حكاية الميتة الحيّة

حكاية الميتة الحيّة

ابن الخالة يتكلم:

نعم, سميحة بنت خالتي, أكبر مني بعشر سنين, ربما في الأربعين, سافرت مع زوجها إلى السعودية, قلنا لها أنا وزوجتي - لا يصح أن تتركا أنتما الاثنين أولادكما, واحد منكما فقط يسافر, مهما كانت قرابتنا فهي لا تساوي وجود الأب أو الأم, لا نقصد التخلي عن الأطفال, أولادهم في عيوننا, لكن تربية الأبناء في هذا الزمن صعبة, قالوا لنا إنهم سيرسلون لنا مصاريفهم وزيادة, المسألة ليست مسألة مصاريف فقط. المهم صممت سميحة وزوجها أبو الخيرات على السفر. بعد ثلاثة أشهر فقط سمعنا أن سميحة قررت العودة إلى مصر, قالوا إنها لم تتحمل فراق الأولاد, ربما واجهت مضايقات في عملها, كانت تعمل شغالة في جدة وزوجها يعمل في مستوصف بالرياض, لا أحد يعرف سبب العودة إلا سميحة وزوجها... الناس أسرار.

المهم يوم الإثنين 9 ديسمبر - يعني من أسبوع - سمعنا أن العبّارة المحروسة غرقت, أسرعنا بقراءة أسماء الضحايا, كانت عندنا فكرة أن أبا ممدوح قطع تذكرة لزوجته على حسابه لتركب العبّارة المحروسة. العقد لا ينص على تذكرة عودة إلا بعد سنتين من بدء العمل. انتظرنا جميعا وصولها إلى شربين, ليس عندنا وقت ولا مال لاستقبالها في السويس. بصراحة كل واحد منا كان يتوقع هدية ولو بسيطة.

المهم سافر شقيقها فكري وابن أختها جاد إلى ميناء سفاجة على البحر الأحمر لتسلم الجثة. طبعا لابد أن يكون الإنسان واقعيا ويواجه الموقف بشجاعة. تعرفا على الجثة, بها علامة جراحة زائدة دودية. سميحة أجرت عملية الزائدة في المستشفى الأميري قبل سفرها. أيضا قالوا إن الأهل لن يصرفوا التعويض الفوري إلا إذا ظهرت جثة قريبهم, الذين لا تظهر جثثهم يُسمّون مفقودين ويصرف أهلهم التعويض بعد أربع أو خمس سنوات, أعطني عمراً, مَن يصرف على الأولاد, وأبو الخيرات لا يسأل فيهم, وإلا - بيني وبينك - ما سافرت سميحة.

المهم تسلم شقيقها وابن أختها الجثة, أخذا سيارة نقل وعادا إلى البلد, وصرفا 200جنيه من الشئون الاجتماعية بشربين مصاريف دفن. تم الدفن وبعده أقيم سرادق كبير حضره أهل البلد كلها للعزاء في سميحة. أي نعم كله بأمر ربنا, لكن موت عن موت يفرق, موت الكوارث والواحد في شبابه أو وراءه مسئوليات يفرق عن موت المرض والواحد في شيخوخته لا وراءه ولا قدّامه.

آه, أخذني الكلام, نسيت أن أقول إنه قبل عودة فكري وجاد من سفاجة كنت قد ذهبت إلى مصلحة الجوازات بمجمع التحرير بالقاهرة للاستفسار والتأكد, بالتحديد ذهبت إلى رئيس قسم الحركة في الجوازات, أخرج قائمة من درج مكتبه, تصفّحها, ثم قال:

- ما قرابتها لك?

- بنت خالتي.

- البقية في حياتك.

- متأكد?

- ابن خالتها ولا تعرف? ألم تتسلموا جثتها من ميناء سفاجة?

الشك لا يزال يلعب في قلبي, لا أريد أن أصدق, ذهبت إلى توكيل العبّارة (المحروسة) في ميدان التحرير:

- طبقا لمانيفستو العبّارة, سميحة جاءت على ظهر المحروسة, لا نعلم أكثر من هذا.

عدت إلى شربين, السرادق قضى على كل بارقة أمل, شاركت في تلقي العزاء, شاهدت أطفالها الثلاثة يبكون, اتشحت زوجتي - وبقية القريبات بل والجارات - بالسواد, بيوتنا ظلت مفتوحة لتلقي العزاء.

رواية الجارة أم رضا

دقّ جرس التليفون في منزلنا, جيراننا أبو الخيرات وسميحة ليس عندهم تليفون, هم يردون من تليفوننا على مكالمات أقربائهم وأحبائهم, لكنهم لا يتكلمون أبدا, مرة حاولوا أن يدفعوا أجر مكالماتهم, رفضنا, من يومها لم يتكلموا, رَفَعْتُ السماعة, جاءني صوتها, أي والله صوتها! كيف حالك يا أم رضا, أنا سميحة, فَزعت, الصوت صوت سميحة, لكن سميحة ماتت, غرقت مع العبارة المحروسة, تسلم أهلها الجثة ودفناها, بكيتها أنا, حال أطفالها قطّعت قلبي, مازلت ألبس السواد عليها, صرخت بأعلى صوتي: سميحة مَن? سقطْتُ على الأرض, جاءت سليمة, فقط كَدم في ذراعي الشمال.

رواية الجار أبو رضا

أمسكت سماعة التليفون لأعرف من الذي لعب هذا الملعوب مع أم رضا.

سألت, ردّت:

- أنا سميحة أحمد عوض, جارتكم, كيف حالك يا باشمهندس علي, أنا عايشة, لم أركب المحروسة, تخلّفت عن السفر, ركبت العبارة (لواحظ) التي قامت بعدها بأسبوع.

أجبتُها وأنا بين الحلم واليقظة: حمد الله على سلامتك, ربنا كبير.

أسرعت إلى شقة جيراني, أبلغت أطفالها وشقيقتها محاسن بالخبر, جاءت الشقيقة, صرخت في السماعة: أعطني علامة أنك سميحة.

في لحظات ذاب حزننا, قفزت الفرحة في عيوننا, انزاح كابوس عن قلوبنا, خلعت السواد نساؤنا, اخلتطت بالضحكات دموعنا, انقلب المأتم إلى فرح. كلنا في انتظار سميحة (الميتة الحيّة).

تكملة رواية ابن الخالة

حضرت بشحمها ولحمها, استقبلناها بالزغاريد والضحكات, استمرت أفراحنا ثلاثة أسابيع, أدركنا بعدها المصيبة الكبرى. ذهبت السكْرة وأتت الفكرة, أفقنا على مشكلة لم نتنبه إليها وسط فرحتنا الغامرة: معنا شهادة وفاة رسمية صادرة من مكتب صحة سفاجة تؤكد أن سميحة ماتت باسفكسيا الغرق, تسلمنا جثتها, دُفنت في مقابر البلدة, بكيناها, دموعنا جرت غزيرة عليها, انسدت شهيتنا عن الأكل أياما, ذهب النوم من عيوننا ليالي, لاحقنا هاجس الموت يهدد طمأنينتنا كأنه طنين بعوض قريتنا, وكنا قد نسيناه أو تناسيناه في زحمة مشاغلنا, صرفنا إعانة من الشئون الاجتماعية لمأتمها.

المهم سميحة حررت محضرا في مركز شربين ونيابة شربين, أثبتت وجودها في المركز والنيابة. ذهبُت معها إلى مباحث الجوازات نروي لهم حقيقة ما حدث, قالوا: تخصصنا البحث عن التأشيرات المزوّرة فقط, لا علاقة لنا بما تعرضونه علينا من مستندات الحياة ومستندات الموت, كلاهما مستندات صحيحة.

- وأين نذهب إذن?

- إلى الجهات التي أصدرت هذه المستندات.

ذهبنا إلى إدارة القنصليات التابعة لوزارة الخارجية.

- اختصاصنا أسماء المتوفين في الخارج, شهادة وفاتك يا سيدتي صادرة من مكتب سفاجة أي داخل حدودنا المصرية.

ذهبنا إلى إدارة المحاكم بمجمع التحرير, ابتسم الموظف المسئول, فكّر لحظة ثم قال:

- يجب رفع دعوى اختصام ضد وزير الصحة في إحدى المحاكم, ودعوى تصحيح, هذا هو الحل العملي.

يوم الإثنين الماضي جاءتنا لجنة الشئون الاجتماعية: سيدتان, ربما آنسة وسيدة, جاءتا لعمل بحث اجتماعي حول سميحة لصرف تعويض وفاتها لأهلها.

- لكنها أمامكم على قيد الحياة.

- بل اسمها ضمن قائمة المتوفين.

تسلمنا جثة شبيهة بسميحة إلى حد كبير, حدث هذا بطريق الخطأ, طبعا لم نكن نقصد. بعد أن علمنا بالخبر كان كل همّنا كيف نحصل على الجثة, وكيف نحضرها للبلد ويتم دفنها إكراما لها. يكفي ما وقع لها حتى الآن من ضرر. كل حقائبها فقدتها على ظهر العبّارة التي تخلفت عنها في آخر لحظة, ما نطلبه الآن تصحيح هذا الخطأ.

رواية الزوج

أعمل في مستوصف طبي بالرياض, زوجتي سميحة تعمل مرافقة لإحدى السيدات السعوديات, أبلغتني أن لديها مشاكل تواجهها في العمل, وأنها لم تعد تستطيع مفارقة أطفالها أكثر من ذلك. كانوا قد أرسلوا لها مع أحد بلدياتنا يقولون إنهم يبكون ليل نهار, خصوصا أصغرهم زينب كلما تذكرتها أو كلما صحت من النوم ولم تجدها.

اتصلت بالكفيل, اتفقت معه على أن يحجز لها تذكرة على حسابي في رحلة العبّارة المحروسة, شحنت الحقائب في العبّارة بميناء جدة على أن تسافر يوم الجمعة, قلت لها في التليفون (خلّي بالك من الأولاد). ليس عندي إجازات لأذهب وأودعها عند سفرها, ندمت على ذلك عندما شاهدت في اليوم التالي التلفزيون السعودي يذيع أن العبّارة المحروسة غرقت بركابها. سلّمت أمري لله, جاء زملائي في العمل يزورونني للتعزية, انقلبت الدنيا أمامي سوداء. نشرت صحيفة عكاظ اسم زوجتي ضمن قائمة الضحايا. أقمت العزاء. بعض جيراني القادمين من شربين إلى الرياض أبلغوني أنهم رأوا زوجتي بعيونهم, وأنها تبلغني السلام, وأنها تخلفت عن ركوب العبّارة المحروسة وسافرت في العبّارة التالية لواحظ. قررت العودة إلى مصر وأنا بين الشك واليقين, وصلت شربين, استقبلتني سميحة بلحمها وشحمها كما يقولون, لم أصدق أنني أراها بين أطفالنا الثلاثة.

قابلنا المسئولين. أحدهم يقول لنا: قدّموا طلبا في النيابة. آخر يقول يجب الذهاب إلى سفاجة. ثالث يقول: لابد أن أعود لعملي بجدّة وإلا فصلوني وضاعت عليّ حقوقي.

رواية سميحة

عندي ثلاثة أطفال: سميرة 13سنة في الإعدادي, وممدوح 11 سنة يعمل صبي مكوجي, وزينب 8 سنوات في الابتدائي. عمري أربعون سنة. أقرأ وأكتب. زوجي يعمل في مستوصف طبي بجدة, ما يرسله لا يكفي مصاريف البيت: أكل ولبس وأجرة المطرح.

وافقت على السفر للعمل, أبو ممدوح حصل لي على تصريح عمل كمرافقة لسيدة سعودية, ابنها كفيلي, أول مرة أخرج فيها من شربين.

الأولاد وحشوني, وَحشتهم. اشتقنا على بعض, لم أقدر على بعدهم عني, صممت على العودة, العقد ينص على دفع تذكرة العودة بعد سنتين, أبو ممدوح دفع لي أجرة التذكرة, كفيلي حجز لي على العبّارة المحروسة, سبقتني حقائبي في سيارة نقل شحنتها على العبّارة. عند صعودي سلم العبارة استوقفني ضابط أمن بميناء جدة:

- أين تذكرة السفر?

- موجودة في الجواز.

- لا يوجد بالجواز أي تذاكر.

أخذني الضابط إلى إدارة الميناء لحل مشكلة التذكرة, اتصلت بالكفيل, عرفت أنه أخفى التذكرة, والدته لا تستطيع الاستغناء عني, غضبت, التذكرة دفع ثمنها أبو ممدوح, أصررت على السفر وانتظاره في الميناء. كنت قلقة على حقائبي, فيها هدايا الأولاد والأقارب والجيران, طمأنوني أنها ستنتظرني في السويس.

في اليوم التالي حضر الكفيل, كان يضحك ويقول:

- احمدي ربنا يا سميحة, العبّارة المحروسة غرقت.

- تضحك عليّ مرة ثانية.

- بل اقرئي.

شكرت الله كثيرا, عنايته أنقذتني من أجل أولادي. حجزت على العبّارة لواحظ, الأعمار بيد الله. بعد أيام سافرت العبّارة. في السويس اتصلت بجارتنا أم رضا, علمت أنهم قرأوا اسمي ضمن الغرقى, بل تسلموا جثة أخرى على أنها جثتي, واستخرجوا شهادة وفاة باسمي.

وصلت البلد, استقبلوني بالزغاريد, فرحتي بالأولاد وفرحة الأولاد بي لا توصف, لم أعد من مجرد الغربة عنهم بل من الموت عدت. شعوران متناقضان يتبادلانني: سعادتي لأنني بينهم مرة أخرى, وتعاستي لأنني ميتة قانونا حية فعلا.

تصورت أن التغلب على مشكلة الوفاة أمر سهل: أسرعت إلى قسم شرطة شربين أثبت أنني ماأزال على قيد الحياة, الشرطة أحالتني إلى النيابة, النيابة استمعت إلى أقوالي وأخلت سبيلي.

ذهبت إلى مكتب صحة شربين, طلبوا استمارة (ساقط قيد ميلاد) وطابع شرطة بمائة وأربعين قرشا, وصورة البطاقة الشخصية أو العائلية, وصورة من تصريح الدفن, وصورة من محضر الشرطة التابع للمكان الذي تم فيه استخراج شهادة الوفاة وتصريح الدفن, وصورة لجواز السفر, ورقم الرحلة, معنى هذا أن أسافر إلى سفاجة لإحضار الأوراق المطلوبة, تحويشة العمر وحقائبي التي سبقتني كلها غرقت, وأنا غارقة في هذه الإجراءات.

توجهت إلى مجمع الجوازات في القاهرة: مشكلتك في وزارة الخارجية, ارفعي دعوى على وزير الصحة.

أثناء تنقلي بين مكاتب الحكومة تعرفت على محام شاب عرف قصتي, مرزوق الوكيل. تطوع لمساعدتي, إلهي يكافئه كل خير, طلب مني أن أعمل له توكيلا رسميا أسجله في الشهر العقاري. عملت التوكيل وسجلته ببطاقتي, هناك إذن جهة رسمية تعترف أنني حيّة.

أقام المحامي دعوى أمام القضاء الإداري يطالب فيها بإلغاء شهادة الوفاة وبعودتي للحياة.

منذ أسبوع جاءتنا لجنة الشئون الاجتماعية, عملوا بحثا عن حالتي. منذ يومين طلبني مكتب الشئون الاجتماعية لكي أتسلم 55 ألف جنيه, مبلغ التعويض عن وفاتي غرقا في حادث العبّارة. تصور, سميحة أحمد عوض الحيّة تتسلم تعويضا عن سميحة أحمد عوض الميتة. لم أذهب, لم أتسلم المبلغ رغم أنني في أشد الحاجة إلى كل قرش. حزنت على نفسي, موتي أغلى من حياتي, لو اشتغلت في السعودية عشرين سنة لن أدّخر هذا المبلغ, حسدت في لحظة الذين غرقوا. مَن يعرف, ربما حظ أهلهم - إن لم يكن حظهم هم - أحسن, كله محصل بعضه, الخيرة فيما اختاره الله.

والآن لا أستطيع صرف التموين وأنا في شدة الحاجة إليه, لا أستطيع العمل أوالسفر, لا أستطيع أن أكون مسئولة أمام المدرسة أو أي جهة عن أولادي, القانون لا يعترف بأنني حية, لكن افرض أنني سرقت أو ارتكبت أي جريمة - لا قدّر الله - كيف يحاكمونني, كيف يلقون القبض على ميتة? هذا مجرد تخويف كتبه المحامي لهم في مذكرته حتى يردوا لي الحياة, بل يعترفوا بأنني لم أمُتْ.

قضية إلغاء شهادة وفاة

تبدأ محكمة القضاء الإداري يوم الثلاثاء بعد غد نظر قضية السيدة سميحة أحمد عوض التي تطالب بإثبات وجودها على قيد الحياة, بعد أن نجت من حادث غرق العبّارة المحروسة.

تأجيل للفصل

قرّرت محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة (دائرة منازعات الأفراد) تأجيل دعوى السيدة سميحة أحمد عوض. بإلغاء شهادة الوفاة وما ترتب عليها من آثار إلى جلسة 17 يونيو القادم بناء على طلب محامي الحكومة.

وكان مرزوق الوكيل المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة قد تطوع بإقامة الدعوى عن السيدة الميتة الحيّة. وفي آخر جلسة قدّم اعتراضا على طلب محامي الحكومة بالتأجيل حيث إن من مستندات الدعوى خطابا صادرا من مباحث أمن الدولة إلى نقطة شرطة شربين بسحب شهادة وفاة السيدة سميحة لأنه تبيّن من سجلات دخول البلاد أنها لم تستقل العبّارة المحروسة وتخلفت عنها, وهذا ما أكدته تحريات الشرطة. وقد استجابت المحكمة وقررت الفصل في القضية يوم 17 يونيو القادم.

تأجيل التأجيل

تنظر محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة الثلاثاء 21 يوليو الجاري دائرة منازعات الأفراد قضية السيدة سميحة أحمد عوض التي تخلّفت عن العبارة (المحروسة) وصدرت لها شهادة وفاة وتصريح دفن لجثتها ثم فوجئ أهلها برجوعها وعودتها إلى منزلها. وقد طالب محاميها بإلغاء شهادة الوفاة وتصريح الدفن وما ترتب عليهما من آثار وذلك منذ 4 مايو الماضي. لكن محامي الحكومة طلب من المحكمة تأجيل القضية لمنحه فرصة لنسخ مستندات القضية والاطلاع عليها, فقررت المحكمة التأجيل لجلسة الثلاثاء الماضي.

وفي تلك الجلسة طلب محامي الحكومة التأجيل مرة أخرى لإعطائه الفرصة لتقديم مستندات الحكومة حيث إنه لم يتمكن من إحضارها بالرغم من استعجاله الجهات المختصة. واعترض محامي المدعيّة على تأجيل التأجيل وناشد المحكمة ومحامي الحكومة سرعة انتشال موكلته الغارقة في هذه التأجيلات مراعاة لحالتها التي هي لا موت ولا حياة, فقررت المحكمة إعطاء محامي الحكومة مهلة أخرى إلى 21 يوليو الجاري. بينما صرخت السيدة سميحة - التي كانت تنتظر صدور الحكم بحياتها: أليس حضوري بينكم مستنداً كافيا?

يوسف الشاروني

يقول يوسف الشاروني راوي هذه الحكاية إن حاجب المحكمة محجوب الذي كان يتردد في مراهقته في أولى قصصي (المعدم الثامن) ليخطف قبلة من حبيبته حسنية في غيبة أسرتها, تزوجها وانتقلت معه إلى مسكنه في حارة الزرايب منذ خمسة وثلاثين عاما دون أن ينجبا, وفرضت عليه ألا يتزوج أخرى. وقد شاب شعره الآن وأوشك أن يُحال إلى المعاش.

يروي الشاروني أن محجوب هذا وقف على باب المحكمة بعد أن استمع إلى قرارها وقد اصطف معه أبطال قصصي الأخرى: البنت شربات, والولد عبده, والشابة زين, والساعي مأمون, والشاعر العاشق المجنون فتحي عبدالرسول, والذي فقد وجوده في سبيل الاحتفاظ بوجوده موجود عبدالموجود, وفلان ابن علان بن ترتان الذي قضت عليه مثانته, وقفوا في شبه جوقه ينشدون للبطلة الجديدة سميحة أحمد عوض وهي خارجة في إحباط من باب المحكمة:

أيتها الناجية الغارقة نحن مثلك أموات أحياء,
واصلي معركتك فهي معركتنا معا: فناء أو بقاء.
فناء أو بقاء, إما موتى أو أحياء, موتى أو أحياء.

 

يوسف الشاروني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات