إدوار فويار.. صورة تيودور دوريه

إدوار فويار.. صورة تيودور دوريه

للوهلة الأولى قد تبدو هذه اللوحة عادية, ولكن التوقف أمامها لدقائق معدودة يجعلنا ندرك لماذا يقول البعض إنها تحفة الرسّام الفرنسي إدوار فويار (1868 - 1940م)? حتى أن بعضهم يذهب إلى حد القول إنها أعظم لوحة تمثل الشيخوخة منذ أن رسم رامبراندت لوحاته الأخيرة, أي قبل قرنين ونصف القرن تقريباً.

نبدأ بالإشارة إلى أن معظم الرسامين يميلون إلى رسم مواضيع معينة أكثر من غيرها. فقد كان بونار, على سبيل المثال, ميّالاً إلى رسم حياة الشباب, أما صديقه الحميم فويار, فقد كان يحلّق في رسم الشيخوخة والعجائز. ولذلك رأيناه يرصد آثار التقدم في السن على والدته, ويرسمها في عدد من اللوحات, فيسجل احدوداب ظهرها المتزايد بفعل الروماتيزم, والشيب خلال المراحل المختلفة من غزوه لرأسها, وتجاعيد وجهها التي كانت تزداد عمقاً من لوحة إلى أخرى.

تعود اللوحة التي نقف أمامها هنا إلى العام 1912م, وهي تمثل الناقد الفرنسي وبطل الدفاع عن الانطباعية تيودور دوريه. فنراه جالساً في غرفة مكتبه أمام مجموعة ضخمة من الكتب والمجلات, وخلفه بعض اللوحات من مجموعته الخاصة, وهنا الفصل المثير في هذه اللوحة, الذي يكاد أن يكون حكاية كاملة بحد ذاتها.

كان دوريه من هواة جمع اللوحات, والمجموعة التي تزين مكتبه ورسمها فويار هنا, هي حقيقية.

اللوحتان الصغيرتان مجهولتان, ولا نعرف شيئاً عن هويتهما الحقيقية ولا ما آلتا إليه. أما اللوحة الكبيرة بجانبهما فهي (الواعظ) للرسام الإيطالي تيابولو, التي آلت لاحقاً إلى متحف (ريجكميوزيوم) في هولندا. وأخيراً, في الزاوية اليمنى, بيت القصيد.

في هذه الزاوية نرى انعكاساً على المرآة للوحة تمثل دوريه نفسه بريشة الفنان ويستلر (كانت آنذاك في بيت دوريه فعلاً, واشتراها لاحقاً متحف المتروبوليتان في نيويورك, حيث لا تزال حتى اليوم). وفي هذه اللوحة (المنعكسة على المرآة) نرى دوريه شاباً منتصب القامة, يحمل على ذراعه مشلحاً وردي اللون, ويمسك بيده (قبعة أوبرا) التي كان يعتمرها الرجال خلال خروجهم إلى المسارح والمطاعم والزيارات الرسمية.. وتكاد تكون لوحة ويستلر صورة نموذجية للشاب الباريسي الناشط في حياته الاجتماعية والدنيوية.

وتمر ثلاثة عقود من الزمن..

وها هو دوريه جالسا في مكتبه: عجوز يميل إلى السمنة, شابَ القليل المتبقي من شعر رأسه, وترهلت أجفان عينيه الحمراوين. أما الوضعية التي تتخذها يده اليسرى فتشبه وضعية اليد المرتجفة, في حين أن اليمنى تحتضن قطة صغيرة في تعبير واضح عن تغلب الحياة داخل المنزل على الحياة خارجه, وربما العزلة أو الوحدة التي يعيشها هذا العجوز.

وتشكل كثرة الكتب والمجلات على الطاولة أمام دوريه وخلفه على الكراسي, إشارة واضحة إلى ثقافته الغنية, وإلى ما كانت عليه حياته الشخصية كباحث وناقد فني من الصف الأول. ولكن اللافت في هذه الطاولة وما عليها أمران:

أولاً: لا يوجد أمام دوريه كتاب مفتوح يقرأ فيه كما هو متوقع من صورة رجل مثقف في مكتبة. وأكثر من ذلك, فالرجل لا يتطلع إلى أي من هذه الكتب, بل إلى النافذة, صوب الضوء الذي في الخارج, وكأنه ينتظر أمراً لا يعرف متى سيأتي, أو كأنه لا ينتظر أي شيء على الإطلاق.

ثانياً: إن شكل الطاولة المؤلفة من قسمين يجتمعان بزاوية قائمة, وينحشر بينهما دوريه, تشبه المقص الذي يكاد يطبق على هذا الرجل, ويهدده بقطعه من وسطه إلى نصفين.. ولذا, قد لا يكون من المبالغة إذا وصل بعض النقاد في قراءاتهم لهذه اللوحة إلى حد القول إن هذه الطاولة هي (صورة الموت) الذي بات قريباً, وإن في جلوس دوريه بهذا الشكل المستكين تسليم بمصير اقترب أوانه.

أمام هذا الإشعاع العاطفي والإنساني وأناقة التعبير عنه, يمكننا القول إن فويار يفضل أن يهمس همساً بالعالم الذي يراه بدلاً من اعتماد الصوت العالي والخطاب الفج في طابعه المباشر والواضح, شأنه في ذلك شأن كبار أساتذة فن البورتريه في عصر النهضة.

إن تاريخ رسم هذه اللوحة (1912م) يستحق بحد ذاته التوقف أمامه. ففي تلك الفترة, كانت الانطباعية قد تداعت وتحللت إلى تيارات فنية عديدة, أهمها التكعيب الذي ظهرت ملامحه على يدي سيزان, ونضج تماماً بسرعة على أيدي جورج براك, فاتحاً الباب على مصراعيه أمام التجريد الهندسي. وعندما نتطلع إلى صورة تيودور دوريه هذه نكتشف أنها بعيدة كل البعد عن (الطليعية) والهوس بالتجديد, الذي شغل الكثير من الفنانين آنذاك. ولكن هذا (التقصير) عن اللحاق بالموضة والعصر, يعوّض بما هو أهم من ذلك بكثير, ألا وهو كون هذه اللوحة هي نتيجة دراسة شاملة وفهم عميق لكل ما تقدمها من لوحات في مجال البورتريه.

التقنية المستعملة في إنجاز هذه اللوحة وحدها كانت معاصرة, واستفادت من مناخ الحرية الذي بدأ الفنانون يتمتعون به منذ انطلاقة الانطباعية, لناحية استعمال ضربات عريضة من الفرشاة تقول الحد الأدنى المطلوب قوله. ومن يتطلع إلى هذه اللوحة قد يشعر أن خطوطها تفتقر إلى الوضوح, خاصة عند أطراف المساحات اللونية التي تبدو وكأن الفرشاة لم تكن تحمل ما يكفي من الألوان. ويعود السبب في ذلك إلى أن فويار رسم لوحته هذه على لوح من الكرتون المقوّى, (تم تثبيته لاحقاً على الخشب), وبسبب الطريقة التي يمتص بها هذا النوع من الكرتون الألوان الزيتية, فإن أطراف ضربة الفرشاة تبقى متقطعة ومسننة (على شكل نقاط) لأنها لا تلتحم تماماً بالأساس, مما يساعد بالإضافة إلى لون الكرتون نفسه, في إضفاء تجانس لوني ما بين مختلف المساحات, ويذيبها ببعضها. وكان فويار يستسيغ هذه التقنية أكثر من غيرها.

وأخيراً, وعلى الصعيد اللوني, يستوقفنا اللون الوردي الذي اعتمده الفنان أساساً لرسم معظم مساحات هذه اللوحة, و(تغميس) كل الألوان الأخرى به بدرجات متفاوتة. وهذا اللون مستوحى من دون شك من لون المشلح الذي يحمله دوريه في لوحة ويستلر. ومن المحتمل أن يندرج هذا الاستيحاء في إطار السعي إلى إيجاد علاقة ما بين شباب دوريه الماضي وشيخوخته اليوم.

أما البني الداكن في ملابس الرجل - وفي الظاهر من طاولة المكتب - فقد يعود بكل بساطة إلى لون الخشب, وإلى أن اللون البني كان السائد في ملابس الرجال في تلك الفترة. ولكن الطريقة التي تندمج بها هاتان المساحتان تقول أكثر من ذلك, وتؤكد علاقة قربى واتحاد ما بين الرجل وطاولة المكتب, رمز مهنته وعطائه وكل تاريخه.

 

عبود عطية

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




إدوار فويار: (صورة تيودور دوريه), 1912, (95.2 x 74.8 سم), متحف الناشيونال جاليري, واشنطن





جزء من لوحة فويار, يظهر اللوحة التي رسمها ويستلر قبل ثلاثين عاماً