث التي تدور بين الناس, وأخبار اللاعبين والجمهور, وضربات اللاعبين, والاختلاف أحيانًا في تقديرها, وما يقال عن النصر والهزيمة, وما ينفق من الوقت والجهد لاستيعاب الكرة, واستيعاب الحياة الرياضية, وإذاعات وفضائيات الرياضة, وحياة اللاعبين في الداخل والخارج, وأجورهم وتعاقدهم فضلاً على المسيرات الحاشدة وصنوف التعبير عن الإعجاب وازدحام الملاعب وطرائق الحكام.

كل ذلك يعني أن كرة القدم لغة تنافس الكتابة العادية, وتكاد تضيق عليها الطريق. هذا يعني أن المجتمع ربما لا يفرغ للكتابة والكتاب, ربما يتابعهم متابعة متقطعة ضئيلة لا حماسة فيها ولا خصومة ولا نقاش, ولا حيوية ولا تجمع. الناس يجتمعون حول الوسائط البصرية بأكثر مما يجتمعون حول كتابة وكاتب. الكتابة الآن ليست جزءًا حقيقيًا من حياة معظم الناس, أصبحت الكتابة غريبة إلى حد ما. مغزى هذا كله أن الناس بدأوا منذ بعض الوقت يستغنون عن الكلام واللغة, والكتابة والكتّاب, والقراءة والقراء. هناك تفاعلات ثانية أكبر الظن أنها لا تدرس, يترفع عنها الخاصة, ولا يزيد هذا الترفع الناس إلا إصرارًا واعتزازًا بنص الصورة. أخشى ألا تكون الكتابة والقراءة في حياتنا نصًا أصليًا قويًا. الكتابة والقراءة الآن أقرب أحيانًا إلى ما نسميه المتوتر نعترف به من ناحية, وننكره من ناحية.

 

مصطفى ناصف

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات