بيروت في ذاكرة الرواية اللبنانية

بيروت في ذاكرة الرواية اللبنانية

البحث عن بيروت في الرواية اللبنانية, أو في ذاكرة الروائيين والرواة, يحيلنا مباشرة إلى المرجع الذي انطلق منه الفعل الروائي, والذي من المفترض أن ينتهي إليه فعل القراءة أيضًا.

بيروت شاخصة في العديد من الروايات, إن لم يكن في كل الروايات اللبنانية, التي صدرت في الربع الأخير من القرن الماضي, و سمّيت بروايات مرحلة الحرب في لبنان. ومن مفارقات الواقع الأدبي اللبناني أن الرواية ازدهرت عندنا في غفلة من هذا الواقع المنشغل حينها بسجالات محورها الشعر أكثر من أي نوع آخر, وفي وقت كانت العاصمة بدأت تنهار وتتفكّك: انهيار عمران مديني مرجعي في مقابل تشكّل عمارة نوع أدبي يدّعي أكثر من غيره من الأنواع الأدبية محاكاة الواقع. ومثلما دفع النزوح السوسيولوجي الأهالي إلى المدينة-العاصمة فاحتلوا ضواحيها, دفع الروائيون أبطالهم نحو المدينة كنقطة بلوغ قصوى. غير أن أبطال الروايات, مثلهم مثل الأهالي الحقيقيين, توقّف نزوحهم عند تخوم المدينة وأسوارها الوهمية.

في روايات المحدثين أو من سبقهم ومهّد الطريق لهم, شكّلت بيروت على الدوام مكانًا روائيًا إشكاليًا يصعب على أي كان ضبط ملامحها ومكوّناتها. ولعلّ تجربة الرواية كانت بحدّ ذاتها محاولة - ولاتزال هذه المحاولة مستمرة - للاقتراب من هذه المدينة الهاربة والمتباعدة. فبيروت مكان لتفتّح الذات الفردية ونضجها المستقلّ والمتحرّر, ومكان تتصادم فيه سلوكيات مختلفة وأحيانًا متناقضة, ومكان نهجره أو نهاجر إليه, ومسلك نعبره لأمكنة أخرى, ومكان نقف عند تخومه عاجزين عن بلوغ مركزه. وفي كل هذه الحالات بيروت حاضرة وغائبة في آن. وإذا تمكّن مؤرّخ مثل سمير قصير من كتابة قصة بيروت وتحولاتها عبر التاريخ, إلاّ أن المدينة بحدّ ذاتها تفتقد إلى ذاكرة سردية وقصّة خاصة بها تحكي حكاية أهلها وتحوّلاتهم, على الرغم من أنها تحتضن قصص من أتوا إليها.

لذا كان لبيروت في الرواية اللبنانية موقعٌ إشكالي, متعدّد الوجوه بتعدّد الروايات والروائيين. لها مكان مركزي, لا في الحبكة الروائية تحديدًا, بل في ذاكرة الرواية. وإذا قصدنا الروايات لنسألها عن بيروت, وعمّا تمثّله هذه المدينة في خيال الشخصيات واستيهاماتهم, فغايتنا الوصول لا إلى تكوين معرفة أنثروبولوجية أو سوسيولوجية عن بيروت, بل إلى معرفة شكل الرواية اللبنانية, وعناصر تكوينها الخاصة, وخلفية موضوعاتها المرجعية.

المكان الإشكالي

(خذني إلى بيروت) (118و119), عبارة تردّدها كاميليا, إحدى بطلات (باء, مثل بيت... مثل بيروت) لإيمان حميدان يونس, فيما ترى شخصية أخرى, ملّت التنقّل بين بيت أهلها وبيتها الزوجي في منطقتي بيروت, أن (أفضل الأماكن هي الطريق التي تصل بين المكانين (...). حيث لا بيوت, حيث لا فائض انتماء, حيث لا وجوه محدّدة اللون والهوية. حيث العيون لها لغة أخرى...) (48), فتتمنّى لو تبقى هناك طيلة حياتها, معلّقة بين مكانين, صانعة لنفسها مكانُا ثالثًا. ولكن سرعان ما تلاحظ أن (هذا المكان هو الأكثر هشاشة, وهو الأكثر تعرّضًا للانكسار) (48).

هذا المكان الثالث, ارتآه أبطال (غناء البطريق) لحسن داود, خارج المدينة, في منطقة محايدة, تفصله عن المدينة طريق الرمل. وهو مكان لا اسم له, يحيط به الغبار والسكون. خارج المدينة ولكن على مسافة منها تتيح للأبطال رؤيتها وهي تتبدّل وتتشكّل من جديد... ومن بعيد. من ذلك البعد الذي يسمح لهم بزيارتها من وقت لآخر للتأكّد من حالها والاطمئنان إلى أن لذاكرتها مكانًا لا يزال قائمًا.

في (مريم الحكايا), بيروت هي المكان الذي ينطلق منه مشروع رواية تناثرت أوراقها في الطرقات الموحلة, وحكاياتها في دروب قرى الجنوب, وأحداثها في ذاكرة أهلها وترحالهم المستمرّ. تبعت حكايات (مريم) أهل الجنوب إلى حيث يحلّون وإلى حيث يغادرون. من هؤلاء من أتى إلى المدينة, واتّكأ على أطرافها الواطئة ليطلّ كغريب على حياة مختلفة, فيما هو يواصل حياة بدأت في الريف حيث لا تزال الجنيات تسيّر شئون الناس وشجونهم.

في أطراف هذه المدينة التي اسمها بيروت وضواحيها الفقيرة, تتكدّس مجموعات من الناس حملوا معهم قصصهم وأخبارهم. فمنهم النازحون, ومنهم اللاجئون, ومنهم الزوّار. ولكنهم كلهم غرباء على ما يجري داخل الأسوار الخيالية للمدينة. إنهم ساكنو المدينة السلبيون, لا أعضاؤها الفاعلون.

في (أيام زائدة) لحسن داود, تحمل ذاكرةٌ متهافتة ساكنَ المدينة المسنّ والذي ضرب فيه الخرف, إلى الريف الذي أتى منه, فتتشكّل حياته المتخيّلة والمستعادة تفاصيلها المفكّكة لتنتظم في مشاهد ليس للمدينة فيها أي قسط أو دور. أما في (بناية ماتيلد), فيصطدم خيال النازحين وتصوراتهم بأشكال ناس غريبين وبيوتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم. في خط التماس هذا الذي تمثّله (بناية ماتيلد), يتجاور بشر ذات أصول ومشارب مختلفة من دون أن يتداخلوا أو يتفاعلوا, ينظر بعضهم بعضًا من دون أن يتمكّن النظر من اختراق جدار الأجساد الفاترة وغير الانفعالية. الأمر نفسه يحصل في (سكان الصور) لمحمد أبي سمرا, حيث التساكن بين أناس جمعتهم ظروف ومصادفات تكوّن المدينة الحديثة, لا يتعدّى كونه مجرّد تجاور جبري لفضاءين من العادات والقيم لا يلتقيان - وإن أدّى التجاور في بعض الحالات إلى اشتعال رغبات شبقية يتحقّق بعضها.

لا تبلغ الذاكرة الروائية ما يمكن تسميته عمق بيروت, وإنما تتسلّل من جوانبها وأطرافها إلى عوالم وفضاءات موجودة خارجها, خارج زمانها ومكانها, خارج تشكيلتها الاجتماعية. هذا, وعلى الرغم من أن الذاكرة التي تحملها الشخصيات الريفية المنشأ تعبّر في العديد من الروايات عن توق إلى المدينة كمجال للانعتاق, كما هي حالة ريّا في (ريّا النهر) لجبّور الدويهي. بيروت هي المكان الذي يحلو فيه للأبطال تذكّر الريف الذي أتوا منه - ليس في روايات إملي نصر الله فقط, بل عند معظم الروائيين المحدثين - هذا الريف الذي يحتضن وحده ذاكرة تحمل مخزونًا لا ينضب من الأحداث والقصص. غير أن بيروت هي أيضًا المعبر المحتوم, والمحطّة التي لا بد لأبطال الروايات الريفيين من اجتيازها, في تنقّلاتهم وأحلامهم, مثلما كان بطل (يوسف الإنكليزي) لربيع جابر يتوقّف فيها لدى هجرته إلى لندن وعودته إلى قريته, ثم معاودة الهجرة ثانية إلى (العالم الأكبر).

أما عندما يكون البطل من أهل بيروت كما في رواية الياس خوري (يالو) - وهي بالمناسبة أكثر الروايات التصاقًا ببيروت لأكثر الروائيين علاقة بها ربما - فيتمّ الدخول إلى قلب هذه المدينة من أكثر نواحيها هامشية و طرفية, من مساحات الوافدين إليها ممن يسمون بالأقلّيات. يبدو أن في خيال إلياس خوري, تختلف نواحي القصّة ومنابعها عن نواحي المدينة ومنابعها, وحربها وسلمها. وإذا كان هناك من تقاطع بين القصّة والمدينة في محطّات عديدة من رواياته, فهذا التقاطع هو لحظة انفصال الذات عن المدينة. فوداد الشركسية تنسى, مع بدايات الحرب, اللغة العربية التي لا تعرف غيرها, لتعود وتتكلّم لغة أجدادها التي لم تتقنها أصلاً (مملكة الغرباء, 94), ثم تذهب (إلى المكان الوحيد حيث الذاكرة, (حيث) الحرب, لتموت على طريق الشام, قرب مدخل البرجاوي) (مملكة الغرباء 94و95), أي على خطوط تماس وانفصام المدينة, حيث الحياة مزيج من الموت والنسيان. في لحظة اندلاع الحرب, تعود وداد الشركسية, مثلها مثل كل أبناء طوائف العاصمة, لتتكلّم لغة أجدادها, ولتموت باتصال مع الطوائف الأخرى وبانفصال عنها.

خيط الذاكرة الرفيع يقود يالو أيضًا - الذي عايش المنطقتين, الغربية (المصيطبة) والشرقية (عين الرمّانة), وحارب في صفوف مجموعة الـ(تيوس) على خطوط التماس - إلى خارج بيروت, إلى القامشلي حيث مسقط رأس أجداده, وليس إلى قلب بيروت التي, وإن حارب في شوارعها وانخرط في أحد مشاريعها السياسية والاجتماعية, بقي غريبًا فيها, وبقيت المدينة عصيّة عليه وعلى حبّه.

في محاولتها لضبط ذهنية الحرب وتأثيرها على الذين كانوا يومًا من فاعليها الصغار (الشبيهين بـ(يالو)), تلقي نجوى بركات شخصياتها المشوّهة في (يا سلام), في شباك زمن السلم وفضائله الغريبة. إلاّ أن قصص هؤلاء تدور في أطراف المجتمع السلمي, وليس في مركزه. إنهم بقايا هذه الحرب ومن فضلاتها, تشدّهم خيوط غليظة إلى الماضي على الرغم من محاولاتهم الإفلات منه بوسائل مختلفة, منها تغيير أسمائهم. ولكن جهودهم ستبوء بالفشل, وستبقى بيروت مغيّبة.

لا تكفي الإشارة إلى أسماء بعض الشوارع والساحات والمناطق, أو استحضار حوادث وتواريخ, لكي يتمّ إحياء مدينة ما روائيًا. في هذا المجال تشكّل رواية جبّور الدويهي الأخيرة (عين وردة) مثالاً لبقاء المدينة مساحة خارجة عن الرواية, فلم تدخلها ولا دخلت الرواية إلى المدينة ومسامها, وذلك على الرغم من انتقال بعض (آل الباز) إليها والسكن في أحيائها الراقية (شارع عبد الوهاب الإنكليزي). تدور القصّة في بيت ريفي ذي جذور متأصلة في الأرض وفي الذاكرة, أما المدينة, فلا وجود فعليًا لها, يُنظر إليها بخشية من مسافة ومن عل وهي تمد زحفها البطيء باتجاه الجبل. فالمدينة مجرّد جزء من خطاب استيهامي.

في واحدة من أجمل الروايات التي صدرت في السنوات الأخيرة وتمحورت قصّتها حول مسألة البحث عن الجذور والهوية, (ليرننج إنجليش) لرشيد الضعيف, لم تشكّل المدينة إلاّ متّكأً لذاكرة ترحل بالبطل, (رشيد), إلى قلب قريته وتركيبتها الاجتماعية ونظامها الأخلاقي, بحثًا عن أصوله الجينية, والتأكّد من هويته الملتبسة.

أما عند الروائيين الذين سبقوا جيل الحرب وهيّأوا له, مثل إملي نصر الله ويوسف حبشي الأشقر, وأسهموا, في العقود التي سبقت, تأسيس الرواية الجديدة, فقد بقيت بيروت المكان الذي تتبلور فيه قصص الريف. لم تنجح الشخصيّات في الانخراط في آلية المدينة وبقيت على هامشها. وعلى الرغم من حضور المدينة بكل مظاهرها في صفحات بعض الروايات, ولاسيما ثلاثية يوسف حبشي الأشقر, وفي سلوك شخصياتها (الأحياء, الترامواي, السوق العمومية, مقاهي منطقة الزيتونة, الساحات, المحال, الخ.), فإنها بقيت غائبة كجسم حيّ, وكبنية خيالية صالحة لعمارة الرواية كنوع. لم تشكّل المدينة عنده إطار القصّة ولا بيئتها, إذ استقرّت حركيّتها في داخل أناس أتوا من جوار المدينة حاملين معهم - على غرار شخصيات الروائيين الذين أتوا بعده - همومهم ولاسيما همّ الدخول إلى عالم مدينة حديثة, وفكّ ما تبقّى من روابط مع الجذور.

مع إملي نصر الله, بقيت القصص تدور في إطار ريفي. وما إن بلغت المدينة مع (تلك الذكريات), حتى عادت إلى الريف في (الجمر الغافي). فالمدينة - وإن شكّلت أفق حركة الشخصيات وسلوكهم - مكان متموّج الأبعاد لا يتعدّى دورها إبراز تناقضات نافرة بين عالمها القيمي والمسلكي وعادات القرية وسلوكياتها, إضافة إلى كونها الفضاء الذي تتحرّك فيه ذكريات القرية.

المدينة الغائبة

في كل هذه القصص, بيروت غائبة كمدينة وكتشكيلة اجتماعية. فكل الروايات تقف عند حدود هذه العاصمة العصيّة, أو تحكي قصص من نزحوا إليها, وتوقّف نزوحهم عند تخومها, عند أسوارها الخيالية والمادية. وإذا ما أراد روائي أن يجعل من بيروت وحدها فضاءً لأحداث رواياته, فعليه, كما فعلت هدى بركات في (حارث المياه), أن يمحو المدينة كليّا, لكي يتحرّك بطله وحيدًا - مثل الإنسان البدائي - في دهاليز المدينة المظلمة متذكّرًا ماضيه, ومستحضرًا فصولاً منه, ليقتات منها ويستمرّ في باطن مدينة لا تحكي إلاّ غيابها.

قد يطول بنا التجوال لاستخراج دلائل تثبّت دلالات غياب بيروت في الرواية اللبنانية, أو غياب رواية تحكي قصة ذاكرتها بيروت. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: ما الذي أدّى إلى هذا الغياب? الردّ على هذا السؤال ردّان: ما يتعلّق بالرواية بحدّ ذاتها من ناحية, وما يتعلّق بالمدينة العصية من ناحية أخرى.

1. لا تزال الرواية في لبنان مشدودة إلى الأطراف وإلى تنوّع فضاءاتها الاجتماعية والثقافية. فكل روائي يحمل معه هموم وهواجس الفئة والمنطقة التي ينتمي إليها, ويحمل تاليًا رموزها وصورها واستعاراتها المميّزة. هذا ما يدفعنا إلى القول إنه ليس في لبنان ما يمكن تعيينه كرواية-مدينة أو كرواية مركز-العاصمة (على خلاف المفهوم الأوروبومركزي الذي يريد أن يعيّن انبثاق الرواية في لحظة تكوّن المجتمع البورجوازي وما استتبعه من ثورة صناعية جعلت من المدينة مركز الجذب الرئيسي في المجتمع الأوسع), هذا المجال الاجتماعي (المدينة-العاصمة) الذي يتمّ فيه صهر التمايزات الثقافية وإعادة إنتاجها في بوتقة (فردنة) لها ما لها من هواجس ومعاناة وذاكرة, غائب في الرواية اللبنانية. فنلاحظ أن المدينة في لبنان لا تزال تعكس الأطراف الوافدة إليها بخصوصياتها المميّزة من دون أن تستوعبها. غير أن هذه الأطراف الوافدة من أكثر من مكان تحمل معها قصصًا لتحكيها في المدينة, لاسيما أن أهل المدينة الأصليين لم تتفتّح فيهم بعد قريحة السرد, ولم تتبلور ذاكرتهم إلى حدّ اتخاذ شكل القصّة.

2. بيروت - (هذه المدينة العريقة للمستقبل) - والتي كتب سمير قصير قصّتها, لا تملك مخزونًا قصصيًا خاصًا بها, ولا تملك بعد آلية اجتماعية تهضم بواسطتها الوافدين إليها. فعلى صورة البلد الذي تتراكم فيه الطوائف من دون أن تتداخل - أو (تنصهر) كما يقال - تحفظ المدينة لكل وافد إليها مكانًا هو في الحقيقة امتداد للريف الذي أتى منه. ليست بيروت مدينة, وعلى الرغم من كل حركيّتها, لا تملك نبضًا. النبض موجود في الأطراف, والرواية بحاجة إلى هذا النبض لتبنى. عندما قرّر بلزاك الصعود إلى الريف ليحكي قصّة (الفلاحين) وانهيار نمط حياتهم ومعيشتهم, لم يسجن نفسه في الإطار الريفي والفلاحي المحض بل كتب عن انتشار آليات المدينة وامتدادها إلى أقاصي الريف الذي بدأ ينبض على إيقاع الوافد الحديث. وعندما رافق روائيو النصف الأول من القرن العشرين الأمريكيون, نزوح الناس وانتقالهم إلى المراكز الاقتصادية الجديدة إثر الأزمة الاقتصادية التي ضربت أول ما ضربت صغار الملاكين والمزارعين, حكوا كيف كانت الآلة المدينية الحديثة تبتلع هؤلاء الوافدين لتعيد تشكيلهم على صورة المجتمع الحديث الذي تمثّله.

بيروت المحتضرة والحاضنة

ليست بيروت مدينة بالمعنى الأوروبومركزي للكلمة, بل مدينة متوسّطية منفتحة, مرفق اتصال بالخارج أكثر منه بالداخل, تستورد بقدر ما تصدّر. لا قصة لها, بل تحتضن كل قصص الوافدين إليها. في غياب الشكل المديني المعروف في الغرب. ازدهر في لبنان نوع روائي اتّخذ من الخصوصية اللبنانية أرضية لبناء شكلٍ لعلّه الوحيد. لذا أن تكون الرواية اللبنانية ريفية المضمون ليس انتقاصًا من قيمتها, ولا إشارة إلى نوع قصصي اتسّم بالنوستالجيا, إلى صفاء الحياة القروية وبراءتها, بل تشديد على خصوصية من خصوصيات لبنان والأدب الذي ينتجه.

وبيروت التي لا تملك في الرواية اللبنانية إلاّ موقع الحاضن - مثلما هي النزل الذي يقصده السياح والتجار, يقيمون فيه ثم يغادرون - هي نموذج يبدو أنه في طريقه إلى الاضمحلال حسب رأي عبّر عنه جورج قرم في مقالة لمجلة Confluences Méditerranée عام 1994, يقول فيها: (قلب الحضارة العالمية, صانعة أنظمة دينية وقانونية, مركز شبكة كثيفة من العلاقات التجارية عبر البحار. هذا بعض ما كانه البحر المتوسّط على مدى آلاف السنين, فكانت له مصائر متنوّعة بفضل سلسلة المدن الكوسموبوليتية التي انتشرت على ضفافه. إلاّ أن المصير الذي يعيشه ما تبقّى من هذه المدن الكوسموبوليتية التي ازدهرت حتى نهايات هذا القرن (العشرين) بفضل تعدّديتها, هذا المصير يبدو أنه يعلن انتهاء شكل من التنظيم المديني الذي عرف كيف يخلق من التنوّع تعايشًا, إن لم يكن إيجابيًا بالكامل, فهو على الأقل مقبول. هذا الشكل المديني يبدو أنه يحتضر في بيروت كما في سراييفو).

ليس المهمّ أن تحتضر بيروت أو لا, المهمّ أن تحيا الرواية, وبالشكل الذي تراه مناسبًا.

 

جورج دورليان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




في الوقت الذي كانت بيروت تنهار بفعل الحرب الأهلية أعاد الروائيون بناءها بالكلمات





هل تمثل بيروت في ذهن الروائيين مجالا للانعتاق والحرية?





هل بقيت بيروت فقط مجرد مدينة حاضنة للذين يأتون من الريف حاملين همومهم?





ما زال كل روائي في لبنان يحمل هواجس وهموم الفئة التي خرج منها





ليس المهم أن تحتضر بيروت أم لا. المهم أن تحيا الرواية بالشكل الذي تراه مناسبا