شكوك حول مستقبل الليبرالية

شكوك حول مستقبل الليبرالية

تشهد الليبرالية الكلاسيكية, منذ أكثر من قرن, حالة من التراجع الملحوظ بعد أن ظهرت على السطح حركات سياسية واجتماعية مؤثرة, مثل الاشتراكية الوطنية والديمقراطية الاجتماعية والليبرالية الأمريكية, بالإضافة إلى الاتجاهات المحافظة الجديدة في الولايات المتحدة.

ازدادت حِدّة تراجع الليبرالية بعد الحرب العالمية الثانية وما ترتب عليها من التهاب المشاعر الوطنية والقومية والالتجاء إلى العنف والتعصب, مما أعطى للحكومات ذريعة للتدخل بشكل سافر في شئون المواطنين لفرض سلطتها وسطوتها تحت ستار المحافظة على الأمن القومي, وهو اتجاه كانت ترفضه الليبرالية الكلاسيكية وتعترض عليه اعتراضات شديدة, ولكن كان يتعين عليها إما التمسك بمبادئها الأصيلة حول حرية الفرد وتقليص دور الحكومات والدفاع عن هذه المبادئ ضد زحف الحركات الجديدة بما فيها الشيوعية والفاشية التي تحرم الفرد من حريته وتعتدي على كرامته وإنسانيته, وإما مراجعة بعض هذه المبادئ وتعديل بعض اتجاهاتها وبخاصة فيما يتعلق بالوظيفة الأساسية للحكومة وعلاقتها بالفرد ومراعاة حقوق الملكية الخاصة واقتصار دورها على تطبيق القانون والإشراف على النظام العام. فالليبرالية الكلاسيكية ترتكز إلى عدد من العناصر الأساسية المهمة مثل التوكيد الأخلاقي على الفرد باعتباره سابقا في الوجود على الدولة والمجتمع, ومؤازرة حقوق الملكية الخاصة مع وجود نظام للسوق الحرة, وقيام حكومات دستورية تحمي حقوق الفرد ضد تجاوزات الآخرين, وفي الوقت ذاته تحمي الفرد من الانصياع وراء رغباته في تجاوز الحدود في التعامل واعتبار هذه العناصر كلها شروطا صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان, على ما يقول إيمي ستورجيس, في نشرة أصدرها معهد لوكر سميث, تحت عنوان (قيم وتدهور ثم بزوغ الليبرالية الكلاسيكية من جديد). إلا أنه بتقدم القرن العشرين, كما يلاحظ ستورجيس نفسه, ظهر واضحا عجز الحكومات في الغرب عن مواجهة التغيرات العميقة التي طرأت على الحياة الاقتصادية والثقافية في العالم مع ازدياد المطالبة بمراعاة حقوق الإنسان والتمسك بهذه الحقوق والدفاع عنها, وساعد على نمو وانتشار هذه الدعاوى ثورة الاتصال والمعلومات إلى جانب قصور الشيوعية والنظم العسكرية والشمولية عن إرضاء تطلعات الأفراد, ولذلك ازداد الاتجاه في الغرب نحو العودة إلى الأفكار والتطلعات والمبادئ القديمة, التي كانت قد توارت واختفت وبدأت رحلة العودة نحو إحياء الليبرالية الكلاسيكية ولكنها لم تفلح تماما, وثارت بدلا من ذلك كثير من الشكوك حول قدرة الليبراليين على الاستمرار وعلى الفاعلية والتأثير, وامتدت هذه الشكوك إلى بعض المفكرين الليبراليين أنفسهم, مما يكشف عن خطورة الوضع واستفحال أزمة الليبرالية.

البعد الأخلاقي

وليس من شك في أن الليبرالية تعتبر واحدة من أهم وأقوى الأيديولوجيات التي خضع لها الفكر الإنساني في العصر الحديث, حتى وإن اختلفت الآراء وتباينت حول تحديد ماهيتها وأبعادها وجدواها. وثمة على أية حال شبه اتفاق على اعتبارها فلسفة سياسية ذات أبعاد أخلاقية تتعلق بحرية الفرد, التي قد تكون حرية مطلقة في رأي البعض... وتعتبر إنجلترا هي الموطن الأصلي لليبرالية الكلاسيكية, التي ترتكز على مبادئ التسامح الديني والحرية الشخصية والاقتصادية وإقامة الحكومة عن طريق الرضا والاتفاق. ولكن الليبرالية في فرنسا ارتبطت بشكل خاص بالعلمانية والديمقراطية, بينما قامت في الولايات المتحدة على أساس التعاطف المعنوي مع الحرية الشخصية والنفور من الرأسمالية مما يؤكد في آخر الأمر أنها ليست مجرد نظرية سياسية, وإنما هي اتجاه أيديولوجي ذات أبعاد أخلاقية واجتماعية تُعنى بتنمية الفرد وحريته, وتؤازر حرية التفكير وحرية العبادة حسب رغبة الفرد وإرادته واختياره, دون تدخل الدولة سواء بالتأييد أو المعارضة, وحرية الكلام للتعبير عن الرأي, بصرف النظر عن فحوى هذا الرأي, لأنه عن طريق حرية الكلام وحدها يمكن الوصول إلى الحقيقة. وبمقتضى هذه المبادئ أو الشروط يعتبر الناس جميعا متساوين أمام القانون, بحيث إن أية محاولة للتفرقة والتمييز بينهم على أساس العرق أو الدين أو النوع أو حتى التفضيلات في الميول والنزعات والممارسات الجنسية لا تعتبر مجرد خرق لمبادئ المجتمع الليبرالي الحر, وإنما تعتبر أيضا مواقف أخلاقية ينبغي التصدي لها.

ونظرا لتفرد الأشخاص واختلاف الاحتياجات والمطالب وتنوع المهارات والقدرات, فإن الليبرالية تدعو إلى ضرورة احترام رغبات الآخرين فيما يتعلق بنوع الحياة التي يختارونها لأنفسهم. ويتلازم توفير الحقوق مع تحمل المسئوليات الملائمة, بحيث يعتبر الفرد مسئولا عن أفعاله وعن الآثار التي تترتب عليها, وهذا مبدأ أساسي لتحقيق التقدم الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي وقيام عالم أفضل, إن لم يكن عالما مثاليا. ومن هنا كان أنصار الليبرالية يرون أنها في جوهرها فلسفة متفائلة.

هذه المبادئ السامية في جوهرها والتي قوبلت بكثير من التقدير, وإن لم يكن الترحيب (بالرغم من بعض الانتقادات) مع الليبرالية الكلاسيكية تواجه الآن كثيرا من المعارضة والهجوم والتشكيك في صدقيتها, نتيجة للتغيرات والانحرافات التي تعرضت لها أثناء التطبيق العملي, لدرجة أن الكثيرين يتساءلون الآن عن مصير الليبرالية ذاتها ونوع المستقبل الذي ينتظرها. وثمة كتابات عديدة مليئة بالتشاؤم حول هذا المستقبل, وذلك على أساس أن الليبرالية لم يعد لديها مشروع فكري واضح يتلاءم مع الأوضاع الحالية, وإنما تحولت إلى مجموعة من السلوكيات والتصرفات البرجماتية الساذجة بل والممجوجة, وأن المبادئ الرفيعة التي كانت ترتكز عليها في الأصل أصابها كثير من الترهل, وانحرف بها الناس عن مسارها الأول, وذلك على العكس من الاتجاهات المحافظة التي يبدو أنها تقوم على أيديولوجيا محددة تلتزم بها طيلة الوقت بصرف النظر عن كل الاعتبارات الأخرى.

هل هي رافضة للدين?

وتقوم معظم الاعتراضات ضد الليبرالية على أسس أخلاقية في المحل الأول. فالليبرالية تعتنق مفهوما خاصا عن الأخلاق والأخلاقية يرفضه المجتمع - أو الشطر الأكبر منه - بما في ذلك المجتمع الغربي المتقدم حسب ما يذهب إلى ذلك أعداء الليبرالية, الذين يرون أن ذلك المفهوم يتعارض مع القيم والتقاليد الموروثة, كما أنها تقف موقفا محايدا - إن لم يكن سلبيا أو حتى رافضا للدين - وهذه هي إحدى النتائج المترتبة على المطالبة بالحريات المطلقة للأفراد. وفي ذلك يذهب الليبراليون إلى أن الذي يجب أن يحكم العلاقات بين الناس هو الأخلاق المدنية Civic Morals, ولذا يجب أن يسود المجتمع نظام مدني محايد يقوم على الاعتراف بالحقوق المدنية لأعضائه بصرف النظر عن وجود أو عدم وجود معتقدات دينية مشتركة بينهم; إذ ليس من الضروري أن تتفق هذه الأخلاق المدنية مع الدين, بل إنها تسمح بوجود التنوع والتعدد في المبادئ والسلوك والقيم الفردية. فالمجتمع (الصالح) لا يفرض على أعضائه أية التزامات أخلاقية غير تلك التي يفرضها الشخص ذاته على نفسه. والالتزامات الوحيدة التي تصدر عن المجتمع هي الالتزامات القانونية فحسب. وقد دفعت هذه المبادئ الكثيرين إلى القول إن الليبرالية تحولت إلى نوع من الفوضى والارتباك والتشويش, بحيث أصبح من الصعب إيجاد تعريف دقيق للكلمة. وقد وصل الغموض حول هذه المسألة إلى أن اكتفى البعض بالقول إن الليبرالية (تقع في مكان وسط بين الاتجاهات المحافظة واليسارية), وأن يصفها بعضهم الآخر بأنها (سياسة الضمير). وهذه كلها أقوال مرسَلَة ينقصها الوضوح والدقة مما يشير إلى عمق الأزمة.

ولقد ترتب على انتشار الحركات الليبرالية في فترة من الفترات - قبل التراجع الحالي - أن سادت العالم الدعوة إلى ضرورة القضاء على كل ما تبقى من المجتمع التقليدي من أفكار ومواقف وآراء ومبادئ, والعمل على إقامة شكل عام جديد للترابط البشري يؤلف نسقا عقلانيا متكاملاً يكفي لإرضاء وإشباع الرغبات الفردية الخاصة, على أن يراعى في هذا النسق إسقاط الدين من الحياة العامة والقضاء على الفوارق والاختلافات العرقية والنوعية بين الجنسين, وإقامة نظام عالمي جديد يستند إلى مبادئ السوق العالمية العابرة للقارات, والوصول إلى حلول للاختلافات المحلية لإقرار مبادئ حقوق الإنسان والأمن الجماعي والتنمية الاقتصادية الدولية, وغير ذلك من الشعارات التي تحملها بعض الاتجاهات الليبرالية الآن للخروج من هذه الأزمة, كما يذهب إلى ذلك بعض مناوئي الليبرالية. ففي رأي الكثيرين من الليبراليين - على ما يقول مارك ريتشاردسون في مقال بمجلة العهد الجديد The Modern Age (صيف عام 2000) - إن كل ما يحتاج إليه المجتمع الإنساني في نظر الليبرالية هو توفر عدد قليل ومحدود من المبادئ الإنسانية الرفيعة مثل المساواة والاستقلال الذاتي, بمعنى أن يكون المرء ملك نفسه Self-ownership. وقد ظهر المقال تحت عنوان The Tyranny of Liberalism.

أيتها الحرية.. كم من الجرائم!

وتمثل الأعباء والأوضاع الاجتماعية والسلوكيات الفردية التي تعمل الليبرالية على ترويجها ونشرها, أو على الأقل الدفاع عنها باسم الحرية, أكبر مصادر الخلل الذي لحق بها في السنوات الأخيرة ويلقي ظلالا كثيفة على إمكانات استمرار قوة الدفع التي كانت تتمتع بها خلال عقود طويلة سابقة, بل وتهدد مستقبلها كفلسفة لها تأثيرها في الحياة العامة على مستوى العالم. فكثير من السلوكيات التي تتسامح الليبرالية في وجودها تثير النفور العام بين قطاعات كبيرة من الناس في مختلف المجتمعات, كما هو الشأن بالنسبة للزواج بين المثليين أو إباحة الإجهاض وغير ذلك من الأفكار والآراء والمواقف التي تواجه قدرا كبيرا من المقاومة, بل والرفض, حتى في المجتمع الأمريكي الذي يوصف عادة بأنه مجتمع الإباحة Permissive Society والتسامح والتحرر والقدرة على امتصاص كثير من أنماط السلوك غير التقليدي, والتي قد تلفظها المجتمعات المتقدمة الأخرى في الغرب. وربما كان الخطأ الأساسي الذي وقعت فيه الليبرالية في هذا الصدد - على ما يذهب إليه بعض المحللين في أمريكا - هو أن بعض مفكري الليبرالية المعاصرين اعتبروا بعض العادات أو السلوكيات الشائعة في المجتمعات (قبل السياسية) - حسب التعبير المستخدم - هي الشكل الطبيعي الذي ينبع من الطبيعة البشرية ويتلاءم معها, ولذا فقد يكون من الأفضل العودة إليها وإقراراها والتمسك بها في الحياة المعاصرة. ولم يدرك هؤلاء المفكرون أن وراء هذه العادات والسلوكيات (البائدة) نظمًا وقواعد وتقاليد وقيمًا تحكمها وتتناسب مع العصر والظروف التي وجدت فيها, وأنه ليس ثمة ما يثبت الزعم بأن المرحلة الأولى المبكرة من مراحل تطور المجتمع الإنساني كانت مرحلة تحرر جنسي كامل أو ما يطلق عليه كلمة Promiscuity أو أن مجتمع ما قبل السياسية - أو ما يطلق عليه أحيانا اسم المجتمع الذي لا يؤلف دولة Stateless Society لم يكن يعرف نظام السلطة ولم تكن لديه قوانين تنظم العلاقات بين الناس, وتلجأ إلى مختلف أساليب القهر والقسر وتوقيع الجزاءات, وأن المسئولية لم تكن جماعية في كل الأحوال بل كثيرا ما كان الفرد يعتبر مسئولا عما يصدر عنه من أفعال. وعلى ذلك فليس ثمة ما يبرر ما تذهب إليه الليبرالية من محاولة البحث عن أعذار عن السلوك غير السوي بإلقاء اللوم على الظروف المحيطة بالشخص المسيء - أو على الوضع الاقتصادي المتدهور, أو على الوالدين اللذين لم يحسنا التربية أو على الرأسمالية, أو غير ذلك من الأعذار ما عدا الفرد نفسه. فالطبيعة البشرية في جوهرها طبيعة نقية وصافية, كما أن الإنسان مخلوق طيب وصالح, بينما العيب كله في البيئة التي يعيش فيها والظروف التي تحيط به, وعلى ذلك فإن التفاهم مع الأشرار - إن صحت هذه التسمية - أفضل من المواجهة والمجابهة العنيفة, أي أن الوسائل السلمية أفضل دائما من الدخول في صراع وصدام عدائي. وهذه في رأي أعداء الليبرالية نظرة تتسم بالسذاجة والسطحية إذ لا يمكن إبداء التسامح في كل الأحوال بغير تمييز أو تفرقة.

الثقافة الحسية

كذلك يصف هؤلاء المناوئون الليبرالية بالنرجسية, نظرا لإعجابها الشديد بالمبادئ المتحررة التي تنادي بها, وبأشكال الثقافة الحسية التي تعمل على نشرها, ونظرا أيضا لمطالبتها الحكومة بأن تراعي مشاعر الأفراد الخاصة في التعامل معهم مهما اختلفت الظروف والملابسات والأحوال والأسباب. وهذا معناه في رأي هؤلاء المناوئين اختفاء الخطوط الفاصلة بين الخير والشر, بل واختفاء هاتين الكلمتين تماما من (قاموس) الليبرالية, حيث أصبح لكل فرد أخلاقياته الخاصة التي تصدر من داخله وتعبر عن رؤيته الذاتية للأمور. وقد يصعب إزاء ذلك فهم هذا المزيج الغريب من السذاجة والنرجسية الذي يتمثل في المبالغة بالاهتمام بالذات على حساب الآخرين, ودون مراعاة لحقوقهم بالرغم من أن مبادئ الليبرالية الأساسية تنادي بضرورة احترام حرية الغير.

كل هذا يدفع الكثيرين إلى الشك في مستقبل الليبرالية سواء في المجتمع الأمريكي أو في العالم ككل وبخاصة بعد الازدهار الذي حققته التيارات المحافظة في السنوات الأخيرة. فبعد أن كان التيار المحافظ يعاني سوء الحال والمصير في الستينيات, لدرجة أن عالم الاقتصاد الأمريكي الشهير جون كنيث جالبريت Galbraith وصف المحافظين بالجهل وعدم الاهتمام بالثقافة, كما وصف التيار نفسه بالإفلاس الفكري, لم يلبث الوضع أن انقلب تماما, بحيث أصبحت الليبرالية هي التي توصف بالجهل والإفلاس وأنها دخلت مرحلة الاحتضار التي قد تفضي بها إلى الموت. وقد وصلت حالة التراجع التي تعانيها الليبرالية الحد الذي جعل ألبرت موهلرAlbert Mohler يكتب في العدد التذكاري الذي أصدرته مجلة The New Republic في مارس الماضي (2005) بمناسبة مرور تسعين عاما على صدورها موجِّها الحديث إلى القارئ فيقول: (اسأل نفسك من هو العقل الليبرالي المؤثر حقا في ثقافاتنا الآن, وأي المثل والأفكار هي التي تثير الإلهام والتأمل, وأي الكتب والمقالات هي التي تشيع وتنتشر بين الناس, وسوف تجد أنه ليس من بين هذا كله عقل ليبرالي واحد. بل إن الليبرالية تجد نفسها الآن في موقف الدفاع عن النفس في مجال الثقافة السياسية الواسع, لأن مفكريها لم ينتبهوا إلى عمق التغيرات التي تحدث الآن في العالم). والغريب في الأمر هو أن الحركات المناوئة لليبرالية بدأت في أوربا - مهد الليبرالية ومنها انتقلت إلى أمريكا ثم إلى بقية أنحاء العالم, واتخذت هذه المناوأة أشكالا عديدة كثيرا ما تتعارض بعضها مع بعض. وثمة أقوال كثيرة ساخرة تكشف عن نظرة الكثيرين من المفكرين والكتاب إلى الليبرالية. ومن هذه الأقوال أن الليبرالي هو الرجل الذي يؤرِّقه إعدام المجرمين السفاحين, ولكنه يدافع عن قتل الجنين لأن في الإجهاض تعبيرا عن حق الاختيار, أو القول إن الليبرالي هو الرجل الذي ينادي بضرورة إصدار تشريعات تتيح تعاطي الكوكايين, ولكنه ينادي في الوقت ذاته بضرورة تحريم استعمال السلاح في الدفاع عن النفس, ويعتبر رجال الشرطة مجرد خنازير والمجرمين هم ضحايا البيئة التي تحيط بهم, أو القول إن الليبرالي يرى أن الزواج أمر لا يستحق الاهتمام أو الاحترام إلا بالنسبة للمثليين, وأن جينات الوراثة هي المسئولة عن الميول الجنسية الشاذة التي تنتشر الآن في كثير من أنحاء العالم, وأن انتشار الإيدز ناجم من عدم توفير التمويل اللازم لمكافحته, وغير ذلك من الأقوال التي تهدف إلى التهوين من شأن الفكر الليبرالي بوجه عام.

بل إن الأمر وصل بمفكر مثل جون ديوي إلى أن يقول: إن الليبرالية تحولت في حقيقة الأمر إلى ليبرالية مزيفة أو ليبرالية كاذبة لأنها تجمدت وتحجرت وضيَّقت من رحابة الأفكار الواسعة العريضة التي كانت الليبرالية الكلاسيكية تبشر بها. فمع أن المصطلحات الخاصة بالليبرالية ظلت تستخدم حتى الآن من دون تغيير فإن مضمونها ومعناها ودلالاتها تبدلت بحيث أصبحت الكلمة تعني شيئا آخر مختلفا تماما. فثمة فارق بين أن تستخدم الجماعة الخاضعة للقهر مصطلحا معينا في مجال الدفاع عن الحرية وطلب الخلاص من القوى التعسفية, وأن تستخدم تلك القوى الغاشمة المصطلح نفسه لترسيخ القوة والقضاء على حق التعبير, وأنه لكي تحقق الليبرالية الأهداف التي قامت في الأصل من أجلها, فإنه يجب عليها ألا تقنع بالدعوة إلى إقرار حرية الفرد والتنديد بقوى التعسف والاضطهاد والقهر, وإنما تعمل بالإضافة إلى ذلك على إبراز الجوانب الإيجابية في النظم السياسية والاقتصادية والقانونية القائمة الآن في مختلف المجتمعات, وأن تأخذ في الاعتبار الظروف التاريخية والعلاقات المتغيرة بين الفرد والسياسة الاجتماعية.

وربما يكون في هذا القول ما يدفع مفكري الليبرالية إلى مراجعة المواقف والآراء والاتجاهات الجديدة التي تثير الاستنكار والرفض, بحيث يمكن تجديد (روح الليبرالية) وتستطيع الصمود أمام المتغيرات الحالية والمستقبلية التي يصعب التنبؤ بها بدقة, وبذلك تقضي على الشكوك التي تحوم حولها. ولكن هذه مسألة لن يحسمها إلا المستقبل نفسه.

 

أحمد أبوزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات