ذكريات كتاب

ذكريات كتاب

يقدم هذا المقال تجربة فريدة في كيفية نمو الفكرة في ذهن الكاتب حتى تتحول إلى عمل متكامل. وقد حرصت المجلة على إفراد صفحات إضافية نظراً لأهميتها في إلقاء الضوء على العمل الإبداعي الذي يدور في ذهن الكاتب, وترحيبا بعودة الكاتب المحمودة للكتابة بعد وقفة مع المرض.

لا أظن أن كتابًا من الكتب التي ألفتها وأصدرتها للقراء يثير في داخلي من الذكريات ما يثيره كتاب (المرايا المتجاورة) الذي صدر منذ ربع قرن. وهو دراسة نقدية عن طه حسين الناقد الأدبي ودارس الأدب على السواء. والكتاب ينتسب إلى دائرة (النقد الشارح) أو (نقد النقد), وكلا المصطلحين يشير إلى المجال نفسه من الاهتمام, وهو الخطاب النقدي الذي يصدر عن ناقد الأدب, نظرًا وتطبيقًا, ويستحق المراجعة التي تضعه موضع المساءلة للكشف عن المبادئ المحركة له, والمعايير التي ينبني عليها, والغايات التي يسعى إلى تحقيقها, فضلاً عن الأدوات التي يتوسل بها. وأخيرًا, المعارف التي يتماس معها, أو يأخذ منها بقدر ما يعطيها. ولقد سبق لي أن قلت - في مفتتح كتابي (قراءة النقد الأدبي) - أنه إذا كان الأدب كلامًا فالنقد جنس آخر من الكلام الذي يدور حول الكلام الأدبي. وقد أشار أبو حيان التوحيدي, قديمًا, إلى الكلام عن الكلام, قاصدًا إلى مستويين من استخدام اللغة, مستوى الإشارة إلى ما يقع خارجها من عوالم وأفكار ومشاهد وأحوال, والإشارة إليها نفسها.

ويحدث ذلك عندما تصبح اللغة الواصفة لغة موصوفة, وذلك في درجات متتابعة, تمامًا كالنقد الأدبي الذي هو لغة واصفة للأدب, ونقد النقد, أو النقد الشارح الذي هو لغة واصفة للنقد الأدبي, وذلك بالمعنى الذي يجعل من الكلام النقدي عن الكلام الأدبي موضوعًا لكلام من نوع ثالث, هو نقد النقد أو النقد الشارح, وهو النقد الذي يتأمل خطاب نقاد الأدب - في كليته وتعدد مجالات ممارساته - بالتحليل الذي هو اكتشاف للعناصر التكوينية والتفسير الذي هو وصل بين العناصر المكتشفة لإنطاق الدلالة الناتجة عنها, وذلك على نحو يحدد قيمة الخطاب النقدي. وفي الوقت نفسه, يحدد منظور الناقد إلى العالم بوجه عام ورؤيته للأعمال الأدبية حسب هذا المنظور بوجه خاص.

وقد جذبني نقد النقد إليه بسبب أهميته وحتمية اللجوء إليه في المراحل المفصلية التي يتغير فيها المنظور الأدبي وتتحول رؤية العالم السائدة لتحل محلها رؤية أدبية ونقدية جديدة.

ولا يمكن المضي قدمًا في ممارسة الرؤى الجديدة دون اختبار ومراجعة السابق عليها والكشف عن تأثيراته السالبة والموجبة في آن, فليس كل تغيير إلى الأفضل دائمًا. وكل تغيير يدفع إلى إعادة النظر بالضرورة فيما سبقه وفيما يمكن أن يترتب عليه. ولا شك أن غياب نقد النقد أو النقد الشارح يؤدي إلى عواقب وخيمة, خصوصا في مفاصل التغير والتحول التي تحتمه.

ويعني الغياب - من هذا المنظور - الاستنامة إلى الممارسات التي أصبحت تقليدية أو التي اكتسبت مكانة أو أهمية بحكم التقادم, ولم تجد ما يكشف عن هشاشة الأسس التي تستند إليها, فتبقى مؤثرة بالسلب, تعوق الانطلاق والحركة, وتفرض رؤى اتّباعية وتقليدًا جامدًا يكرر فيه اللاحق السابق دون إضافة ومن غير إبداع أو ابتكار.

ولقد دفعني الإيمان بهذه الأفكار إلى قراءة كتابات طه حسين النقدية والبحث عن النسق النقدي الذي يتحرك من خلاله, وذلك بقصد الكشف عن العناصر التكوينية لهذا النسق ووضعه موضع المساءلة. وقد كنت في ذلك الوقت واقعًا تحت تأثير (البنيوية) ومن ثم مهتمًا بالنسق والنظام اللذين هما البنية القارة وراء كل ممارسة كلامية وكل خطاب في النقد الأدبي أو غيره, ولا أريد تلخيص الفلسفة البنيوية في هذا المقام. حسبي القول إنها حوّلت أنظارنا - نحن النقاد - إلى البنية القارة وراء الشتات الخارجي, وعدم الاقتناع بالركام الظاهر للمعطيات, الأمر الذي استلزم الاهتمام بما وراء الركام الظاهري, وما يحكمه في الوقت نفسه. وهو النسق أو النظام أو البنية التي تنطوي على قدر من الانتظام الذاتي, الذي يسمح ببعض التحولات, لكن بما لا يخرجنا من نسق إلى غيره, أو من بنية إلى بنية أخرى مغايرة. وكان السؤال الذي طرحته على نفسي في ذلك الوقت من السبعينيات, هو: أين البنية التي تكمن وراء كتابات طه حسين, وتردّ تكثّرها إلى وحدة, وتعدّدها المراوغ إلى نسق منتظم متجانس?

ولم أصل إلى جواب سهل أو مقنع, فاكتفيت بإعادة قراءة ما كتب طه حسين وتدوين ملاحظاتي العفوية على ما قرأت.

هدية للعميد

ودخلنا إلى منتصف النصف الثاني من السبعينيات وأنا أبحث عن العناصر التكوينية لهذه البنية. وتصادف أن أقامت الجمعية الأدبية المصرية (التي كنت من أصغر أعضائها في ذلك الوقت) موسمًا ثقافيًا كاملاً عن طه حسين, تكريمًا له. وكان ذلك قبل وفاته بعامين إن لم تخني الذاكرة. وكان التكريم قائمًا على فكرة أن يتولى كل عضو جانبًا من طه حسين, وتقوم إذاعة (مع الشعب) المصرية بتسجيل كل الإسهامات وإذاعتها.

وبالطبع تحمس فاروق خورشيد - دينامو الجمعية الأدبية والمحرك لها - لإعداد هذا الموسم وتنظيمه. وكان يعمل مديرًا لإذاعة (مع الشعب) في ذلك الوقت, ويدين بالعرفان لطه حسين - شأنه شأن أغلب أعضاء الجمعية الأدبية المصرية الذين كانوا تلامذة له في قسم اللغة العربية بكلية الآداب - جامعة القاهرة -. هكذا تكلم المرحوم محمد النويهي عن طه حسين والشعر الجاهلي, وتحدث حسين نصار عن قضية الانتحال, وصلاح عبدالصبور عن أدب طه حسين, وفاروق خورشيد عن كتاباته التاريخية, وعبدالغفار مكاوي عن طه حسين والثقافات الأجنبية, باختصار أخذ كل واحد من الجيل الأقدم المؤسس للجمعية جانبًا من جوانب الإنجاز الثقافي والأدبي لطه حسين. وكلفنا - نحن الصغار أو الجيل الأحدث - بالإسهام مع أساتذتنا وأصدقائنا من الأعضاء القدامى الذين تتلمذوا مباشرة على طه حسين.

وكان تكليفي في هذا الجهد مقترنًا بدراسة موقف طه حسين من الشعر العربي الحديث, وذلك عبر مراحله المختلفة التي تبدأ من مدرسة الإحياء التي جمعت أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران ثم المدارس التي تمردت على الإحياء, وجمعت بين مدرسة الديوان (عباس العقاد وعبدالرحمن شكري وإبراهيم المازني) ومدرسة المهجر (وكان جبران وإيليا أبوماضي من أبرز أعلامها) ومدرسة أبوللو (التي رادها أحمد زكي أبو شادي وضمت أبا القاسم الشابي وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي والتيجاني يوسف بشير وغيرهم) وصولاً إلى مدرسة الشعر الحر الذي كتبه صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وكمال نشأت. وكان موقف طه حسين سلبيًا في مجمله من شعر الإحياء, وذلك لغلبة الجوانب التقليدية في هذا الشعر. أما موقفه من الشعر اللاحق فقد كان موقفًا إيجابيًا, خصوصًا الجوانب التي رأى فيها صدى طيبًا للشعر الأوربي الذي كان يقرأه من خلال اللغة الفرنسية التي كان يتقنها. ولذلك, امتدح علي محمود طه لأنه يقوم بتغريب الشعر العربي, ورأى في هذا التغريب أفقًا مفتوحًا من الوعد. أما ناجي فقد اتخذ منه موقفًا قاسيًا موجعًا, ربما لأن ناجي كتب قصيدة عن أعمى بغيض, لم يكن يقصد فيها طه حسين, لكنها كانت كافية لأن تثير حساسيته فيهاجم ديوان ناجي (ليالي القاهرة) هجومًا ساحقًا تسبب في دخول الشاعر الرقيق إلى حال من الاكتئاب, وقيل إن اكتئابه اقترن بارتباك جعله عرضة لأن تصدمه سيارة, تركت عرجًا في ساقه بعد ذلك.

ولم يبق سوى الشعر الحر. وكان موقف طه حسين منه أكثر مرونة وتسامحًا من موقف زميله عباس العقاد بالطبع. وكان العقاد يرأس في الخمسينيات وبعض الستينيات لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون (المجلس الأعلى للثقافة فيما بعد) وكان يحيل دواوين الشعر الحر إلى لجنة النثر للاختصاص على سبيل الهزء والسخرية. ولم يمنع المتعصبين للقديم من أعضاء اللجنة, حين كتبوا مذكرة شهيرة اتهموا فيها أعلام الشعر الحر بالخروج على المقدسات الدينية والخيانة الوطنية, وكانت بدايات الاتهامات صفة (القرامزة) التي كانت تعني (شيوعيين) في الزمن الناصري الذي كان أغلب الشيوعيين فيه داخل المعتقلات الناصرية يلقون أسوأ أنواع التعذيب. وكان موقف طه حسين أكثر نضارة واحترامًا من موقف العقاد, فلم يتهم أحدًا من أعلام الشعر الحر, بل على العكس, ظل يعلن أنه يناصر التجديد, ويؤكد حق الشعراء في التجديد.

الأدب والمرايا

وبالطبع ناقشت في الورقة التي أعددتها تفاصيل كثيرة لا يتسع لها المجال في الإطار المحدود لهذا المقال. وقد لاحظت (وأنا أقرأ الورقة أولاً, ثم أستمع إلى بقية الأوراق ثانيًا), تكرار كلمة (المرآة) وصفًا للأدب عند طه حسين, فمرة يتحدث عن الشعر بوصفه مرآة الأديب, ومرة يتحدث عنه بوصفه مرآة لعصره, ومرة ثالثة يجعل من النقد مرآة للأدب, ومرآة للناقد على السواء. وكان إلحاح كلمة (مرآة) في كل الأوراق المكتوبة عن طه حسين دالا ولافتًا في آن. وقد قادني هذا الإلحاح إلى تكوين فكرة استهلالية, مؤداها أن العمل الأدبي نتيجة لسبب سابق في الوجود, وصورة لأصل سابق يوازيه, ومعنى ذلك أن العمل الأدبي ينشأ عن حاجة فردية واجتماعية, ويصوِّر وضعًا من الأوضاع الفردية والاجتماعية, هذه الحاجة التي هي سبب وجود العمل الأدبي تحفظ عليه علاقته بأصله الذي نشأ عنه, وتجعل منه صورة لاحقة للوضع الذي صوَّره. وكما أن الحاجة توجد قبل ما ينتج عنها, والصورة توجد بعد الوضع الذي تصوّره, كذلك العمل الأدبي يصوّر وضعًا سابقًا في وجوده من ناحية, وينتج تلبية لحاجة اجتماعية وفردية هي سببه من ناحية مقابلة. ولذلك, فالعمل الأدبي يوجد بوصفه صورة تلفتنا - دائمًا - إلى أصلها, وبوصفه دالاً يرتد مدلوله مهما تعدد إلى السبب الذي أنشأه. والعلاقة بين الصورة وأصلها, أو بين المدلول والسبب الذي أنشأه أشبه بالعلاقة بين الصورة في المرآة والأصل الذي تعكسه أو تتكون نتيجة له, ولذلك فالعمل الأدبي مرآة متعددة الأبعاد, بمعنى أنه صورة نتجت عن أكثر من أصل, فهو صورة لمشاعر فردية حين يغدو مرآة للأديب, وصورة لمجتمع بعينه حين يغدو مرآة لعصره.

وقد دفعتني هذه الفكرة الاستهلالية - بعد تأمل طويل لها - وتقليب لها على جميع وجوهها, واختبارها, في كتب طه حسين نفسها, ابتداء من (تجديد ذكرى أبي العلاء) (سنة 1914) وانتهاء بكتاب (كلمات) (سنة 1967). وكانت النتيجة تأكدًا واضحًا من إلحاح كلمة (المرآة) على كتابات طه حسين بوصفها - أولاً - صفة للعمل الأدبي في علاقته بالأديب الذي عبر به عما في داخله, وبوصفها - ثانيًا - صفة للأدب نفسه في علاقته بالعصر الذي نتج فيه وأسهم في صياغته بطرائق غير مباشرة, وبوصفها - ثالثًا - صفة للأدب والأديب في علاقتهما بالقيم الإنسانية الثابتة التي تتحقق عندما يغوص الأديب في واقعه المتعين فيصل إلى جذره الإنساني. وهو السبب الذي يبقي الأدب الحق مؤثرًا عبر العصور, قادرًا على التأثير في القراء بالرغم من اختلاف الأمكنة والأزمنة واللغات. وكان واضحًا - من الفحص - أنه إلى جانب هذه المرايا الثلاث الخاصة بالأدب والعصر والإنسانية, هناك مرايا أخرى خاصة بالنقد والنقاد, فمادام الأدب كلامًا هو مرآة لغيره, والنقد كلامًا عن كلام الأدب فهو مرآة له من منظور الناقد. وهو في الوقت نفسه مرآة للناقد تكشف عن خصائصه الفردية التي يتميز بها.

ولولا ذلك ما اختلفت صور الشعراء من مرآة ناقد إلى غيره, وهو الاختلاف الذي يؤكد اختلاف انعكاس صورة الأدب في مرآة الناقد المتصلة بمشاعره وتكوينه الفردي وخصاله النفسية والعقلية في آن.

المرآه والمصباح

قلت لنفسي - في ذلك الوقت - إن هذه (المرايا) المتكررة في كتابات طه حسين يمكن أن تكون مدخلاً إلى قراءته ومساءلته. وقد قويت هذه النتيجة في ذهني نتيجة اطلاعي على كتاب الناقد الإنجليزي م.هـ. أبرامز (المرآة والمصباح). وهو دراسة وجدتها ملهمة في ذلك الوقت عن النظرية الرومانسية والتقاليد النقدية. وكان التقابل بين (المرآة) و(المصباح) في عنوان الكتاب تقابلاً دالاً على التضاد بين الكلاسيكية والرومانسية. فالأولى تحاكي الموضوعات وتنقل صورها كما تفعل المرآة. والثانية - أي الرومانسية - تصدر ضوءها عن الداخل الكامن في أعماق الأديب كأنها المصباح الذي يشع ضوؤه من داخله. وقد انتهى أبرامز إلى أن الكلاسيكية تجعل من الأدب عاكسًا لحقائق تقع خارج ذات الأديب أو عقله. قد تتصل هذه الحقائق بالعالم المادي (كما في الأرسطية) أو بعالم المثل أو الحقائق المتعالية (كما في الأفلاطونية) لكنها - في النهاية - تنعكس كما تنعكس الأشياء على صفحة المرآة, وتردنا صورتها المنعكسة إلى أصلها الذي تعكسه كما تردنا اللوحة إلى موضوعها الخارجي, أو المرآة إلى ما يواجه صفحتها من مدركات. وعقل المبدع أو وعيه - في الحالين - مجرد عاكس للعالم الخارجي, وذلك على نحو تنتج معه العملية الإبداعية جماعًا من الأفكار, هي صور (حرفية, أو شبه حرفية) أو نسخ من الأحاسيس والمثل.

أما الرومانسية فهي على النقيض من ذاك, على الأقل في طرفها الحدّي, فهي تجعل من الأديب حاملاً لمشاعر وانفعالات تقع داخل الذات, وتتدفق منها كما يتدفق النبع, وتشع عنها كما يشع الضوء من داخل جسم المصباح, وتصدر عن أعماق المبدع كما يصدر النبات عن الأرض, فتتشكل حركته العضوية التي تبدأ من قلب البذرة المطمورة في الباطن, وتندفع عبر الساق وعروق الأوراق, فهي حركة تندفع - دائمًا - من الداخل إلى الخارج, مصورة حركة الفعل التعبيري الذي يندفع من داخل الأديب وخارجه.

وقد سعدت سعادة غامرة وفرحت فرحًا كبيرًا بقراءة ما فعله أبرامز في كتابه الذي عثرت على طبعة جديدة له, صدرت سنة 1971 - إن لم تخني الذاكرة. وكان سبب سعادتي وفرحتي راجعًا إلى أن أبرامز جعل من تشبيهين اثنين (المرآة والمصباح) عنصرين تكوينيين يختزلان التقابل الجذري بين الكلاسيكية والرومانسية, الأمر الذي شجعني على التمسك بتشبيه (المرآة) الذي يلح على كتابات طه حسين ويمكن تحليلها على أساس من تجليات هذا التشبيه.

ولم يعكِّر علي هذه الفرحة أنني وجدت الرومانسيين العرب - مثل جبران ونعيمة وحتى العقاد والمازني من أقران طه حسين - يستخدمون تشبيه المرآة بدلالة مغايرة, ويتحدثون عن مرايا الأدب التي تعكس الداخل كما تعكس الخارج والتي تجعل من العمل الأدبي مرآة لصاحبه أو صورة لشخصيته.

وكانت قد مضت سنوات معدودة على الموسم الثقافي الذي أقامته الجمعية الأدبية المصرية, وأشعلني كتاب أبرامز حماسة واقتناعًا بإمكان أن يكون تشبيه (المرآة) مدخلاً إلى اكتشاف العناصر التكوينية التي تكوّن بها نسق كتابات طه حسين في النقد الأدبي, أو البنية التحتية لهذه الكتابات. ولكني قلت لنفسي: قبل أن تمضي في العمل عليك بمشاورة أحد أساتذتك الذين تثق فيهم. وكان أستاذي المرحوم عبدالعزيز الأهواني يسكن في الحي الذي كنت أسكن فيه في ذلك الوقت, وكنت ألتقي وزملاء لي عنده كل يوم ثلاثاء نتناقش حول قضايا النقد الجديد, وكان هو يقود حوارنا بطريقته السقراطية المحببة, وكنا نتحلق حوله, وهو مركزنا, كما يتحلق حول سقراط تلامذته ومحبوه في حوار لا تكف الأفكار الجديدة فيه عن التولّد. وأذكر في ذلك الوقت أن أستاذي الأهواني ذهب مع أستاذتي سهير القلماوي لمناقشة كتابي (مفهوم الشعر) في (البرنامج الثاني) بالإذاعة المصرية. وداعبني أستاذي الأهواني - قبل التسجيل - بقوله: أنت تعمل من الفسيخ شَرْبات. وكان يقصد إلى أنني أضع أفكارًا معاصرة على لسان النقاد القدماء. وضحك كلانا, ولم أحزن من الوصف, فقد قال الرجل عن الكتاب - في التسجيل - ما جعلني أنتشي من السعادة والفرحة بتقدير أستاذ لاأزال أجلّه وأدين له بالكثير. وقلت لأستاذي الأهواني عقب إحدى جلسات حوارنا معه: عندي شربات آخر قد يهمك أن تعرف مصدره. وذكرت له بإيجاز الأطروحة التي انتهيت إليها حول مرايا طه حسين, فقال لي: هذه أطروحة تحتاج إلى تثبت ونقاش طويل, تعال لي يوم الجمعة كي نجلس سويًا ونتحدث بالتفصيل. وبالفعل, ذهبت إليه في الموعد الذي حدده لي, وظل يستمع لي في إنصات متأمل, ولم يقاطعني إلى أن فرغت من طرح كل ما عندي, ابتداء من ملاحظتي لتكرار تشبيه (المرآة) عند طه حسين في الأوراق التي قدمها أعضاء الجمعية الأدبية في الموسم الثقافي, مرورًا بتقديم نماذج من التشبيه حتى في عناوين كتب طه حسين ومقالاته, مثل كتاب (مرآة الإسلام) ومقال (مرآة الغريبة) وهو مقال جميل عن دور الأدب والصحافة في المجتمع وضرورة حرص المجتمع المتقدم على أن يكون له بهما أو فيهما مرآة تريه جوانب السلب فيجتنبها وجوانب الإيجاب فيزيد منها. أما (مرآة الغريبة) فمأخوذة من تشبيه ورد في الشعر القديم عن الخد الأسيل الذي يشبه (مرآة الغريبة). وهي المرآة التي تعتني بها صاحبتها حين تكون في قوم غير قومها, ولا تجد من ينبئها عن جمالها أكثر من مرآتها التي تسرف في الاعتناء بها, لأنها العاكس الصادق الأمين لجمال أو قبح وجهها, والمجتمع الناهض كالمرأة الغريبة - فيما يقول طه حسين - يحتاج إلى ما يشبه (مرآة الغريبة) الناصعة التي تقول له ما يحتاج إليه في نهضته وسعيه إلى التقدم, خصوصًا حين تتغير الأحوال وتنقلب الموازين.

اختبار مصداقية

المهم أنني أفضت في شرح أطروحتي وأسهبت في عرض تفاصيلها وحججها متشجعًا بإنصات أستاذي لي وتأمله في كل ما أقول. وعندما لاحظ أستاذي أنني أفرغت من داخلي كل ما فيه, نظر إليّ, عليه رحمة الله, نظرة حانية مشجعة. وقال: لا أشجعك على المضي في تحويل هذه الأطروحة إلى كتاب إلا بعد أن نقوم معًا باختبار سلامتها, فقلت له: وكيف ذلك, قال: علينا بمراجعة كتاب (حديث الأربعاء) بأجزائه الثلاثة معًا كي نرى مصداق ما تذهب إليه.

ولم أجد في نفسي سوى الموافقة على ما قال. واتفقنا أن أذهب إليه ثلاث مرات في الأسبوع, أقرأ عليه صفحات أجزاء (حديث الأربعاء). ولم يفتني سبب اختياره لكتاب (حديث الاربعاء), فهو أصدق تمثيل لطه حسين في مراحله المختلفة. فالكتاب يضم مجموعة من المقالات كتبت في العشرينيات, ومجموعة ثانية كتبت في الثلاثينيات, ومجموعة ثالثة في الأربعينيات, ومن ثم فهو يصلح لأن يكون عيّنة مُرْضية لقياس سلامة الأطروحة.

وقد نسيت عدد الأسابيع, التي ظللت أتردد فيها على أستاذي الأهواني, وأقرأ عليه بصوت مرتفع, وهو ينصت لي, ولا يتكلم إلا إذا وردت كلمة (المرآة) في موضع تشبيه الأدب, أو النقد. هكذا مرت علينا جمل في الكتاب من مثل (إنما نتخذ الأدب والتاريخ مرآة للأمم, وسبيلاً إلى فهم حياتها العقلية والشعورية). أو (الأدب صورة لعصره ومرآة لبيئته), أو (الأدب مرآة لنفس صاحبه, وهو مرآة لعصره وبيئته), أو (الشعر في لفظه ومعناه مرآة لحياة الشاعر خاصة, ولحياة البيئة الاجتماعية, التي يعيش فيها الشاعر بوجه عام). وكانت تعليقات الأهواني على هذه الجمل لطه حسين مولّدة لأفكار جديدة اغتنت بها الأطروحة, التي عرضتها عليه, والتي تحمس لها بعد أن اختبرها معي, شأن الأستاذ الجليل, الذي ضرب مثلا لا يُنسى في الأستاذية لواحد من أقرب تلامذته إليه, وأكثرهم تقديرًا ووفاء له.

وقد زادتني تجربة أستاذي الأهواني حماسة وعزمًا على المضي, فأخذت في إعداد المادة وتصنيفها, وانتهيت إلى أن هناك ثلاثة أنواع من مرايا الأدب عند طه حسين, هي: مرآة الأديب ومرآة المجتمع ومرآة الإنسانية, وأن هذه المرايا الثلاث يمكن أن تكون بمنزلة عناصر تكوينية لنظرية الأدب عند طه حسين. وعلى هذا الأساس, وبعد أن فرغت من جمع المادة وترتيبها وتصنيفها, بدأت الكتابة, وأعددت مخططًا كاملاً للكتاب, الذي يبدأ بتمهيد مطوّل عن (المرآة ودلالاتها), وانتقلت منه إلى كتابة الفصل الأول عن مرآة المجتمع, وسرعان ما فرغت منه لأنتقل إلى الفصل الثاني عن مرآة الأديب. وأخذت - بعد ذلك - أجمع مادة الفصل الثالث, الذي ينتهي به القسم الأول من المشروع بعنوان (مرايا الأدب), وهو القسم الذي يسبق منطقيًا القسم الثاني عن مرايا الناقد.

وكان طه حسين خلال تعاقب السنوات, وانشغالي بالأطروحة, فكرة واختبارًا وإعدادًا وكتابة, قد دخل مرحلة المرض الأخيرة, وتوفاه الله في نهاية شهر أكتوبر سنة 1973. ومصر كلها تحتفل بانتصار أكتوبر, وخرجت جنازته من الجامعة, وشاركت فيها, فقد كنت - مع زميلي أحمد مرسي - نحمل الأوسمة, التي حصل عليها طه حسين, وسارت الجنازة من حرم جامعة القاهرة إلى (كوبري الجامعة), وتمت الصلاة على الجثمان في مسجد صلاح الدين, الذي يواجه نهاية (كوبري الجامعة), من ناحية النيل. وكان طبيعيًا أن تحتفل كلية الآداب بذكرى طه حسين الأولى, بمؤتمر أسهمت في إعداده, وكان عميد الكلية في ذلك الوقت أستاذي الدكتور حسين نصار - أطال الله عمره - وقد قدمت في المؤتمر المصاحب للاحتفال بحثًا عن الاستجابات النقدية عند طه حسين, أظهرت فيه دينه للنقد الفرنسي, الذي أخذ عنه وظل مدينًا له. وكان البحث بعض مشروع كتاب (المرايا المتجاورة), الذي بدأت صورته في التكامل على صفحات الأوراق, التي كنت أعاود كتابتها مرات ومرات, إلى أن أطمئن إلى ما وصلت إليه بعد مساءلة قاسية للنفس والكتابة.

وانتقل حواري حول مشروع الكتاب مع أستاذي عبدالمحسن بدر, الذي كان نافرًا من البنيوية, حريصًا على البعد الاجتماعي في الأدب. وكانت مساءلاته النقضية للأفكار التي أكتبها مفيدة إلى حد بعيد, فقد كانت بمنزلة اختبار آخر لسلامة المنطلقات والعمليات الإجرائية, والممارسة المنهجية. ولكن ما كان أكثر ما تختلط حواراتنا عن طه حسين بحواراتنا حول السياسة, فقد أخذت مصر تدخل في السنوات الصعبة, التي تزايدت حدّتها, بسبب سياسة السادات, وطريقته في إدارة البلاد, ومواجهة المعارضة, وعلى رأسها معارضة الجماعات الدينية, التي استعان بها وتحالف معها للقضاء على المجموعة اليسارية والناصرية, فأعطاها الفرصة الذهبية, التي استقوت معها, وانقلبت عليه بعد شعورها بالقوة, وذلك في السياق المتصاعد من الأحداث, الذي شهد إلغاء السادات لمعاهدة الصداقة المصرية - السوفييتية في مارس 1976, وثورة الخبز في مصر, التي أسماها السادات ثورة الحرامية في يناير 1977, وصدمة زيارة السادات للقدس في نوفمبر من العام نفسه.

وأضف إلى ذلك, الآثار المؤلمة للاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني في مارس 1978, وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد من قبل السادات وبيجن ووساطة كارتر في سبتمبر 1979. وهي الأحداث, التي تصاعد في سياقها نمو المجموعات الدينية المتطرفة, سواء في انقلابها على السادات بعد التحالف معه, أو محاولة القضاء عليه, وهي المحاولة, التي نجحت باغتيال السادات في أكتوبر سنة 1981.

نقل من الجامعة

كنت أحاول الفراغ من كتابي وسط هذه الأحداث المتلاحقة, التي أبعدتني عن العمل أكثر من مرة. ولكني نجحت, أخيرًا, في الفراغ من الفصول الأولى بعد التمهيد. وكان ذلك في شهر أغسطس 1981, الذي تعودت أن أستغله مع الشهر السابق عليه - يوليو - في التفرّغ التام لأبحاثي الجامعية. وكان التفرّغ كاملاً هذه المرة لطه حسين. وانتهى أغسطس, وعدنا إلى الجامعة, ولكن سرعان ما اكفهر الجو السياسي, وأصاب السادات ما أصابه, فوضع رموز المعارضة له في المعتقلات. وجمع الأساتذة غير المرضيّ عنهم من نظامه في سلة واحدة, وألقى بهم خارج الجامعة, التي وهبوها حياتهم.

هكذا, تلقيت في الثامن من شهر سبتمبر خطاب النقل من الجامعة حمله إليّ في منزلي الدكتور محمد الجوهري, أستاذ علم الاجتماع, الذي كان وكيلاً للكلية, وكان حسين نصار العميد, قد رفض التوقيع على الخطاب بالاستلام, وإبلاغي - أنا تلميذه, الذي ينزله منزلة الابن - بمحتوى الخطاب الموجّه إليه من رئيس جامعة القاهرة في ذلك الزمان الدكتور حسن حمدي. وكان الخطاب المكتوب عليه كلمة (سري) على نحو يلفت الانتباه - يبلغ حسين نصار - بعد التحية الطيبة - أنه (تنفيذًا لقرار السيد رئيس الجمهورية رقم 490 لسنة 1981 بنقل بعض السادة أعضاء هيئة التدريس والمدرسين المساعدين والمعيدين إلى جهات خارج الجامعات. أبعث إلى سيادتكم بصورة من قرار السيد الأستاذ الدكتور وزير الدولة للتعليم والبحث العلمي بتحديد الجهات, التي ألحقوا بها تنفيذًا للقرار الجمهوري سالف الذكر, برجاء التفضّل بالإحاطة والعمل بمقتضاه).

وقد عمل حسين نصار العميد, الذي لا يريد إغضاب السلطة بمقتضى الخطاب, فأرسل إلى منزلي وكيل الكلية محمد الجوهري, لمعرفته بالصداقة, التي تربطني به. وتسلّمت الخطاب, الذي أحتفظ به إلى اليوم من الدكتور الجوهري, الذي حاول تعزيتي, وتظاهرت أمامه باللامبالاة, وكان ترتيب اسمي الثالث في القائمة بعد صديقي حسن حنفي, الذي نقل إلى وزارة الشئون الاجتماعية, وعبدالمنعم تليمة, الذي نقل إلى وزارة التأمينات الاجتماعية, وبعدي أستاذي محمد عبدالمحسن طه بدر, الذي نقل إلى وزارة التعمير, وتلميذي السيد البحراوي, الذي نقل إلى أمانة الحكم المحلي, ونصر حامد رزق (أبوزيد), الذي ذهب إلى وزارة الشئون الاجتماعية, وصبري المتولي, إلى أمانة الحكم المحلي, والدكتورة أمينة رشيد, التي نقلت إلى وزارة السياحة, لأنها - فيما يبدو - كانت في قسم اللغة الفرنسية, ورأى العبقري, الذي صاغ القرار أنها أصلح للسياحة منها للجامعة.

وتعاقبت الأيام الكئيبة, التي أعقبت القرار, وشهدت فيها من ضروب الخسّة والنذالة ما لا يمكن نسيانه, إلى أن جاء شهر أكتوبر, واغتيل السادات بأيدي الذين مدّ إليهم يديه, طالبًا عونهم للقضاء على خصومه, فكان أشبه بمن ربَّى أفعى في صدره. وكان عليّ أن أذهب إلى هيئة التأمينات والمعاشات الشهيرة في ميدان (لاظوغلي) بالقرب من السيدة زينب. ويبدو أنه كانت هناك توصية خاصة بمعاملتي, فقد أخبرني اللواء المسئول عن الأمن في الهيئة أن أنوّره يوميًا, ابتداء من التاسعة صباحًا, وذلك في تعبير مهذب عن ضرورة الحضور, وكان عليّ تنفيذ الأمر, صاغرًا صابرًا إلى أن أجد مخرجًا.

وجاء المخرج من المحنة بمأساة اغتيال السادات, التي أربكت النظام كله. وسرعان ما جاء الرئيس مبارك, وأخذ يستعد للقيام بمصالحته الوطنية الشهيرة. وبالطبع, أغلقت أوراق العمل في كتاب (المرايا المتجاورة), وقررت تأجيل استئناف العمل, إلى أن يجعل الله لي مخرجا. وجاء المخرج بواسطة مصادفة سعيدة, عرفت فيها الصديق عطية عامر, الذي حاول العودة إلى مصر, بعد إقامة طويلة في السويد. لكن السنة التي قضاها في القاهرة, أقنعته بالعودة من حيث جاء, فعاد الرجل إلى السويد, واستأنف عمله الجامعي هناك, وأصبح رئيسًا لقسم الدراسات العربية. وجاءتني دعوة من جامعة استوكهولم - بفضل هذا الصديق العزيز - للعمل أستاذًا زائرًا بها. وبذلت محاولات عدة, إلى أن حصلت على موافقة بإجازة دون راتب من هيئة التأمينات (تصوّر?!). وخرجت من القاهرة بعد اغتيال السادات, الذي لم أملك سوى الحزن عليه, والقلق على ما يمكن أن يترتب على اغتياله.

وفي عاصمة السويد, استقر بي الحال مغتربًا, منفيًا باختياري, بعيدًا عن الجامعة, التي أحبّها. وبعد أن هدأت أحوالي النفسية, قررت أن أستغل الوقت والمكتبات المتاحة في الانتهاء من كتاب (المرايا المتجاورة). وعاودت العمل فيه بهمة عالية, ربما لأهرب بالعمل من الإحباط الذي انتابني, ومشاعر القلق على أسرتي, التي تركتها ورائي, منتظرة معونتي المالية. وفرغت في أسابيع من الفصل الأخير من القسم الأول عن (مرايا الأدب), وانتقلت إلى العمل في القسم الثاني من (مرايا الناقد), وكانت خطتي أن أطبّق على نقد طه حسين ما حاول تطبيقه على الأعمال, التي سعى إلى أن يستخرج منها ما تعكسه من مشاعر فردية لأصحابها, وسعيت إلى أن أقوم بالأمر نفسه, وأقرأ نقد طه حسين بوصفه مرايا لأفكاره, فأعددت لفصل مستقل عن (الأدب النقدي) أرصد فيه مظاهر إيمان طه حسين, بأن النقد الأدبي هو أدب وصفي, تجمعه بالأدب الإنشائي (أي الشعر والقصة والمسرح), رابطة الأدب, التي تجعل من الناتج تعبيرًا عن وجدان صاحبه وعقله. ولذلك قال طه حسين إن (النقد مرآة صافية واضحة كأحسن ما يكون الصفاء, والوضوح والجلاء. وهذه المرآة تعكس صورة الأديب نفسه, كما تعكس صورة الناقد). وقد حاولت في الفصل الثاني, الذي جعلت عنوانه (طبيعة الحديث النقدي), أن أرصد الملامح الدالة على (نقد) طه حسين من حيث هو مرآة له, فتوقفت عند حديث الأصدقاء, الذي يدخل فيه مع القارئ, وانتقلت منه إلى (الأنا الطاغية), التي ينطوي عليها حديث طه حسين مع القارئ, ومنها إلى تقلب الخطاب النقدي بين ثنائية الحب والكره, نتيجة النزوع التأثري الغالب على النقد الأدبي, ومنها إلى الحيرة التعبيرية, التي يلجأ إليها الناقد التأثري - وكان طه حسين ناقدًا تأثريًا - عندما يشعر بعجز الكلمات عن وصف إحساسه بالعمل الأدبي, شأنه في ذلك شأن الأديب, الذي يتوجع من قصور الألفاظ في الوفاء بالتصوير الدقيق للمنحنى الخاص بانفعالاته.

إلى قصر الثقافة

وأذكر أنني بعد أن انتهيت من كتابة القسم الخاص بالحيرة التعبيرية - في مدى الكشف عن الخصائص الأسلوبية للناقد التأثري, الذي انطوى عليه طه حسين - وأخذت أستعد لكتابة القسم الأخير من الفصل والكتاب معًا, ولم تكن ملامحه قد اكتملت في ذهني تمامًا. ولما أتعبني التفكير في تعيين هذه الملامح, خرجت ذات يوم للتريّض, والاستمتاع بمباهج المتع الفنية والثقافية, التي تمتلئ بها مدينة استوكهولم, العامرة بمكتباتها ومسارحها وسينماتها, ومفاهيمها, وقاعاتها الفنية. ولم أشأ أن أذهب إلى السينما أو المسرح, فقد كنت حريصًا على العودة لمتابعة العمل, فقررت أن أمضي في جولة على قدميّ, وقادتني قدماي إلى الميدان الرئيسي في مدينة استوكهولم, وكان مسكني - في المركز الجامعي - قريبًا منه. وذهبت إلى الميدان, وتوقفت عند قصر الثقافة, الذي يتوسطه الميدان, وأرجو أن أرى مثله, يومًا, في كل عاصمة عربية, فهو مبنى ضخم, متعدد الطوابق, به مكتبة بصرية وسمعية مذهلة. وانتقلت من طابق المكتبة, إلى الطابق الذي تحته, وهو مخصص للأنشطة الإبداعية والدرامية, وبخاصة التجريبي منها. وقادتني قدماي إلى قاعة مستطيلة جدرانها, مغطاة بالمرايا, التي شدّتني - أنا الغارق في (المرايا المتجاورة) - فدخلت القاعة التي لفت نظري فيها - إلى جانب المرايا - أنها تضم عددًا من أجهزة التلفزيون, الذي تنقل شاشته ما يجري في مقدمة القاعة. ولفت انتباهي في مقدمة القاعة لوحة ورقية فارغة بعرض الحائط وارتفاعه. وقد تناثر بعض الحضور على كراسي القاعة المحدودة, والمصممة بحيث يرى كل جالس ما يحدث أمامه في مقدمة القاعة, وعلى شاشة التلفزيون (جهاز العرض الذي يواجهه). وجلست أنتظر عرضًا مسرحيًا طليعيًا. لكن جاءت المفاجأة بدخول غادة حسناء معها أكثر من دلو مليئة بأصباغ مختلفة, وفي إحدى الدلاء فرشاة مما يستخدمه النقاشون في النقاشة. وإلى جانب الدلاء كان جهاز تسجيل ضخم, وإلى جانبه أشرطة موسيقية عدة. ووضعت الغادة الهيفاء أحد الأشرطة في جهاز التسجيل فاندفعت الموسيقى في القاعة كالنسمة الطرية, مع تموّجات اللحن, الذي يعلو وينخفض, وأمسكت الغادة الهيفاء بالفرشاة, وصارت تخط بها على اللوح الورقي الموضوع بعرض الحائط ما ترى أنه يتجاوب وتموّجات اللحن, ومضت في ذلك إلى أن انتابتها الحماسة, فنقشت بالفرشاة على الجزء الأعلى من ملابسها, واستمرت في اندفاعها مع حركة اللحن المتصاعدة, إلى أن عادت الموسيقى إلى الهدوء, وفرغ اللحن. وبعد أن انتهت, طلبت من أقرب الجالسين إليها أن يفعل مثلها, فقام أحد الحضور وفعل مثلها. وانتقلت الأدوار من جالس إلى غيره, بلا تمييز بين رجال ونساء. وكل ذلك وأنا مستمتع تمامًا بالمشهد والعرض. ولكن فجأة انتبهت إلى أن الدور اقترب مني, وأنني لابد من أن أؤدي مثل السابقين, وأحذو حذوهم. وطبعًا, أصابني الخوف والخجل, فكيف أقوم بما قاموا به بلا خجل, وأنا الذي اكتمل تكويني في ظل ثقافة تضع الخجل في درجة عليا من درجات سلم القيم. ولذلك لم أكن على استعداد لأن أقوم بما حسبته (قلة قيمة), وقررت الخروج من القاعة على الفور. واندفعت خارجًا, تلاحقني صيحات غاضبة من الحاضرين والحاضرات, الذين رأوا في انسحابي إخلالاً بالتعاقد المضمر بيني وبينهم. ولم أتنفس الصعداء, إلا بعد أن خرجت في الهواء الطلق, وانطلقت عائدًا إلى مسكني.

لكنني - طوال الطريق - ظللت أسترجع المشهد كله, وأقوم بتحليل ما فعلت من هروب. وقلت في نفسي: واضح أن هناك اثنين على الأقل في داخلي, أولهما العقل المتحرر المفتوح على المغامرة. وثانيهما الوعي الشرقي, الذي لا يفارقه الشعور بالخجل, ولا يجرؤ على أن يتعرّى بالكلمة أو الحركة أمام الآخرين. وانتهيت إلى أنني منقسم بين هذين الاثنين, وأن الذي انتصر في الموقف, الذي خرجت منه هو صاحب الوعي المنغلق المتردد. وقد أعادتني هذه النتيجة إلى طه حسين, واكتشفت على نحو مفاجئ أنه يمكن جدًا أن يكون قد عانى مثلما عانيت في مجالات موازية أو مختلفة, فليس من الممكن - ولا من المعقول - أن ينسى هذا الأزهري أزهريته تمامًا, وأن يمحو تمامًا من وعيه العباءة الأزهرية, التي أحاطت جسده ووعيه لسنوات.

وتذكرت - في هذا السياق من تداعي أفكاري - ما ذكره طه حسين في أحد مقالاته, التي كتبها في الخمسينيات أو الستينيات. فلم أعد أذكر على وجه التحديد, من أنه (ساقط بين كرسيين, كما يقول الفرنسيون), فهو محافظ في نظر البعض من شباب الأدب, ومتحرر في نظر البعض المقابل من مشايخ الأدب.

وعدت إلى مسكني, وأخذت أعاود قراءة كتابات طه حسين. ومع ظهور صباح اليوم الثالث تجمعّت لديّ مادة كافية كتبت بها القسم الأخير من الكتاب كله, وهو بعنوان (الحيرة المعرفية). وكنت - ولاأزال - أقصد بهذه الحيرة إلى التذبذب بين نقيضين في الاستجابة إلى ما يخالف تمامًا ما تعود عليه طه حسين في ثقافته. وما بدا له صادمًا في جدته, أو محيرًا في اختلافه, رصدتها بما أنهى كتابي, وبما كشف عن دخيلة نفسي, وطبيعة استجاباتي في مدينة استوكهولم الجميلة, التي حنت عليّ في أيام قاسية, وأتاحت لي جامعتها من راحة البال, وهدوء الخاطر, ما أعانني على الفراغ من كتاب (المرايا المتجاورة: دراسة في نقد طه حسين). وكان طبيعيًا أن أهديه إلى الجامعة, التي أنتمي إليها - وهي موجودة - وإلى الجامعة التي أحلم بها, والتي لم توجد بعد, ولعلها لن توجد في حياة الجيل الذي أنتسب إليه

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات