اليونان... التاريخ ينام على قمة الأولمب محمد المنسي قنديل تصوير: حسين لاري

اليونان... التاريخ ينام على قمة الأولمب

يشرع الشاعر الأعمى "هوميروس " قيثارته فنرحل إلى زمن الأساطير. كل حجر هنا له حكاية. وكل حكاية حفرت لها ذكرى في وجدان الإنسان. فلا يوجد بلد أخذت عنه الإنسانية معالمها الأساسية مثل اليونان. الديمقراطية والفلسفة والألعاب الأوليمبية والمسرح وكل الفنون التي تسعى إلى الكمال.

تبدو أثينا مدينة خالية من "الرومانسية". لم يعد هناك شيء من سحر الأساطير القديمة. لا الآلهة يتجولون على قمة " الأولمب " و لا أبطال التراجيديا يعانون من سقوطهم الفاجع. إنها ليست حتى عاصمة أوربية إذا استندنا للموقع الجغرافي. ولكنها خليط من مدن أوربا والعالم الثالث. لم يبق من هذا التاريخ القديم إلا شذرات متفرقة. بقايا المعابد على قمة الأكروبولس. بعض الأعمدة الرومانية الساقطة بالقرب من ميدان " السيندجما " وحي "البلاكا" الذي يعود بطرازه التركي إلى بدايات القرن الثامن عشر.

ولكن دعنا نكن حذرين. يجب ألا نطلق وصف "التركي" على أي شيء يوناني وإن كان فنجانا من القهوة. فالمشاعر ما زالت مؤججة. مطمورة فقط تحت رماد من الترقب الحذر. تكفي تحركات سفينة ضالة، أو طائرة تخترق حاجز الصوت، أو علم يرتفع على جزيرة صخرية حتى يوشك كل شيء على الانفجار، فلنقل إذن أن "البلاكا" مبني على الطراز البيزنطي.

أثينا مزدحمة بسكانها.. وبزوارها أربعة الملايين على مدار العام. وبكمية السيارات التي تعدو في شوارعها! والتي تمثل نصف السيارات الموجودة في اليونان كلها. إنها واحدة من أشد المدن الأوربية تلوثا بالرغم من أنها " ليست من الدول التي توجد فيها صناعات ثقيلة. قال لنا سائق التاكسي متنهدا: "لقد تحسنت الحالة قليلا هذا العام، ماذا لو شاهدتم الأعوام السابقة؟" أخذ يشرح لنا التدابير التي وضعتها الحكومة لفض الازدحام في الشوارع. لقد جعلت هناك أياما للسيارات ذات الأرقام الفردية، وأياما أخرى للسيارات ذات الأرقام الزوجية. كما غيرت مواعيد إغلاق المحلات بحيث لا تبلغ الذروة في وقت واحد، ولكنها كلها حلول مؤقتة. عيب أثينا كما يقول الجميع أنها قد بنيت على عجل ولم يترك لها الوقت الكافي لتلتقط أنفاسها وتبني نفسها. فقد تعرضت للاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية، ولكن ما إن رحل الألمان على أيدي الحلفاء وقوات المقاومة الشعبية "الاس" حتى بدأت حرب أهلية أخرى في الداخل بين قوات المقاومة التي كان يسيطر عليها الشيوعيون وبين الجيش الإنجليزي الذي كان حليف الأمس. ولم تهدأ الحرب إلا بعودة الملك "قسطنطين" إلى الحكم. ولكن الأمور لم تستمر طويلا.. فقد قام العسكر بانقلاب وحكموا البلاد بقبضة من حديد.

الحكم العسكري كان شيئا سيئا للغاية لليونانيين الذين ولدت على أرضهم أول ديمقراطية في التاريخ. ولكنها كانت بمنزلة الاكتشاف لنا، فعندما بدأ مثقفو اليونان في الهرب من تحت نير الديكتاتورية. عرفنا للمرة الأولى مخرجين كبارا مثل "كوكيانس" الذي فضح ديكتاتورية العسكر في فيلم "زد".. وسمعنا موسيقى "ثيودراكس" الرائعة، خاصة "زوربا" التي مازال العالم يرقص عليها إلى اليوم. وشاهدنا "ملينا ميركوري" بتعبيراتها المتوحشة وصوتها الخشن وهي ترقص حتى الجنون في "أبدا الأحد" ملينا ميركوري لم تعد إلى اليونان إلا بعد أن زال الحكم العسكري وتولت مهمة "وزير الثقافة" وخاضت صراعا مريرا ضد الدول الغربية لاسترداد الآثار اليونانية.. ولم تهدأ ملامحها الجميلة الوحشية إلا بعد أن لمسها الموت الشاحب.

ولكن يجب أن نبحث عن قليل من الرومانسية في تلك المدينة الخالية من الرومانسية، بالطبع هناك مكانان يسعى إليهما الجميع، "الأكروبولس" في الأعلى.. و "البلاكا" في الأسفل. ما أكثر الدرج الذي كان علينا أن نرتقيه، أعمدة، الأكروبولس البيضاء تبدو متألقة فوق القمة. ولكن الدرج لا ينتهي. كلمة "أكرو" تعني المكان المرتفع. و"بولس" تعني مدينة.. ويعني هذا أننا نصعد إلى أعلى مكان في المدينة. إنه المكان الذي اختاره الإغريق القدامى ليحتموا فيه عند قدوم أي غزاة. لقد كانوا دائما أهل بحر. يدركون أيضا أن الخطر يأتي من البحر. لذلك اختاروا هذا الموقع الذي يبعد عن البحر بحوالي عشرة أميال، حتى يروا الأعداء مبكرا ويستطيعوا الصعود إلى هذا الموقع المرتفع.. كان هذا المكان يضم جدرانا ومنافذ سرية وأنفاقا تتيح لهم تحمل أيام الحصار الطويلة. ولا بد أنهم أرادوا أولا إنهاك الأعداء بصعود مثل هذا المكان المرتفع.

الزحام شديد وأربعة ملايين زائر سنويا يتدافعون للنظر إلى أشهر رموز الثقافة الغربية.."البارثينون"، لقد أراد "بركليس" عندما قام بإنشائه أن يكون رمزا لأثينا وعظمتها. ولعله لم يتصور أنه سوف يصبح رمزا لعصور النهضة التي شهدتها أوربا، الأعمدة منتصبة والسقف الحجري مازال متماسكا، أما الطلاء فقد ذهب. لم يترك إلا بقايا ضئيلة من الندوب في الصخر. المدخل الوحيد ينحدر إلى أسفل إلى "الاجورا" أو السوق القديم. من هذا الدرب هبط المعلم سقراط بعد أن أخذ الحكمة من أفواه الآلهة، وهبط بها إلى الناس. وقف وسط "الاجورا" يناقش الجميع عن الخطأ والصواب والخير والشر والميلاد والموت. كان الحوار هو وسيلته الوحيدة لاستنطاق الجميع وإظهار خطأ المنطق الذي يحتمون خلفه، ترى كم مرة صعد وهبط هذا الدرب قبل أن يتناول كأس السم بيده طائعا. "البارثينون" ليس وحده فوق التل، ولكن هناك معابد أخرى أصغر حجما. معبدالبرومليا بأعمدته الرفيعة. أنه لا يضاهي البارثينون في عظمته، ولكن شهرته من الرسوم التي كانت تغطي جدرانه وتتحدث عن الوقائع التي ذكرها "هوميروس" في إلياذته الشهيرة. بجانبه يوجد ذلك المعبدبالغ الجمال للالهة أثينا. يقف على حافة الربوة بحيث يطل من بعيد على ميناء بيتريه وخليج "سارونيك" في هذا المكان كان يقف الملك "أجيوس" كل يوم في انتظار الصاري الأبيض المرتفع حتى يلوح في الأفق. كان ابنه "ثيزيس" قد رحل إلى جزيرة "كريت" ليقتل "الميناتور" ذلك الوحش الذي يتكون من نصف رجل ونصف ثور. وعندما عاد "ثيزيس" كان سعيدا بانتصاره لدرجة أنه نسي أن يغير شراع السفينة الأسود ويضع الأبيض بدلا منه. وعندما رأى "أجيوس" الشراع الأسود يلوح في الأفق اعتقد أن ولده قد مات فانفطر قلبه من الحزن ومات قبل أن يعرف الحقيقة. من المثير للدهشة أن هذا المعبدقد أعيد بناؤه بأكمله من القاعدة إلى القمة في القرن التاسع عشر. فقد قام الأتراك بهدمه قبل ذلك بمائتي عام ليستخدموا أحجاره كقواعد لمدافعهم. واستعان الأثريون في إعادة البناء بأحد النقوش التي كانت تصور المعبد.

معبدآخر مميز يوجد في مواجهة البارثينون، إنه "الأركثيون" وهو قائم على ستة أعمدة كلها منحوتة على هيئة نساء يحملن سقف المعبدفوق رءوسهن. في هذا المكان - كما تقول الأساطير - حدث الصراع بين أثينا ربة الحكمة وبوسيدون إله البحر. من منهما له الحق أن يكون حامي هذه المدينة الآخذة في النمو أسفل التل. أشارت أثينا بعصاها فأخرجت إحدى أشجار الزيتون. وزفر "بوسيدون" فخرج ينبوع من الماء العذب. ولكن الآلهة اختارت شجرة الزيتون وتوجت أثينا آلهة للمدينة وأخذت عنها اسمها. ولكن من هن هاتي النسوة اللواتي يقمن مقام الأعمدة؟!. يقول البعض إنهن يمثلن عذراوات اليونان اللواتي كن يقمن على خدمة أثينا. وكن يمارسن الدعارة المقدسة بين الصلوات. ويقول البعض الآخر إنهن أرامل مدينة "كاريايا" التي تحالفت مع الفرس ضد مواطنيهم من أهالي اليونان وكان عقابهم بعد هزيمة الفرس هو القتل وبقيت النسوة رمزا لكل ما حدث.

السارق الأعظم

موجات من الزحام تتدافع للتجوال بين الأطلال. مدخل متحف "الأكروبولس" الصغير مزدحم لدرجة أنني لم أستطع الدخول في أول الأمر. جلست على أحد الأحجار بجانب المدخل الرئيسي. كان هناك الكثيرون يلتقطون أنفاسهم بعد هذه الجولات الطويلة. بجانبي تجلس سيدة إنجليزية في مؤخرة العمر. وبرغم ذلك كانت تتمتع بروح مرحة وتضع على رأسها الطاقية اليونانية التقليدية وتعلق على كل شيء بكل - مات ساخرة، قالت لي بعد أن تعارفنا "أنا حفيدة السفير اليجن" كدت أصرخ فيها "سارق الآثار"؟ ولكن كتمت صرختي بصعوبة، ولا بد أنها أحست بتلك الكلمات فوق تعبيرات وجهي. هتفت.. "هذه الأحكام غير صالحة الآن، كان الأمر مختلفا في ذلك الوقت، على الأقل لقد أنقذ الكثير من الآثار اليونانية من الدمار على أيدي الترك".

لكل واحد منطقه الخاص. ولكن المؤكد أن قدرا كبيرا من أسباب ذلك التدافع المحموم إلى قمة "الأكروبولس" يعود إلى ما فعله سعادة السفير إليجن. فتاريخ البارثينون هو تاريخ مضطرب لمدينة قلقة. عاشت طويلا، وماتت أكثر من مرة ثم بعثت من جديد. ولقد أتيح لنا أن نشاهد جزءا من هذا التاريخ الطويل بواسطة برنامج الصوت والضوء الذي يقام كل ليلة. في البداية ارتفع صوت "بركليس" وسط الظلام وهو يدعو أهل أثينا للتضافر معا من أجل بناء البارثينون، رمزا وتعبيرا عن انتصارهم على الفرس بعد العديد من الهزائم. وقد فعل ذلك بالأسلوب الديمقراطي القائم على التطوع. الأغنياء بالمال والفقراء  بالعمل. عاش نصب البارثينون طويلا حتى بعد أن فقدت أثينا دورها وتحولت إلى مجرد محمية رومانية، ولكن المتاعب ظهرت مع انتشار المسيحية حين أصر الإمبراطور "جوستانيان" على تحويله إلى كنيسة بيزنطية. وفقد المكان ملامحه الكلاسيكية القديمة. ثم جاء الترك ليغيروا معالم كل شيء. أقاموا فوق التل موقعا استراتيجيا يتحكم في المدينة. وحولوا الكنيسة إلى مسجد. أما معبدالأركثيون بأعمدته النسائية فقد غطي بالستائر وتحول إلى مقر للحريم. وعندما ثار الجميع ضد الترك في عام 1684 قاموا بهدم معبدأثينا لاستخدامه كقواعد لمدافعهم كما ذكرنا. وقد سقطت إحدى القذائف على مستودع تركي للبارود فوق التل وظلت النار مشتعلة في البارثينون والأحياء المجاورة له لمدة ثلاثة أيام.

مع بدايات النهضة الأوربية تحولت الحضارة الإغريقية إلى رمز للانبعاث الجديد. وظهرت موجة الكلاسيكية الجديدة التي تمثلت كل ما في معالم الحضارة القديمة من الجمال. وتقاطر الساسة والفنانون ومهربو الآثار في حمى لاقتناص ما يمكن اقتناصه. أشهرهم كان السفير الفرنسي "فيوفال" الذي جمع معظم القطع الموجودة في متحف اللوفر حتى الآن. ولكن أخطرهم بلا شك كان السفير البريطاني اللورد "إليجن" . لقد أخذ اللورد الموقر تصريحا من الأتراك بأن يقوم ببعض الحفريات، وأن يزيل بعض الأحجار القديمة من البارثينون. ولا بد أنه قد دفع الكثير من الرشاوى لأفراد الحامية العسكرية التركية لأن ما نقله تجاوز بضعة أحجار إلى أعمدة كاملة، وأفاريز ولوحات جدارية. بل إنه أخذ تمثالا من تماثيل النساء الست التي ترفع معبد"الإركثيون" وقد قام ببيع كل هذه القطع للمتحف البريطاني. وأثار جمالها اهتمام الجميع بمن فيهم لورد بيرون الذي قرر أن يسافر إلى اليونان ليشارك في حرب استقلالها. ويقال إن بيرون قد شاهد شحنة آخر سفينة قام بها "لورد إليجن" وهي حافلة بقطع الأحجار والأعمدة والتماثيل في عام 1810.

هل هو سارق فعلا، أو كما تقول حفيدته إن المعايير كانت مختلفة في هذا الزمن. وأن اللورد قد أنقذ تحفا فنية كان يمكن أن تدمر وتختفي تماما؟! لقد كانت معركة وزيرة الثقافة اليونانية ملينا ميركوري الأساسية هي استرداد هذه التحف وقد نجحت في ذلك بالفعل وكانت القطع التي استردتها هي نواة متحف "الأكروبولس" الذي أنشئ بجانب هذه المعابد.

منذ عام 1975 والتقارير تتنبأ بانهيار البارثينون. وعلى أثر ذلك اتخذت الإجراءات الحاسمة. منع الزوار من دخول المكان وانتشرت السقالات العملاقة وأصبح المكان الأثري أشبه بموقع للبناء. وبدا واضحا أن اليونان قد فقدت رمزها الرئيسي. وحاولت وزيرة الثقافة ملينا ميركوري التخفيف من هذا الأمر قدر المستطاع فأمرت بأن يستمر العمل في الليل. وأن تخفى الرافعات وسط الأعمدة أثناء النهار. ولكن الترميم تأجل أيضا بسبب جدل حاد ثار بين الذين يعارضون إدخال أي نوع من الرخام الجديد اللامع إلى المبنى والذين يريدون ترميما كليا لا يعيد للمبنى صورته التي كان عليها، ويعطي فكرة للملايين الأربعة الذين يقومون بزيارته عن عظمته السابقة. وقد أيدت ملينا ميركوري الفكرة الأخيرة، ولكنها لم تدخل حيز التنفيذ إلى الآن.

قلب المدينة

"البلاكا" مزدحمة دائما والأسباب مختلفة. كانت جولتنا بها يوم الأحد وفوجئنا بأننا نخوض وسط "سوق البراغيث"، الذي يعقد دائما كل أسبوع. مئات من المناضد والحوانيت الصغيرة وهي تعرض كل أنواع البضائع. ملابس وأحذية وألعاب أطفال وأنتيكات إغريقية مزيفة. أشياء جديدة وأخرى بالغة القدم. زحام من اليونانيين والأجانب. كل واحد يبحث عن ذكرى. و "البلاكا" تحيط بنا. تأخذنا ببيوتها العتيقة وحواريها الضيقة إلى قرن مضى من الزمن. إنها الحي التركي - أقصد البيزنطي - إن السحر فيها لا ينبع من أنها تأخذك من خنقة المدينة فقط لأن السيارات لا تدخلها ولكن لأن طبقات التاريخ تتراكم في مبانيها. أماكن رومانية، وكنائس قديمة ومتاحف، إنها تتيح لك لمحة من الماضي الشرقي الذي عاشته أثينا قبل استقلالها. لقد ظلت هي قلب المدينة لعدة قرون، بيوتها متنوعة، بعضها متواضع. وبعضها سخي الثراء. الواجهات مزينة بالتماثيل. تطل عليك رءوس "ميدوزا" من كل ناحية، آلهة بلحى، مجعدة، شرفات حديدية بارزة معلقة عليها أصص الأزهار.

وتنام أثينا ولا تنام البلاكا. كل شوارعها تتحول إلى مطاعم مفتوحة للهواء الطلق. يتجول فيها الحواة وعازفو البيانو والهارمونيكا وبائعو الورد والقبعات التقليدية الطويلة الزر. الجرسونات يلحون عليك أن تجلس عندهم ولو قليلا وتتذوق أي شيء. لا يستطيع أحد أن يقاوم متعة العشاء وسط زحام البلاكا، ولكن الأسعار نار، سوف تكتشف فورا أن أثينا واحدة من أكثر العواصم الأوربية ارتفاعا في الأسعار، ولعل هذا ما يجعلها تفقد الكثير من "رومانسيتها".

ولكنها بلد مفتوح بالتأكيد. العرب هناك بكثرة، المصريون يعملون في مختلف الحرف. إنهم يعيدون الكرة لليونانيين الذين كانت أعداد غفيرة منهم تعمل في مصر. الكثيرون منهم مازالوا يعرفون اللغة العربية، العامية المصرية بالذات. ميناء "بيريه" الذي لا يبعد عن العاصمة إلا عشر دقائق بواسطة مترو الأنفاق فيه مقهى "أم كلثوم" يرتاده عمال البحر المصريون ليستمعوا إلى صوت الست وهم يشربون الشاي الغامق. في حدائق بيريه توجد عشرات الأسر العراقية، بلا مأوى تقريبا، كلهم هاربون إلى لا شيء. الهرب بأي صورة وبأي ثمن. عندما كنا هناك شاهدنا من خلال التلفزيون بعضا من جوانب هذه المأساة حوالي 15 لاجئا عراقيا ركبوا إحدى السفن التركية بعد أن اتفقوا مع ربانها أن يأخذهم إلى شواطئ اليونان. ولكن الربان بدلا من ذلك حملهم إلى إحدى الجزر الصخرية المهجورة وأوهمهم أنه شاطئ خال وأن عليهم التسلل قبل أن يلحظهم حرس الشواطئ. وهكذا تركهم في العراء لمدة ثلاثة أيام. دون ماء أو طعام أو شيء يحميهم. واكتشفتهم إحدى دوريات البحرية اليونانية بالمصادفة ونقلتهم من الجزيرة وهم على شفا الموت، مأساة عربية أخرى تتفوق في حدتها على المآسي الإغريقية الشهيرة.

ولكن.. آن لنا أن نبحث عن شيء من الرومانسية، لعلنا نجدها خارج أثينا

شاعر الحرية

كانت السيارة تمضي بنا منطلقة على طول الساحل الجنوبي في اتجاه "ميسولونجي". بدت مدينة صغيرة ضائعة وسط البحر الذي يحيط بها من جانب والتلال الجرداء من الجانب الآخر. ولابد أن "بيرون" وجدها بنفس هذه الهيئة حين جاء إليها من إنجلترا في يناير 1881. بوابة المدينة القديمة مازالت قائمة، "بوابة المنفى" أخذت هذا الاسم أثناء الحصار التركي  للمدينة في القرن الماضي حين حاول 850 من السكان، معظمهم من النساء والأطفال أن يرحلوا بعيدا تاركين الرجال للدفاع عن المدينة. كان هدفهم هو الوصول والاحتماء بجبل "زايجوس" ولكن الأتراك رصدوهم وقبل أن يصلوا إلى الجبل وصلت إليهم خيالة من الألبانيين وذبحوهم جميعا.

خلف البوابة مباشرة توجد حديقة الأبطال، حيث توجد قبور الذين دافعوا عن هذه المدينة أثناء هذه الحرب. بور معظمها بلا أسماء. تضم رفات جنود مجهولين. الأسماء قليلة. القائد اليوناني الشهير "ماركوس بوتساريس". وبجانبه يوجد قبر يعلوه تمثال بيرون أقيم عام 1881م.

في هذا المكان دفن قلب الشاعر الإنجليزي المعروف لورد بيرون، أما بقية جسمه فقد أخذ ليدفن في بلدته "نيو سيتد آبى" بالرغم من وصية الشاعر "دعوا عظامي تترك آثارها في الأرض. وادفنوني في أقرب زاوية بلا أبهة ولا ضجيج ". وبرغم كلمات القصيدة فقد نقل الجسد بعيدا عن أرض اليونان. ووضعت لمسة من الأبهة على أحجار الضريح عندما نقش عليها رسم عليه تاج ملكي. فقد كان معروفا وقتها أن بيرون سيكون ملك اليونان المستقلة. وبعيدا عن قبر بيرون وسط أشجار البلوط توجد مقابر أخرى لجنود الحلفاء الإنجليز والأمريكيين والفرنسيين الذين ماتوا دفاعا عن اليونان في الحرب العالمية الثانية.

المدينة هادئة، تبدو كما رآها بيرون للمرة الأولى. البيت الذي كان يقيم فيه هدم أثناء الحرب وأقيمت بدلا منه حديقة تذكارية. هناك متحف صغير أيضا مخصص من أجل الثورة، فيه بعض اللوحات الفنية وبعض المخلفات التي تركها بيرون وربما كان أجمل ما في المدينة هو لحظة التجوال حول البحيرة وتذكر كل ما حدث.

لقد امتلك بيرون كل شيء تقريبا. ورث اللقب النبيل والثروة وموهبة الشعر ومكانا في البرلمان وفي قلوب النساء. وأصبح نموذجا لشباب أوربا يقلدونه في الملابس وتسريحة الشعر ولكنه ذات لحظة قرر أن يهجر كل هذا ويهب عمره لقضية استقلال اليونان. فقد وجد نفسه يهتز رعبا وهو يسمع عن مهد الحضارة الإنسانية ورمز الديمقراطية الغربية والدم يسيل منها تحت نير الحكم التركي. وهكذا وصل إلى ميسولونجي واستقبله رجال المقاومة اليونانية بـ 21 طلقة. فقد كان موقع المدينة والجزر التي تملأ البحر الأيوني حولها تسمح بوصول الإمدادات من الخارج دون أن تقع في أيدي الترك.

قبل أن يصل بيرون إلى "ميسولونجي" كان قد وهب كل ثروته لصالح الثورة. لذلك فقد عين فور نزوله إلى الشاطئ قائدا لخمسة آلاف جندي وهو منصب عسكري حقا ولكنه سياسي في المقام الأول. فقد كانت القوات اليونانية تحت قيادة الجنرال "كلفاتس" لا تعاني من الانقسام ومن الحاجة إلى العتاد والنقود حتى أن القائد عجز عن تجميعها معا كي يقتحم بها خليج "كورنث" وكانت الحالة سيئة كما وصفها بيرون في إحدى مقالاته إلى الصحف الإنجليزية: "هنا نعيش في حقل من الطين والنزاعات" وفي الوقت الذي كان فيه عشاق الإغريق يعودون إلى بيوتهم بعد أن تخلوا عن أوهامهم فضل بيرون أن يبقى. بدأ يجمع الجنود ويخطب فيهم بفصاحة ويتدرب معهم على إطلاق النار ويجدف في البحيرة ويكتب الأشعار، ولكن الحمى اقتنصت. كانت هي العدو الذي لم يستطع مقاومته ومات في 19 أبريل 1824 بعد أن كتب وصية قال فيها "كل ما أملك. وما أقدر عليه أهبه من أجل قضية اليونان..ها هي حياتي أيضا".

"وانتشرت أخبار موت الشاعر في كل أوربا ! وتصاعدت تأوهات المعجبين ببطولته. وغير هذا الأمر من مسار الحرب في؟ اليونان. وعندما سقطت ميسولونجي في أيدي الترك من جديد في عام 1826 ثارت ضجة كبيرة ولم يجد الأصدقاء الأعداء "إنجلترا وفرنسا" بدا من التحالف معا وإرسال أسطول مشترك وهناك تقابل مع الأسطول التركي وأسطول محمد علي باشا في معركة "نافارين" وحطمهما تماما وكانت هذه هي بداية استقلال اليونان وبداية أفول الإمبراطورية العثمانية، بل وانتهاء أحلام الوالي الألباني في مصر أيضا.

لقد ظل بيرون منذ استقلال اليونان وحتى الآن بطلا قوميا. ولا تخلو أي مدينة من شارع يحمل اسمه بعد أن أخذ اللكنة اليونانية "فيرون ". بل كانت هناك ماركة للسجائر تحمل نفس الاسم.

رموز وأطلال

في اليونان سواء اتجهنا إلى الشمال أو الجنوب فسوف نصل إلى بلدة أو قرية نائية تحولت لتكون أحد الرموز الإنسانية. ومن الصعب تخيل كيف أن هذه القرى لصغيرة بما فيها من فلاحين تبدو عليهم ملامح الشقاء قد أثرت الحضارة لهذه الدرجة. كانت السيارة تخترق بنا تلال البلوبيز على طول الساحل الممتد على بحر كورينث متجهين إلى أرجوس. عشرات المعالم تمر بنا وكل واحدة لها ذاكرة أسطورية، في خليج كورينث كفت الريح عن الهبوب ولم تسر سفن الجيوش الراحلة إلى حرب " طروادة " حتى تتم التضحية بعذراء لم يمسسها رجل. وكان أن قام الملك "أجا ممنون" بالتضحية بابنته العذراء إفيجينا، فهبت الريح، فيا لفداحة الثمن.

نعبر الآن فوق قناة كورينث. إنها قناة صناعية أقصر وأصغر من قناة السويس. وهي تصل بين البحرين الأوجني والأيوني وتم حفرها أيام الرومان أيام الإمبراطور "نيرون" الذي استعان في حفرها بمعاول من الفضة وبعبيد من اليهود وطبعا لا بد أن يزعم اليهود أنهم حفروا هذه القناة مثل زعمهم أنهم هم الذين بنوا الأهرام وقادوا كولمبس إلى أمريكا، ولم ينجح كثيرا في وضع الفكرة في حيز التنفيذ. وكان على اليونان الانتظار حتى عام 1893 لتتطور التكنولوجيا أكثر ويكونوا قادرين على حفر هذه الكيلومترات الستة في عمق الصخور.

نصعد تلال أرجوس. حقول الزيتون تنتشر في كل مكان ولكنها لا تخفي وعورة الأرض.؟ نتوقف عند مدينة "ميكينس" ووفقا للأساطير؟ القديمة وبالتحديد للأوديسة التي كتبها "هومر" عن ضياع "أوديسوس" وسط البحار فقد كانت هذه مدينة "الميدوزا" التي كانت خصلات شعرها مكونة من الثعابين، ثم بعد ذلك أصبحت في أيدي ملوك أتريس، ومنهم خرجت ميديا المرأة الملعونة في كل المآسي الإغريقية لأنه حين أيقنت أنها قد فقدت حب زوجها قامت بقتل ولديها. نعبر بوابة الأسد ونرتقي درة القلعة القديمة. هنا كان يسكن "السيكلوب" ذو العين - الواحدة. وحين صارعه "أوديس" لم يستطع الانتصار عليه فعصر له العنب وخمرا وشرب السيكلوب حتى سكر واستطاع "أوديس" أن يفقأ له العين الواحدة. لم يبق من هذه القلعة إلا أطلال دارسة، أحجار وبضع درجات ودوائر من الصخر. بجانبها يوجد القصر الملكي. هنا كان يقيم "أجا ممنون" أكبر الفرسان الذين عرفتهم اليونان. كان هو قائد الجيوش اليونانية التي ذهبت لحرب طروادة، وبرغم أنه عاد منتصرا فإن زوجته لم تنس أنه ضحى بابنتيهما "إفيجينيا" من أجل إرضاء آلهة الريح فقامت بقتله بمعاونة أخيه. ولم ترض ابنتها "إلكترا" عن ذلك فحرضت أخاها "أورست" على الانتقام من ابنة عمه، ويقال إن جسد "أجا ممنون" بعد أن مات تحول إلى هذه التلال التي تحيط بنا، أساطير وحكايات لا تنتهي. برغم أن كل ما نراه حولنا هو مجرد صخور، لا يوجد شيء قائم في في الواقع، ولكن كل شيء قائم في المخيلة. نصل إلى أرجو، أقدم مدن اليونان. وكالعادة لا يمكن أن تكتشف ذلك من أول انطباع. المتحف وما فيه من مكتشفات لا يعطيك أيضا سوى لمحة موجزة. ولكن الأمر يختلف في مدينة "إبيد فاروس" حين تجد نفسك في مواجهة أقدم المسارح الإغريقية. تاريخه يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد ومنذ ذلك  الحين وهو أهم مركز للدراما والاحتفالات التي تعقد سنويا وتقدم المسرحيات يومي الجمعة والسبت من أول شهر يونيو حتى أغسطس. كانت المدرجات العملاقة ترتفع أمامنا. متآكلة الأطراف ولكنها متماسكة في انتظار قدوم الجمهور من أي عصر من العصور. كانت الاستعدادات قائمة بالفعل لتقديم مسرحية "أوديب في كولونا" إحدى الكلاسيكيات القديمة لسوفكليس. تمتد تحت أقدامنا أسلاك الكهرباء ومكبرات الصوت وترتفع لمبات الإضاءة أشياء تنتزعك من عمق التاريخ. ولكن العبق القديم يرتفع مختلطا بصيحات الجمهور.

الصوت لا يضيع بين أرجاء المسرح، فمن أين كانوا يجيئون بالضوء؟ لا بد من عشرات المشاعل التي كانت تكون دائرة حول الجوقة وهي تردد مراثي الأبطال. مثل كل شيء في اليونان بدأ المسرح كطقس ديني. احتفالات الإله دنيوس إله الكروم والإنبات والنبيذ. وعلينا أن نتخيل الصخب الذي كان يسود هذه الاحتفالات حين يلبس الناس أقنعة الحيوانات وهم يرقصون في الطرقات. ثم يصلون إلى هيكل الإله فيبدءون في إنشاد القصائد. وهي قصائد يلقيها أكثر من واحد، ثم تطورت لتصبح جوقة من المنشدين يشرف عليها أحد الرؤساء. ومن هذه البذرة ولد المسرح، وتميزت أشكاله حسب موسم الاحتفالات. في يناير حيث يبدأ الغرس والبذر تسود الجدية فتتلى القصائد المأساوية. وفي مارس عندما ينضج العنب وتعصر الخمر يسود الهزل والمرح. ولعل "إيسخيلوس" هو الذي ولد الرعب المقدس في القلوب. فقد أخذ موضوع المسرحيات التي ألفها من المآسي القديمة حيث يلقي القدر بظلاله الكثيفة على مصائر الأبطال.

الرياضة بدلا من الحرب

نحن نقترب الآن من موطن الأساطير، نقترب من أولمبيا، واحد من أكبر وأجمل الأماكن في اليونان. الوادي المليء بأشجار الزيتون والبلوط يشقه نهران توأمان هما الفيوس وكالديوس تطل عليهما تلال كرونوس المغطاة بأشجار الصنوبر. غير هذا توجد بقية الآثار العظيمة التي ملأت الحكايات مجرد أحجار تعاني من قلة العناية والترميم. الأعمدة مكسورة وملقاة على الأرض وسط الحشائش. إنها لا تعطي إلا لمحة ضئيلة عن التاريخ القديم للألعاب الأولمبية التي تحولت الآن إلى مناسبة دولية تتكرر كل أربع سنوات.

لم تكن الألعاب الأولمبية في بدايتها غير مجرد طقوس دينية، ثم أصبحت رمزا للسلام والوئام الذي ساد بين مملكة "إيليدس" التي كانت قائمة في هذا المكان وبين إسبرطة التي لم تكن تكف عن القتال، وتقول الوثيقة الأولى "إن أولمبيا مكان مقدس وكل من يجرؤ على دخولها وهو يحمل سلاحا يكوى بالحديد ويعتبر ملحدا" وبذلك اكتسبت المدينة قدسيتها وكل هذا لم يمنع من أنها تعرضت للأوبئة والمجاعات مما دفع أهالي إيليدس للذهاب إلى عرافة "دلفى" التي أخبرتهم في غموض أن يعودوا إلى ألعاب الأجداد، وكان من الواضح أنها ألعاب قديمة. أو ربما كانت جزءا من طقوس الغرس والحصاد التي حملوها معهم أثناء هجرتهم من آسيا الوسطى. وبعيدا عن الأساطير فإن المدن الإغريقية المتنافرة فيما بينها كانت بحاجة إلى رابطة غير رابطة الحرب والصراع، لذلك فقد فرغت التمارين العسكرية من غايتها وهي تدمير الخصم وحولتها إلى منافسة هذا الخصم والانتصار عليه دون إيذاء. وربما كان هذا السبب أن أهل أسبرطة - الذين كانت تغلب عليهم النزعة الحربية - كانوا الأكثر حماسا في تنظيم هذه المباريات. وقد قبلت بقية المدن الاشتراك فيها بدافع الخوف من أسبرطة، ثم تحول ذلك إلى حماس للألعاب نفسها، سعيا لنيل شرف الفوز فيها.

لقد تعرضت أولمبيا لأكثر من زلزال، فقد اختفت مرة عام 551 ق. م، ثم اختفت للمرة الغانية بعد ذلك بحوالي ثلاثين عاما. ولكن حلمها لم ينته. توالت المحاولات لإحيائها من جديد. حاولت اليونان ذلك بعد استقلالها. ولم تفلح بذلك، ولكن شابا فرنسيا من أسرة عريقة حلم بذلك. كان هو البارون بير دي كوبرتان . كان يؤمن بأن الرياضة هي خير وسيلة للتربية وأفضل وسيلة للوصول إلى السلام في عالم اكتوى بنيران الحرب العالمية الأولى. وفي منتصف مدينة أثينا وبالقرب من ميدان "السيندجما" توقفنا أمام المدرج الذي مر عليه الآن مائة عام، كان حلم "دي كوبرتان" قد تحقق في هذا المكان واستطاع أن يقيم أول دورة أولمبية في العصر الحديث عام 1906. كانت دورة متواضعة والنتائج أكثر تواضعا ولكن الدورة استمرت وتوسعت. عطلتها الحرب العالمية أحيانا ولكنها تواصلت بعد ذلك. وتحول الحدث الذي كان يقام في قرية يونانية منعزلة إلى حدث يحتفل به العالم كله، وهو يأمل مثلما حاولت المدن اليونانية من خلاله أن تمنع الحروب فيما بينها كما تحاول دول العالم الآن أن تفعل ذلك.

الرومانسية الحقيقية للباحثين عنها تكمن خارج الساحل اليوناني، اكتشفت ذلك وأنا أركب سفينة الركاب الضخمة المتجهة لزيارة الجزر المتناثرة في بحر إيجة. أكثر من ثلاثة آلاف جزيرة متناثرة مثل شجرة زيتون انفرطت حباتها. بعضها مجرد قطع من الصخر بارزة فوق صفحة الماء، والبعض الآخر جزر آهلة بالمدن والناس والتاريخ. بل إن جزيرة كريت وهي أكبر هذه الجزر هي التي شهدت بدء الحضارة الإغريقية.

موطن الحضارة الأولى

السفينة تبحر وسط مياه شديدة الزرقة، زرقة ناصعة لا نراها إلا وسط أمواج المتوسط. طيور الماء تطير في حلقات، وأفواج السائحين قد بدأت تأخذ غفوتها تحت الشمس الساطعة والجزر تتوالى أمام أنظارنا. الأسماء كثيرة ومن العسير أن نتذكرها، ربما نتذكر "هيدرا" جزيرة الفنانين ذات المنازل المتناسقة الألوان، التي تتراخى صاعدة إلى أعلى من الميناء حتى قمة التل حيث توجد كنيسة الجزيرة. أسفل توجد المقاهي المكشوفة والفنادق والمطاعم ومحلات بيع العاديات ذات النقوش الإغريقية المزركشة. لقد تحولت الجزيرة إلى مستعمرة فنية عام 1960 حيث أعيد ترميم الجزيرة كلها وإعادة طلاء بيوتها لتصبح مثل هذه الجزيرة المتألقة.

ولكننا يجب أن نتوقف بعض الشيء في كريت. إنها الجزيرة التي خرج منها أعظم أدباء اليونان وواحد من أعظم أدباء العالم "نيكوس كازانتزاكيس" . لقد أرخ للجزيرة من خلال أدبه لكل المراحل التي عاشتها. صور أحزانها وهي تحت الحكم التركي. وكتب عن ازدياد درجة هذا الحزن أثناء الحرب الأهلية بين الإخوة الأعداء، وعن معاناته الروحية والفكرية. وفي كل هذا كان هناك هاجر واحد يسيطر عليه، كأنها رواية واحدة يعيد كتابتها أكثر من مرة، عذابات المسيح الإنسان وألمه فوق الصليب.

قال عنها هوميروس في الأوديسة: "في عرض البحر الخمري، تقع أرض الجمال والثراء، معزولة وسط الأمواج ولكنها مكتظة بالبشر والمدن. فيها تسعون مدينة، أعظمها كنسوس، الذي بنى المتاهة وحبس فيها الميناتور".

نعود إذن لاستكمال الأسطورة التي بدأناها على هضاب الأكروبولس، أسطورة "ثيزيه" الذي ترك أباه الملك أجيوس وذهب إلى كريت ليقضي على الميناتور، كان هذا الميناتور يعيش وسط متاهة من يدخلها لا يخرج منها وفي كل عام يطلب أضحية من أهل أثينا عبارة عن سبعة أولاد وسبع فتيات. وجاء ثيزيه فربط خيطا يقوده من أول المتاهة إلى آخرها واستطاع أن يقتل الوحش ويجد طريق العودة إلى الخارج.

كريت إذن أكثر من جزيرة بالنسبة لليونان. إنها المكان الأول الذي استوطنت فيه القبائل الأولى التي هاجرت من آسيا الصغرى حاملة معها طقوسها الخاصة بالخصوبة والنماء، وأقاموا أول حضارة عرفتها أوربا أي ما يسمى عصر ما قبل الكلاسيكية. وكانت هي واسطة التجارة بين مصر وبقية الأرخبيل الإغريقي، وقد ازدهرت واستوطنها العديد من الأقوام وبدأت فيها مرحلة الكتابة. وقد أثبت العلماء أن أصلها هو الهيروغليفية.

أهم ما في كريت هو تميز المرأة، ليس في عصرنا الحالي فقط ولكن منذ أقدم العصور. الرسوم تظهرهن دائما وهن جالسات في الصفوف الأمامية أثناء الاحتفالات. وخلال الألعاب الرياضية كان الأولاد والبنات يتبارون على قدم المساواة. وكانت الزيوت والمعاجين من أهم مستحضرات التجميل التي تصورها هذه الجزيرة. ولا بد أن رجال العصر قد تأثروا بهذا الجو الأنثوي الذي يسود الجزيرة، فقد كانت ثيابهم وشعورهم أشد أناقة من المعتاد.

من الصعب عليك أن تنسى عاصمة الجزيرة "أركليون"، بجوها المنعش وأسواقها والآثار التي تحيط بها ولا ذلك البحر العميق الزرقة التي يحف بها. إنها المدينة الأولى التي تعلم فيها الإنسان حروف الحضارة، ولا بد أن قربها من حضارة العالم الأصلية في الشرق الأوسط - وفي مصر بوجه خاص -كان له أكبر الأثر عليها.

الفن وكماله

هل كان الفن الإغريقي هو الكمال كما يقولون؟

مهما قيل عنه فلم يبق منه إلا شذرات إذا قيس بالفن المصري القديم. ليس هذا تعصبا، ولكنه مشاهدة شاهد عيان كلت قدماه من التجوال في متاحف الدنيا الواسعة.

يقول النقاد إن سر كماله ليس التناسق ولا الجمال، ولكن لأنه بالدرجة الأولى كان يهتم بالإنسان. لذلك لم يهتم بالضخامة والجلال والأبهة التي نجدها عند المصريين القدماء الذين سخروا فمنهم من أجل إرضاء الآلهة. حتى آلهة الإغريق كانت على صورة البشر، ولها صفات البشر وحماقاتهم أيضا. أي أن الإنسان عند الإغريق كان دوما محور الكون. وفي مسرحية "أنتيجون" الذي كتبها "سوفكليس" تهتف الجوقة "كم في الكون من عجائب، ولكن ليس هناك أعجب من الإنسان ".

فنانو مصر القديمة كانوا مجهولين. رسموا الملوك والآلهة - فخلدت أسماء الملوك وظلوا هم بلا اسم. ولكن فناني الإغريق كانوا يضعون أسماءهم على كل قطعة يقومون بصنعها. حق الملكية الفكرية كما يطلق عليه في أيامنا هذه.

وكان الإغريق يدركون أن الإنسان مليء بنقاط الضعف، لذلك صور على الجدران وهو جريح وجسدته الدراما وهو يعاني من السقوط بسبب هذا الضعف. أما المصريون فلم يصوروا إلا ملوكا متوجين وقادة منتصرين.

ربما كان كل هذا على حق، وربما لم يكن كذلك، فالآثار الباقية لا تشفي غليلنا. ولكن الرسوم المصرية القديمة تركت لنا كل شيء تقريبا، الملوك والآلهة والناس، وبذلك استطعنا أن نكون فكرة متكاملة عن الحياة اليومية للمصريين القدماء وهو الأمر الذي لم نتوصل إليه بالنسبة لليونان. وعلى أي حال فلا يمكن عزل الحضارات عن تفاعلها معا فالابتكار هو أصعب الأشياء تحت الشمس، ولكنها أفكار تتطور وتنمو وتأخذ أشكالا مختلفة مع كل حضارة تذهب إليها.

الإغريق هي واحدة من أجمل أحلام البشرية، وربما كانت قلة آثارها هي التي نسجت حولها كل هذه الهالة. وتبقى اليونان وسوف تبقى دوما مجموعة من الصخور المتناثرة تحمل في طياتها كل أساطير الوجود.

 

محمد المنسي قنديل 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




صورة الغلاف





عازف البيونولا المزينة بالأزهار.. ألحان عذبة من الماضي البعيد..





بعد أن قام "زوربا" برقصته الشهيرة أصبح للرقص الشعبي اليوناني شهرة عالمية





قناة كورينت. طولها 4 كيلومترات وتصل بين البحر الأيوني والبحر الأوجيني





المكان الذي شهد ميلاد المسرح عندما كان الأبطال يصارعون القدر ويسقطون بسبب نقاط الضعف الموجودة في داخلهم





إناء من الخزف أحد آثار جزيرة كريت التي شهدت مولد الحضارة الإغريقيةً





جزر اليونان التي تزيد على ثلاثة  آلاف.. موطن الرومانسية والجمال بمبانيها البيضاء وزرقة البحر تحيط بها





التاريخ ينام على قمة الأولمب





امام زحام المواصلات أصبحت الدراجة النارية وسيلةنقل لعل هذا يخفف من التلوث في أثينا





الأكروبولس ليلاً.. الصوت والضوء يحكي قصة رمز أثينا الذي شاهد تقلبات الزمن وصعود وهبوط المدينة





حي البلاكا بطرقه الضيقة ومحلاته التيلا تغلق أبوابها نهاراً أو ليلاً





تمثال الإمبراطور قسطنطين يرتفع أمام متحف الفنون الجميلة وسط العاصمة أثينا





تغيير الحرس أمام قبر الجندى المجهول. الكثير من ضحايا الحروب العالمية والأهلية سقطوا في اليونان لم تبق سوى الذكرى والتطلع إلى غد خال من الحروب.ً.





بائعة السميط العجوز وسط حي البلاكا..ابتسامة قديمة وخبز طازج