أحبته عن بعد (قصة × صفحة)

أحبته عن بعد (قصة × صفحة)

كانت تقول: يطيب لي مصادقة حراس الحدائق, هؤلاء الذين يحملون هموم كل الزهور فوق أكتافهم, أما المقاعد التي يسكن الزوار فوق أضلاعها فتؤلمني حكاياهم التي يخبئونها تحت جلود المقاعد, وحراسة تلك الحكايات تتطلب الكثير من الحذر, لأنها تؤوي كل الأشياء التي يحرص عليها أولئك الزوار. حكايتها تلك التي أسمعتها لكل الحراس, ولكل الزهور ولكل الأوراق الخضراء باتت لغزًا محيرًا.

لم تكن ترغب أن يكون لها قصة في البداية, ولم تعرف هي نفسها كيف نبتت تلك القصة واختبأ الكثير من أحداثها بين الأوراق والغصون كانت تطل بعض الحروف لتفسر ما حصل, وكانت أحيانًا كثيرة تهمس إلى خشب المقاعد ولم تكن تدري أنها تبوح لحراس الحدائق بما يعتريها, وهي تعلم أن حراس الحدائق تنتابهم لحظات من الخيبة أحيانًا ومن الأمل أحيانًا أخرى, خاصة أنهم يحملون هموم كل الأشجار والزهور في تلك الحدائق, إضافة إلى همومهم الشخصية.

تساءلت مرة إحدى الزهور وكانت تباهي بنضارتها أحلى الصبايا: ترى ومن يهتم لهؤلاء الحراس!

كانت الزهرة اليتيمة تطل بذراعها على تلك القصة التي نبتت بين أحضانها ورغبت أن تحمل مضمونها وتخبئه عميقًا في الصدر لكن تلك الفراشة التي كانت تحوم حولها منعتها من أن تتصرف بأشياء الآخرين. لقد أحبته تلك الفتاة عن بعد, كانت تعرف مواعيده من دون أن يلمح عنها, كانت مرات كثيرة تحاول أن تفهمه بأنه يعنيها, ومرات أخرى رغبت أن يقول لها شيئًا, لكن الشهور مرت ولم تسمع منه كلمة واحدة. كانت تعرف المقعد الذي يجلس عليه, كانت تحس أن ثيابه معبأة بالهموم, وكانت مرسومة فوق وجهه بأشكال مختلفة, وعندما كان يذهب بعد أن ينهي سيجارته الثالثة كانت تنتقل إلى المقعد إياه, تلامسه بحنان وكأنها تلامس الجسد وتستنطقه. تكررت تلك الحالة, وتكررت تلك اللقاءات غير المفهومة, والتجهم في وجهه له معانٍ كثيرة, وكم جلست قبالته وهي تحادث اخضرار أوراق الحديقة, لقد لاحظ كل ذلك حارس الحديقة, وكان يباركه بصمت, كانت هي تخبئ مشاعر خاصة في داخلها لذلك الشخص الذي يبدو لها مكسورًا على الدوام. كانت ترغب في أن يأتي إليها ويحادثها, والتقت نظراتهما كثيرًا وربما ابتسم الواحد للآخر, وقد يكون همَّ أن يبوح لها بشيء, لكن همومه التي رؤيت موزعة في وجهه وعلى ثيابه منعت حصول ذلك.

انطوت أيام كثيرة وتواصلت اللقاءات الصامتة, ونضجت الحكاية كصبية اكتمل نمو جسدها وامتلأ قلبها بالحب. حارس الحديقة كان حارسًا أمينًا على تلك الحكاية لأنه شهد بداية شرارة صغيرة بينهما, لكنه ظل صامتًا, وظل يحسب بنفسه أبعاد تلك الحكاية التي لم يلتق صاحباها إلا بالنظر. أحبت هي صمته واحترم هو رقتها العذبة.

وتتالت الأيام ولم يظهر أن هناك لقاءً قريبًا وجديا سيحدث. فقط بعض إشارات كانت تحملها للزهور, وكان هو يلتقط تلك الإشارات ويخبئها في صدره, وربما وعى تلك الحالة جيدًا, لكن متاعبه أكبر بكثير من أن يزيد عليها.

كانت ترغب في أن تسبر أعماق صدره, وكانت تراه يحمل مذياعًا صغيرًا يؤويه في صدره وتطبق على وجهه أحداث ذلك المذياع بغيومها السوداء, ويربد الوجه ويتألم ذلك الجسدبثنيات واضحة, ويشعر بأنه وحده يحمل أعباء الوطن كله, كان الحدث الأهم في تلك الأيام ضعضعة حالة الوطن الذي كان يشغل الآخرين.

لم يسمعه أحد يتكلم سوى حارس الحديقة, كان يبوح له ببعض الكلمات, ثم يندم على قولها, كانت هي ترغب في أن تحادث ذلك الحارس لكن أبت عليها نفسها ذلك الفعل.

فجأة ودون مقدمات اختفى ذلك الفرح الذي احتضنته زهور الحديقة وبعض المقاعد, وبدأت الفتاة تبحث بين ممرات الحديقة ومقاعدها عن شيء ما, وتسرب اليأس سريعًا إلى وجدانها, وترددت كثيرًا قبل أن تسأل حارس الحديقة عن ذلك الرجل الصامت دائمًا, وترددت أكثر عن البوح بما يعتريها, وكان الرد فاصلاً عندما قال لها ذلك الحارس: لقد ذهب صاحبك يبحث عن وطن وكأن ذلك الحدث رتب همًا جديدًا في صدر حارس الحديقة, فبكى بصمت ومشى يكمل جولته!!

 

سلوى الجندي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات