محمود شاكر.. ومفهومه للأصالة نسيم مجلي

محمود شاكر.. ومفهومه للأصالة

بدأت معرفتي بالعلامة محمود شاكر على صفحات "الرسالة" منذ ثلاثين عاما، في خضم معركته العنيفة مع الدكتور لويس عوض حول أبي العلاء و "رسالة الغفران". ولا أنكر أنني أحسست بالصدمة ليس فقط بسبب حدة الخطاب ولكن لسبب آخر أهم هو أن شاكر يفسر الثقافة والتاريخ من خلال منظور ديني بحت ينعكس على رؤيته لكل إبداعاتنا الأدبية والنقدية  الحديثة.

لكنني لم أعد للاهتمام بهذا الموضوع إلا منذ سنوات قليلة حين شرعت في إعداد دراستي لمعارك لويس عوض الأدبية (التي أصدرتها هيئة الكتاب أخيرا بعنوان "لويس عوض ومعاركه الأدبية") فكان لزاما علي أن أعود إلى شاكر وكتاباته على أساس أنه كان أهم خصوم لويس عوض وأشدهم قسوة في الهجوم عليه.

وبعد أن تناولت انتقاداته المنهجية والأيديولوجية لويس عوض و طه حسين و سلامة موسى، وجدتني مدفوعا لإطالة الوقوف عند موقفه الرافض للثقافة الغربية، واكتشفت أن هذا الموقف لم يكن طارئا ولا عارضا، وإنما هو موقف أساسي ثابت نجد بواعثه النفسية ومبرراته في تجارب شاكر الشخصية وصراعاته مع رواد الحداثة والتجديد من الطهطاوي حتى طه حسين ولويس عوض، كما تجد منطوقاته النظرية في كتابه "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" الذي نشره في 1987م.

وفي رأيي أن بدايات هذا الموقف قد تجلت بوضوح في صدامه الأول مع طه حسين حول الشعر الجاهلي، ثم تطورت بفعل عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية حتى أصبحت أيديولوجية شاملة للفكر والثقافة.

من الرياضيات للشعر

لقد بدأ دراسته الثانوية "مولعا أشد الولع بالرياضيات"، فدخل القسم العلمي. لكنه كان شغوفا بالشعر منهوما بالأدب كلفا بالتاريخ حتى أنه هجر الرياضيات وأقبل على الشعر والأدب بقلبه فحفظ ديوان المتنبي كله كما حفظ "المعلقات العشر الجاهليات" ثم قرأ على الشيخ سيد بن علي المرصفي أستاذ طه حسين بالأزهر كتاب "رغبة الآمل" وهو شرح الشيخ على كتاب "الكامل" للمبرد، وكتاب "أسرار الحماسة" وهو شرح الشيخ أيضا على ديوان "الحماسة" لأبي تمام الطائي.

حدث هذا التحول قبل دخوله الآداب بقليل، مما يدل على استعداده وقوة ذاكرته وتأثره بالشيخ المرصفي الذي أثار اهتمامه بالشعر الجاهلي، فانصرف إليه بكل قلبه. لقد وقع الفتى في أسر هذا الشعر وأخذ يرتبط به في علاقة خاصة جدا تملأه بالنشوة والسعادة والتيه شأنه شأن أي شاب مراهق مع أول تجاربه في الحب، انشغل به حتى أصبح ممسوسا بهذا الحب، اسمعه وهو يقول:

"وحدث يومئذ في الشعر الجاهلي ترجيع خفي غامض، كأنه حفيف نسيم تسمع حسه وهو يتخلل أعواد نبات عميم متكاثف، أو رنين صوت شجر ينتهي إليك من بعيد في سكون ليل داج وأنت محفوف بفضاء متباعد الأطراف".

إلى هذا الحد بلغ به الهوى والتيه حتى أخذ يحدث به الشيوخ الكبار ممن يعرفهم ويلتقي بهم.. وصار هذا حاله حتى دخل كلية الآداب، وفوجئ الفتى بطه حسين يلقي محاضراته التي عرفت بكتاب "في الشعر الجاهلي" فصدم صدمة عنيفة اهتزت لها نفسه، إذ أحس بأن ما يقوله طه حسين ما هو إلا هجوم ساحق سوف ينسف عالمه المسحور الذي يعيش فيه ويطمئن إليه.

ولم يطق الفتى صبرا، وقرر أن يواجه أستاذه بأن ما يقوله عن "المنهج" وعن "الشكل" غامض وأنه مخالف لما يقوله "ديكارت"، فانتهره أستاذه طه حسين وأسكته، وفوجئ زملاء الطالب محمود شاكر بجرأته على أستاذه، ويبدو أن طه حسين أراد أن يرشده بهدوء إلى أسلوب الحوار الصحيح فاستدعاه إلى مكتبه، وأخذ يعاتبه، يقسو حينا ويرفق أحيانا، لكن شاكر ظل صامتا لا يستطيع أن يكاشفه بما يجول في نفسه، بأن محاضراته التي يلقيها مسلوخة من مقالة "مرجليوث"، لأنها مكاشفة جارحة من صغير لكبير.

إن تحليل هذا الموقف تحليلا صحيحا سوف يضع أيدينا على البواعث الأساسية التي دفعت شاكر إلى ترك الدراسة وهجر الوطن، فهذه البواعث هي التي شكلت موقف شاكر من المستشرقين ومن الثقافة الغربية عموما. لكن علينا قبل أن نجري هذا التحليل، أن نجيب عن الأسئلة الآتية:

1 - هل أخطأ طه حسين في فهم "منهج" ديكارت أو في تطبيقه؟
2 - هل سطا طه حسين فعلا على آراء مرجليوث ونسبها إلى نفسه؟
3 - هل اتخذ طه حسين إجراء أو تصرفا متعسفا تجاه هذا الطالب الجريء الذي يسفه آراءه علانية أمام تلاميذه؟

لقد مضى على هذا الأمر زمن طويل - يقرب من سبعين عاما - نشرت فيه عشرات الأبحاث الجادة التي تبرئ طه حسين من تهمة السطو على مرجليوث، بل إن مرجليوث نفسه اعترف بأن طه حسين قد توصل إلى رأيه في انتحال الشعر الجاهلي في وقت واحد معه، كان طه حسين يغالي في طعن الشعر الجاهلي وفي مسألة الانتحال، لكن شاكر كان أكثر مغالاة وتطرفا. فإن كان طه حسين يطمح في تعليم الشباب منهجا جديدا في البحث الأدبي، فما عذر شاكر بعد أن أعلن رفضه لهذا المنهج في السر والعلن؟ وما هو الباعث الحقيقي لهذا العناد الذي دفعه لهجر الدراسة بل وهجر مصر كلها؟

لا أقل من الاعتراف

وأنا وإن كنت أدافع عن سلامة موقف الدكتور طه حسين هنا.. فأنا لا أخطئ موقف الفتى محمود محمد شاكر، لأنه عند قياس الأمر بالمنطق العقلي أو بالمناهج الموضوعية فإننا لن نعثر على الدافع الحقيقي لتصرف شاكر، لأن هذا الباعث يكمن في ذات نفسه وفي تكوينه النفسي والعقلي والاجتماعي، إنه يريد من طه حسين اعترافا صريحا بالسطو: يقول عن المستشرقين نولينو وجويدي: "فكنت أمتنع عن التسليم لهما بما يقولان عن البحث العلمي والأدبي" و "عالمية الثقافة" حتى يطالبا الدكتور طه حسين بالإقرار وبأن يقرا هما أيضا، بأن ما يقوله مسلوخ كله مما قاله مرجليوث. فما أغرب هذا الطلب!!

لم يكن محمود شاكر شابا عاديا، فقد نشأ في عائلة ذات توجهات دينية وسياسية واضحة. فقد كان والده شيخا لعلماء الإسكندرية ثم عين وكيلا للأزهر الشريف. وكان هذا الوالد على علاقة بالزعيم مصطفى كامل، كما كان شقيقه الشيخ علي محمد شاكر عضوا عاملا بالحزب الوطني، فصحب شباب الحزب الوطني واتصل برجاله ومنهم: حافظ رمضان، وعبدالرحمن الرافعي، وأحمد وفيق، والدكتور محجوب ثابت والشيخ عبدالعزيز جاويش. وكان الشيخ عبدالعزيز جاويش ومعه فريق من أعضاء هذا الحزب يتبنون فكرة الجامعة الإسلامية التي رفع لواءها الأفغاني والتي عفا عليها الزمن وتجاوزتها الأحداث حين قامت ثورة 1919 وبرزت فكرة الجامعة الوطنية التي حمل لواءها الزعيم سعد زغلول. وقد حاول منظرو هذه الفكرة تأكيد مفهوم القومية المصرية بالبحث عن جذورها في التاريخ الفرعوني. في هذه الفترة صدر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبدالرازق الذي يثبت فيه أن الخلافة نظام مدني ليس له أسس من الدين، ثم جاءت محاضرات طه حسين عن الشعر الجاهلي، وكان شاكر بطبيعة مهنته متعاطفا مع الحزب الوطني وفكرة الجامعة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية التي أخذت تنهال عليها الطعنات في ظل ازدهار فكري وطني ليبرالي يدعو للاستقلال الوطني وللدستور وللديمقراطية وتقديس حرية التفكير والتعبير.

في ظل هذا المناخ أحس شاكر أن الأرض تهتز من حوله، وأن هذه الظروف لن تتيح له فرصة لفرض آرائه، خصوصا أننا نعرف أن شاكر كان شابا موهوبا، شديد الحساسية، متقلب المزاج، فقد ابتدأ ولوعا شديد الولوع بالرياضيات، ثم لم يلبث أن هجرها هجرا كاملا لوقوعه في أسر الشعر الجاهلي، عاشقا متبتلا في محرابه، وفجأة وجد أمامه من يطعن في أصالة هذا الشعر، ويحاول تحطيم المعبد، وتهشيم الأيقونة التي يتعبدأمامها، وهنا ثارت نفسه وانتفض كيانه. فقد أصبح الأمر عنده مسألة كرامة تستوجب التصدي والدفاع وإلا فكيف يكون التعبير عن الحب عند أمثاله من الشبان النابهين، أو من يقبل أن تهان محبوبته على مرأى منه! لم يقبل هذا الهوان طبعا وانقطع عن الدراسة وقرر أن يهاجر إلى أرض أجداده  بالجزيرة العربية "ليكون قريبا من الينابيع التي أوحت بهذا الشعر لشعراء الجاهلية ومن جاء بعدهم".

وفي أواخر الأربعينيات تعرف على فتحي رضوان في المترو وبدأت صلته بالحزب الوطني الجديد في 1950 وساهم بالكتابة في مجلة "اللواء الجديد" ثم دعاه فتحي رضوان للوقوف إلى جانبه في حملته الانتخابية 1951م. وربما جاء ذلك لأن فتحي رضوان كان ينحدر من أصول شركسية، وكان يبدو متعاليا وكان يحتاج إلى شاكر بسحنته المصرية القحة ليملأ الفجوة بينه وبين أبناء البلد في دائرته الانتخابية. ومع ذلك لم يفز فتحي رضوان في هذه الانتخابات التي حصل فيها الوفد على الأغلبية ومكنته من تشكيل حكومة برئاسة النحاس باشا، وقد أقيلت هذه الحكومة بعد حريق القاهرة في يناير 1952.

في هذا الوقت انقطع شاكر عن الكتابة في المجلات، بعد إغلاق "الرسالة" القديمة وتفرغ للتأليف وتحقيق النصوص فأخرج جملة من أمهات الكتب العربية، وفي 1952 نشر قصيدته الطويلة "القوس العذراء".

اعتقل مرتين في ظل حكم عبدالناصر : الأولى لمدة تسعة أشهر مع الإخوان المسلمين برغم خلافه الشديد معهم. كان متحمسا للثورة ولإنجازاتها الأولى في القضاء على حكم أسرة محمد علي، وطرد الإنجليز، والإصلاح الزراعي -وكما يقول عبدالرحمن شاكر- كان هذا لافتا لفريق كبير من "المتدينين" من أصدقائه الذين كانوا يتهمونها بمخالفة الشرع، وانتهاك حق الملكية المقدس.

كرمته الدولة فمنحته جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1981، وكذلك منحته السعودية جائزة الملك فيصل 1984 عن كتابه "المتنبي". وحول هذا الكتاب وقع الصدام الثاني بين شاكر وطه حسين. كان أول كتاب يطبق فيه شاكر منهجه في "تذوق الكلام"، ونشرته "المقتطف" في يناير 36 وبعد سبعة شهور جاءته رسالة من كتبي في العراق تخبره بظهور كتاب آخر بعنوان "ذكرى أبي الطيب المتنبي بعد ألف عام" للأستاذ عبدالوهاب عزام. ‏

بيني وبين طه

كان عبدالوهاب عزام أستاذا لشاكر بكلية الآداب وكان يعرف عنه أدبه الجم لكنه حين أخذ شاكر في قراءة كتابه وجده يتبجح على غير عادته ويقول إنه "أوسع، وأعمق، وأجدى ما كتب عن الشاعر منذ عاش حتى عامنا هذا" وارتاب شاكر في هذا الكلام فمضى يفحص الكتاب وهاله أن يجد فيه ما يعد سطوا بالرغم من أنه ذكر المستشرق بلاشير باسمه مرات عديدة. لكن شاكر لم ينشر اتهامه في حينه، بل حدث أنه التقى بالأستاذ عبدالوهاب عزام في مكتب الأستاذ حسن الزيات بالرسالة، فواجهه - كما يقول - بكل ما رآه في كتابه من سقطات واكتفى شاكر بهذا اللوم أو العتاب تقديرا لهذا الرجل، لكن الأمر اختلف حين ظهر كتاب "مع المتنبي" لطه حسين في يناير سنة 1937. فقد انبرى شاكر لمهاجمة الكتاب في سلسلة مقالات بعنوان "بيني وبين طه" وقد قرر شاكر أن يواجه طه حسين بمنتهى الصراحة والعنف.واعتقد أنه ليس من شأني ولا في مقدرتي الفصل في هذا الموضوع الشائك الآن، والأهم عندي هو وضع هذه المعركة في سياقها الصحيح من مسيرة الأستاذ محمود محمد شاكر والتعرف على آثارها في نفسه وفي كتاباته القادمة.

إنها مفارقة غريبة ومحزنة، أن تضع طه حسين في طريقه في كل مرة. ولو على غير قصد منه. فطه حسين هو الرجل الذي زلل له دخول قسم اللغة العربية. لكن هكذا تأتي المفارقات. في صدام شاكر الأول حول الشعر الجاهلي كان طه حسين ومرجليوث.

في صدامه الثاني حول المتنبي كان طه حسين وبلاشير، أو عزام وبلاشير. هكذا كان يبدو الأمر وكأنه تحالف غريب بين هؤلاء المصريين والمستشرقين ضد شاكر، إنهم يسدون عليه طريق الصدارة دائما، وهو يشعر في قرارة أعماقه أنه أقدرهم جميعا في هذا الميدان.

ثلاثة حقائق

ومن يشك في صحة هذا التفسير فليقرأ رد فعل شاكر بعد أن قرر مواجهة طه حسين علنا بثلاث حقائق هي:

1 - أنه يسطو على أعمال الناس وينسبها لنفسه.
2 - وأنه لا بصر له بالشعر.
3 - وأن منطقه في كلامه كله مختل. ثم يقول:

"ولم أجد بدا من هذه المواجهة، لأني يوم فارقت الجامعة 1928 فارقتها ومعي ذل العجز، يومئذ على مواجهته برأي في تفاصيل "سنة السطو" التي سنها لتلاميذه من بعده، وإن عجزي عن مواجهته بلساني، غير متهيب ولا متأدب، كان يهدم نفسي هدما، وينسف آدابي نسفا، ويترك في ضميري غصة تأبى أن تزول".

لا عبرة بموقف الآخرين، ولا عبرة إن كان ما حدث منهم جاء مقصودا أو غير مقصود. فالمهم هو وقع الفعل على نفس شاكر. فقد كان "يهدم نفسه هدما"، ويترك في ضميره غصة تأبى أن تزول". وهكذا حدث التحول الخطير في حياة شاكر، وربما أدى ذلك إلى تحول في تاريخنا الثقافي كله على حد قول الدكتور شكري عياد في الهلال (إبريل 1989). ومع ذلك ظلت الغصة تؤرق ضميره، وتوجه فكره وكتاباته، وتحدث أكبر الأثر في إزكاء نار غضبه. لقد فسر الدكتور محمد كامل حسين، الطبيب الجراح وصاحب "قرية ظالمة" أشعار المتنبي في المدح والهجاء في ضوء نظرية "الأماني المعوقة" وهي كما يقول غير الأماني الخائبة. فالأماني الخائبة ينتهي أثرها بانقطاع كل أمل في تحقيقها. أما "الأماني المعوقة" فتظل في  أعماق النفس تؤثر فيها.

وأكاد ألمح أثر هذه عند الأستاذ شاكر. لقد أصبح شاكر اسما مرموقا في ميدان الدراسات العربية والإسلامية لكن بعض أمانيه ما زالت معلقة، فقد جنح إلى السياسة مع فتحي رضوان لإحياء الحزب الوطني وبعث فكرة الخلافة الإسلامية وتهيئة الظروف "لظهور الرجل الذي ينبعث من زحام الشعب المسكين الفقير المظلم يحمل في رجولته السراج الوهاج" لكن هذا لم يتحقق. وهو يريد منذ خلافه مع طه حسين تحرير العالم العربي من "التعبدللمدنية الغربية". وإنشاء حضارة جديدة منبثقة من الدين الإسلامي "لكن كيف السبيل وهو يرى أنصار هذه الحضارة الغربية يسدون عليه الطريق، ومن ثم كان غضبه الشديد وقسوته الجارحة في هجومه على طه حسين وفي سخريته من عبدالعزيز فهمي وفي حملته الكاسحة على لويس عوض.

وقد تصادف أن جاءت حملة شاكر على لويس عوض في وقت اشتد فيه التوتر نتيجة تحركات عناصر الثورة المضادة في مصر. ففي ذلك الوقت ظهر كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب وذاع صيته ثم اكتشفت مؤامرة التنظيم الطليعي لاغتيال عبدالناصر وقلب نظام الحكم بالقوة، فأخذت الخيوط تتشابك والأوراق تختلط، وتلتقي كلها عند نقطة واحدة هي: التكفير.

كان شاكر يكفر المسيحيين واليهود فقط. أما سيد قطب فقد حكم بالكفر على المجتمع كله وعلى رأسه الحاكم وخطط لتغييره بالقوة والعنف فحوكم سيد قطب وحكم عليه بالإعدام. ووضع شاكر في المعتقل ليقضي فيه مدة تزيد على سنتين.

لم يكن شاكر طبعا على علاقة بسيد قطب أو بالتنظيم الطليعي الحركي، كما كان يسمى، لكن هكذا شاءت الأقدار أن تضعه في هذا المأزق الغريب لتضاعف من إحساسه بالقهر والغضب، لكن رجلا من معدن شاكر لا يزيده القهر إلا قوة وإصرارا. وهذا ما كان فعلا، فقد راح يستقطر غضبه كله في صياغة نظرية للثقافة العربية تستبعد من دائرة العلم والتذوق جميع المستشرقين وتلاميذهم في ضربة واحدة سماها "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا".

وواضح أن هذه النظرية تتفق في ركنها الأساسي مع نظرية آليوت في ربط الثقافة بالدين لكن في حين يقدم آليوت أفكاره في حذر شديد على أنها "ملاحظات نحو تعريف الثقافة"، نجد أن شاكر يتحدث بعبارات محددة قاطعة، وكأن الأمر قد ثبتت صحته ولم يعد محل نقاش.

المدخل الديني

هذه النزعة المثالية ليست فقط وليدة انكبابه على الكتب واعتزاله الناس لمدة طويلة في صدر شبابه بعد هجرة الجامعة وإنما هي وليدة عوامل أخرى موروثة ومكتسبة نتيجة نشأته في بيت من بيوت العلم والدين. فارتبط عنده حب اللغة بالإيمان الديني. فهي لغة القرآن وعلى هذا النحو اكتسبت اللغة العربية قداسة عنده، وأصبحت هي اللغة المشرفة كما يكرر في كتاباته. وما دامت العربية هي وعاء الدين ووعاء الشعر والثقافة في آن واحد فالقداسة هنا باتت شيئا مشتركا أو ثوبا جميلا يزين هذه الأمور جميعا، هذا المدخل الديني إلى الفكر والثقافة. هو ما يحكم نظرة شاكر إلى هذه الأمور ونحن نرى أدلة ذلك في مواقف عديدة. ولنأخذ معركته حول الشعر الجاهلي فنكتشف أن خصومته مع مرجليوث بدأت قبل ذلك حين قرأ له كتابه عن النبي محمد ثم قرأ مقاله عن الشعر الجاهلي فقال وجدت "أعجميا باردا لا يستحي".

ويعتز شاكر بأصوله العربية. لأنه ينتمي إلى أسرة أبي العلياء من أشراف جرجا بصعيد مصر، لكنه لا يكتفي بهذا بل يمد هذا النسب إلى الحسين بن علي رضي الله عنه. وهو يفعل نفس الشيء مع شاعره المفضل، أبي الطيب المتنبي، فنجده يجاهد ليربط نسبه بالعلويين عن طريق أمه، وكأنه يأنف أن يكون ابن السقاء واحدا من أكبر شعراء العربية. وهو هنا يذكرنا بفكرة اليوت عن النخبة أو الصفوة الاجتماعية التي تحمل على كاهلها مهمة الإبداع الفني والفكري والعلمي وتقوم في الوقت نفسه بالحفاظ على التقاليد الثقافية الراقية.

ويمتزج الإحساس بدور الصفوة مع الاعتداد بالنفس في شخصية الوالد، الشيخ محمد شاكر ويشكل سمة حادة من سماته الشخصية.

لقد رسم شاكر للأمة العربية الإسلامية صورة مثالية شديدة النقاء، تذكرنا بأسطورة العصر الذهبي أو الفترة المثال التي تظهر عادة وتنتشر في عصور الانحطاط كنوع من التعويض عن فقر الواقع وإفلاسه. لكن هذا التصور غير التاريخي يبعدنا عن رؤية الواقع رؤية صحيحة واكتشاف سلبياته التي تعوق تقدمنا فنكتفي بإلقاء مسئولية تخلفنا على الآخرين. فالفساد ملازم للحياة منذ خلق العالم، والشر ملازم للخير في كل أمة وفي كل عصر. وعلينا أن نتذكر أن هذه الأمة العربية العظيمة التي أسهمت في بناء الحضارة الإنسانية بنصيب كبير في ميادين الفكر والعلم والفن والأخلاق، وأنجبت مئات من الفقهاء والعلماء والزهاد الذين ضربوا أعظم أمثلة الزهد والعدل والاستقامة، هذه الأمة التي أنجبت عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز هي التي أفرزت الحجاج بن يوسف الثقفي وألف حجاج بعده.

لقد شخص الشيخ عبدالرحمن الكواكبي معضلة هذه الأمة فقال:

"إن الاستبداد السياسي هو سر كل داء وأصل كل بلاء في الشرق الإسلامي" وأنا لا أقصد من هذا الكلام طبعا تبرئة الغرب مما ارتكبه في حق بلادنا من جرائم وآثام، وإنما أقصد الاهتمام الجاد بكشف عوامل ضعفنا الذاتي والعمل على التخلص منها أولا، فالتاريخ ليس سوى صراع إرادات والبقاء دائما للأفضل.

هذه محاولة للاقتراب من شخصية الأستاذ محمود شاكر الثرية. وقد سعدت بلقائه لأول مرة في افتتاح الندوة العلمية حول أدب نجيب محفوظ بكلية الآداب بجامعة القاهرة (مارس 1990) ثم زرته في بيته، وبهرتني شخصيته منذ الوهلة الأولى بدفء مشاعره وقوة ذاكرته، إذ احتضنني وأثنى على كتاباتي، ومن بينها هذا البحث في صورته الكاملة. وما زلت أزوره في بيته العامر بمصر الجديدة وفي كل مرة يزداد إعجابي به وحبي له، إنه شخصية ساحرة ودودة تكشف بتلقائيتها الآسرة عن عمق المحبة والتواضع الحقيقي.

هذا عن شاكر الإنسان، أما شاكر المفكر فلا يجامل ولا يريد من أحد أن يجامله. إنه قاطع كالسيف، يكره التواضع الزائف كما يكره الدوران حول الأفكار، وأسلوبه في معاركه حاد بدرجة جارحة أحيانا. وفي بعض الأحيان نجد هذا الأسلوب يفيض بروح الشعر والفكاهة والسخرية إلى حد يذكرنا بكبار رواد الأدب الساخر كالمازني والبشري حديثا، كما يذكرنا أيضا  بشعراء الهجاء القدامى كجرير والفرزدق والمتنبي. وحين نمعن النظر في كتاباته، نلمس تأثير المتنبي في إشاعة الحمية الدينية ونعرة الزهو العربي في نفس قارئه.

هكذا تبدو شخصيته جادة ومتحدية، لخصومه ولأصدقائه على السواء. وهذا أمر طبيعي لأن شاكر اختار منذ البداية طريق التحدي، وجاهد حتى كون نفسه علميا وثقافيا، واحتل مكانة عالية بين أعلام الثقافة العربية المعاصرين، وبإصرار الواثق العنيد نصب نفسه حارسا لأصالتها، بل ومدافعا عن كيان هذه الأمة الثقافي كله. وكانت وسيلته بيانا نظريا هو "رسالة في طريق ثقافتنا".

 

نسيم مجلي 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




العلامة محمود شاكر