الحلاق وعمه

الحلاق وعمه

قالت الآنسة (جاما) لي: أنت في حاجة إلى حلاق.

وقالت أمي: لابد أن نقص شعرك. وقال أخي أيضًا: (شعرك طويل جدًا), وأراد الناس جميعهم أن أذهب إلى الحلاق, وبدا رأسي كبيرًا جدًا بشعره الأسود الكثيف, وكل من يقابلني.

يقول: متى تذهب إلى الحلاق?

اعتاد أحد كبار رجال الأعمال في مدينتنا - واسمه السيد (هنتجدون) أن يشتري مني صحف المساء كل يوم, وكان رجلا ضخمًا يزن أكثر من مائتين وأربعين رطلاً, ويمتلك سيارتين من نوع (الكاديلاك), وكثيرًا من الأراضي, ووصل رصيده في البنك إلى أكثر من مليون دولار, كما كان ذا رأس صغير أصلع, وبدأ يرسل عمال السكة الحديد ليتفرّجوا على رأسي, ثم يقول:

- إنك تمتلك كاليفورنيا, فأنت تستمتع بصحة جيدة ومزاج طيب وشعر كثيف, أما الآنسة جاما, فقد شعرت بالمرارة تجاهي بسبب شعري الطويل, وهددتني قائلة:

- لن أذكر أسماء - لكن - مالم تذهب إلى الحلاق, وتقص شعرك, فسوف يتم إرسالك إلى أسوأ مكان. هي لم تذكر أي أسماء, وكل ما فعلته أنها رمقتني بنظرة وعلق أخي قائلاً:

- ما الفكرة من وراء ذلك?

شعرت بالسعادة, والناس تنفجر غضبًا بسببي - لكن - في أحد الأيام, حاول عصفور صغير أن يبني عشا في شعري, ولهذا, فقد أسرعت إلى الحلاق في المدينة.

في حظيرتنا, وتحت الشجرة, كنت نائمًا على العشب حين جاء العصفور, وبدأ طريقه في شعري في حظيرتنا, وتحت الشجرة, وكان اليوم شتويًا دافئًا, ومعظم الناس لم تستيقظ بعد, ولا أحد يسير بسيارته, والشيء الوحيد, الذي يمكن أن تسمعه هو صوت السكون الدافئ البارد, الحزين السعيد.

إنه لشيء طيب, أن تكون على قيد الحياة في مكان ما, في العالم, ولديك متسع من الوقت, والفضاء تملك الحرية أثناء الليل والنهار, أن تتنفس وتأكل, تضحك وتتكلم, تنام وتنمو, أن ترى وتستمتع وتلمس, أن تسير في أي مكان في العالم تحت الشمس - أن تكون في العالم - كنت سعيدًا بالعالم, بالرغم من إحساسي بالوحدة, وكنت أشعر بالحزن أيضًا تجاه بعض الأشياء.

أحلم بالأماكن التي لم أرها مطلقًا, والمدن الرائعة في هذا العالم مثل: نيويورك, لندن, باريس, برلين, فيينا, استنابول, روما, القاهرة, الشوارع, البيوت, الناس, الأبواب والنوافذ في كل مكان, القطارات أثناء الليل, الجبال اللامعة, التي طوت عصورًا وعصورًا, البحر بظلمته وسكوته, المدن المدفونة عبر السنين, الأماكن التي تحللت ورحلت.

حلمت كثيرًا بالحياة والموت, في هذه الأثناء, هبط العصفور على رأسي, وحاول أن يبني عشّه في شعري, عندئذ استيقظت من النوم, وفتحت عيني, لكنه لم يتحرك. ولم أكن أعلم أن العصفور يعبث في شعري, ويغني ولم أشعر - من قبل - في حياتي بوضوح صوت العصفور وحركته, كما سمعته في هذه اللحظة, كان صوتًا طبيعيًا وأزليًا, ولم يكن هناك صوت في العالم سواه, وأدركت أنه ليس من الصحيح أن يعبث عصفور في شعري. قفزت وهرعت فطار العصفور بعيدًا في سرعة خاطفة.

الآن أدركت أن الناس على حق, والآنسة جاما على حق, وأخي على حق, ولابد أن أذهب إلى الحلاق, حتى لا تأتي العصافير ثانية, وتقيم أعشاشًا في رأسي.

كان يوجد حلاق أمريكي في شارع (ماري بوذا) اسمه (آرام) - كان فلاحًا وربما مهندسًا, لا أعرف, كل ما عرفته أنه يمتلك محلاً صغيرًا في الشارع, ويقضي معظم وقته في قراءة الصحف الأمريكية, ولفّ السجائر وتدخينها ومشاهدة الناس وهم يروحون ويغدون, أما أنا, فلم أره يحلق لأحد, وربما قصده واحد أو اثنان, على سبيل الخطأ, وكان نائمًا وأمامه كتاب أمريكي مفتوح, فأيقظته, وفي لهجة أرمينية قلت له:

- هل تقص لي شعري مقابل خمسة وعشرين سنتًا?

فقال:

- آه - أنا مسرور برؤيتك - ما اسمك? القهوة أولاً - آه - لديك رأس جميل, كل واحد يطلب مني أن أقص هذا الشعر.

- هذا هو أسلوب الناس - دائمًا يملون عليك رغباتهم - ما المشكلة إذا كان الشعر طويلاً أو قصيرًا? وحين تكسب مالاً, يقولون لك اشتر مزرعة, هكذا الناس لا يتركون الإنسان يعيش في هدوء.

- ولكن هل تستطيع أن تحلق شعري كله حتى لا يتحدثوا عني لوقت طويل.

- دعنا نحتسي القهوة أولاً.

أحضر لي (فنجان) القهوة, وتعجبت لماذا لم أزره من قبل - فهو - ربما - من وجهة نظري أكثر الرجال ظرفًا في المدينة كلها.

عرفت أنه رجل غير عادي من خلال الطريقة التي يمشي بها - لقد كان في الخمسين من عمره, وأنا في الحادية عشرة - لم يكن طويلاً وممتلئًا - لكن صورة وجهه كانت تعكس شخصية رجل اكتشف الحقيقة, وعلى درجة كبيرة من الحكمة والمعرفة, ومحب لكل شيء في هذا العالم, وحين فتح عينيه بدت نظرته وكأنه يقول:

العالم - الناس - لقد خبرت كل شيء, الشر, الكراهية, الخوف - لكن - أحببت كل شيء في العالم.

رفعت كوب القهوة إلى شفتي, وشربت هذا السائل الساخن الأسود, وتذوّقت طعمًا لم أجرّبه من قبل, وداهمني بلهجته الأرمينية:

اجلس - اجلس - ليس لدينا مكان نذهب إليه, ولاشيء يمكن أن تفعله, وشعرك لن يصبح أطول خلال ساعة.

جلست وضحكت, وبدأ يخبرني بهذا العالم, أخبرني عن عمه (ميزاك), وبعد احتساء القهوة جلست, وبدأ في قص شعري, واستمر في الحديث عن العم ميزاك والنمر, خرجت من عنده بحلاقة رديئة, ولكن هذا لم يهمّني كثيرًا, فهو - في الحقيقة - لم يكن حلاقًا ماهرًا, فقد ألحق بهذه المهنة, إرضاء لزوجته حتى لا تستمر في إزعاجه, لقد فعل ذلك من أجل إرضاء الناس, أما هو, فكل ما يشغله أن يقرأ ويتكلم مع الناس الطيبين, وكان لديه خمسة أطفال, ثلاثة أولاد وبنتان, ولكن كانوا جميعًا مثل زوجته, ولم يكن يتكلم معهم, وكل ما يريدونه منه كم الأموال التي يكسبها!

- مسكين عمي ميزاك, منذ ولادته, كان ولدًا مشاغبًا, لكن لم يكن لصًا, كان باستطاعته مصارعة اثنين في وقت واحد, ومعهم مَن يساندنهما من الآباء والأمهات, والجدود والجدات. وأطلق الجميع على عمي ميزاك لقب (القوي), وقالوا له:

- لماذا لا تكسب أموالاً كثيرة بدخولك حلبة المصارعة, فأنت قوي جدًا.

- وقد فعل ذلك وكسر عظام أكثر من ثمانية عشر شخصًا قبل أن يبلغ العشرين من العمر, أما كل ما كسبه, فقد أنفقه في الطعام والشراب, وكان يعطي الفائض للأطفال.

لم يكن يرغب في المال, لذا, فقد نصحه الناس بأنه سوف يأسف, ويندم يومًا ما, وبطبيعة الحال, كانوا على حق. قالوا له (حافظ على أموالك, لأنك سوف تفقد قوتك مع مرور السنين. أما عمي ميزاك, حين وصل الأربعين, فلم يعد قويًا كما كان, وفقد المال, وضحك الناس عليه, ورحل إلى استانبول, وبعد ذلك اتجه إلى فيينا.

فقلت له: (هل ذهب عمك ميزاك إلى فيينا?).

- نعم, ذهب عمي إلى أماكن كثيرة في فيينا, ولم يستطع العثور على عمل, وكاد يموت جوعًا, ومع ذلك لم يسرق شيئًا. ثم ذهب إلى برلين, وهناك تقريبًا مات عمي من الجوع. والآن يقص الحلاق شعري من الجهتين اليمنى واليسرى, ورأيت الشعر الأسود منتشرًا على الأرض, وشعرت أن رأسي أصغر حجمًا وأكثر برودة.

- آه يا برلين - بيوت وناس - لكن, ولا باب لعمي المسكين, ولا غرفة ولا صديق.

فقلت:

- آه, كم هو أمر مزعج أن يعيش الإنسان, وهو يعاني الوحدة في هذا العالم.

- ثم أضاف الحلاق:

- لقد خذلوه في كل مكان - في باريس والشيء نفسه في لندن, في نيويورك, في أمريكا الجنوبية, الشيء نفسه في كل مكان, الناس والشوارع والبيوت, ولا مكان لعمي المسكين في هذا العالم. وفي الصين, قابل عمي رجلا عربيا كان يعمل في عرض فرنسي متنقل. تحادثا معًا باللغة التركية, فقال العربي لعمي:

- أخي, هل أنت محبّ للناس والحيوانات?

فردّ عليه عمي ميزاك:

- أحب كل شي في هذا العالم, الناس والحيوانات والأسماك والطيور والصخور والنار والماء, وكل شيء مرئي, وغير مرئي.

فقال العربي:

- هل تستطيع أن تحب النمر المتوحش.

إن عمي ميزاك كان محبًا للحيوانات بلا حدود, ومع ذلك, فقد كان رجلاً تعيسًا.

كان العربي سعيدًا بحب عمي للحيوانات المتوحشة, فذلك دليل على شجاعته, وعندئذ قال العربي لعمي:

- هل تحب النمر لدرجة أن تضع رأسك في فمه وهو مفتوح.

وفي الحال, أجاب عمي:

- نعم أستطيع.

فقال العربي:

- هل تنضم إلى فرقة العرض? ثم أضاف:

- بالأمس أطبق النمر - في لامبالاة - بفمه على رأس (سيمون) المسكين, والآن, لم يعد لدينا ذلك الشخص, الذي يملك مثل هذا الحب للحيوانات.

لقد كان عمي في حال يأس من هذا العالم.

- سوف أنضم لفريق العرض, وأضع رأسي في فم النمر المفتوح عشر مرات يوميًا.

فقال العربي:

- نكتفي بمرتين في اليوم.

التحق عمي بفريق العرض في الصين, واضعًا رأسه في فم النمر, وسافر فريق العرض من الصين إلى الهند, إلى أفغانستان, ومن أفغانستان إلى إيران, وفي طهران, حدث الآتي:

- كان اليوم حارًا, وشعر النمر بالغضب والإرهاق, في هذه اللحظة, وضع عمي المسكين رأسه في فم النمر, وحاول عمي أن يخرج رأسه, فأطبق النمر فكيه بكل قوة عليها.

حين نهضت من على الكرسي, رأيت شخصًا غريبًا في المرآة, لقد ذهب شعري كله, ولم يتبق منه شيء, دفعت للحلاق خمسة وعشرين سنتًا, وعدت إلى البيت, وفي الطريق, ضحك على رأسي كل مَن قابلني, ولكن كل ما شغل ذهني - لأسابيع كثيرة - هو عم الحلاق (ميزاك), المسكين, والذي قطع النمر رأسه, وتطلعت إلى اليوم, الذي يطول فيه شعري, حتى أذهب إلى محل الحلاقة, الذي يملكه (آرام) كي أسمع قصة الإنسان على الأرض.

وليام سارويان (1908-1981)

ولد في ولاية كاليفورنيا, وهو ينتمي إلى أسرة أرمينية - كتب القصة القصيرة, والرواية, والمسرحية, وهو في هذه القصة يصف الفرح بالحياة, بالرغم من صعوبتها.

فاز بجائزة (بوليتزر) عام 1940 عن مسرحية (زمن حياتك), اتسمت كتاباته بالتعاطف مع الناس العاديين, وعني بأحلامهم وآمالهم, وكان ذا روح تهكمية ساخرة ومتفائلة, ومن أهم أعماله رواية (الكوميديا الإنسانية) عام 1942, والمجموعة القصصية (اسمي آرام) عام 1940.

 

وليام سارويان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات