مشكلات الجلوس إبراهيم عبدالمجيد

مشكلات الجلوس

قصة قصيرة

المقهى الجديد في الحي القديم لفت انتباهه بنظافته غير العادية فقرر أن يكون جلوسه فيه، وحده أو مع أصحابه أو من يشأ لقياه.

الحوائط لامعة لأنها مغطاة بالسيراميك الوردي الجديد، والأعمدة أكثر لمعانا رغم أن لون السيراميك حولها يميل إلى البني، أما الأرض فهي أكثر لمعانا من الحوائط والأعمدة رغم اللون البني القاتم للسيراميك!

في السقف عدد كبير من المراوح تدير الهواء منعشا وغزيرا، والمكان لا يكون مزدحما في الصباح، وفي المساء تظهر المقاعد على رصيف الشارع حيث الهواء القادم من الجهة الشمالية عذبا سلسبيلا!! . والرجل صاحب المقهى، فيما يبدو من الموسيقى التي يطلقها في المكان، جاء من عصر آخر، فهو بالليل يترك صوت فيروز ينساب في الفضاء، وإذا تقدم الليل أكثر، أعطى الفرصة لصوت أم كلثوم، أما في المساء والعصارى فهو يترك مساحة كبيرة لصوت عبدالحليم حافظ، وفي الصباح بعد إطلاق البخور الجاوي مع صوت الشيخ رفعت أو الحصري، يترك الفرصة للموسيقى الخفيفة، حتى إذا انتصف النهار تسيد صوت عبدالوهاب الوقت مع فواصل من الموسيقى الشرقية. ولقد أدهش الناس حقا من هذا المقهى الجميل كيف يخلو من التلفزيون، وكان ذلك سببا كافيا لعدم ظهور الدهماء والغوغاء على حد قول أحد الرواد الأذكياء. لكن أحدا من الجالسين لم يعرف ماذا في سيراميك الجدران يجعل الجالس يرى أمواجا تتقلب بهدوء، فوقها سفن صغيرة "تمخر عباب البحر"، وترتفع بها الأمواج وتنزل في أناة، وحولها الدلافين تقفز. وكثيرا ما يبدو أيضا أن هناك رجالا ونساء يرقصون رقصات هادئة أثيرية بين ستائر خفيفة يطيرها هواء ناعس!!

لا يعرف الجالس هل هذا سحر مدفون في السيراميك، أم هو من أثر الموسيقى وأصوات الغناء الشجية، أم من برودة المكان المنعشة؟

هذا ولقد جرب أكثر من شخص الحديث بصوت عال فلم يفلح، هكذا دون تدخل من أحد. صارت أصوات الجالسين خفيضة فور دخولهم إلى المقهى فلا يسمع الصوت إلا من يتوجه إليه صاحبه وبالكاد. والحقيقة أن رواد المقهى تحدثوا في كل هذه الأمور الغريبة للمكان بعض الوقت ثم صارت من الأمور العادية، لكنه أخفى أمرا لم يحدث أحدا من الجالسين، ولا من أصحابه، فيه.

لقد اكتشف أنه لا يستطيع أبدا الجلوس في الخارج. قوة جذب سحرية تشده إلى الجلوس داخل المقهى وليس بين المقاعد المفروشة على الرصيف. واكتشف أنه بعد أن يشرب قهوته، ويتوه وقتا مع الخيالات السحرية على الحوائط والأعمدة، يرى فجأة الأعمدة اللامعة وقد بدأ السيراميك يتخلع عنها ويتساقط وتظهر هي تحته جهمة من الأسمنت الأسود والزلط، ثم تروح بدورها تتشرخ ثم تتهدم على مهل، وعلى الفور تلحق بها الجدران التي تتهاوى بعد أن يسقط ما فوقها من قطع السيراميك، وتتناثر حجارتها، وقبل أن يلحق السقف بالجميع يرفع هو عينيه إليه فيجده في مكانه.

لم تشغله هذه الرؤيا، وظنها حالة مؤقتة ستمضي إلى حال سبيلها، لكنها راحت تتكرر معه كل يوم، حتى أنه لم يعد قادرا على النظر إلى السقف فهو أيضا يسقط فوقه. ولاحظ أصحابه بعد ذلك أنه لا يجلس في مكان واحد، ففي كل يوم يغير مكانه داخل المقهى. كان يفعل ذلك بطريقة لافتة للنظر، ولم يسأله أحد، وهو لم يكن قادرا على البوح بأنه يفعل ذلك لتفادي  الرؤيا الكابوسية هذه. لكنها صارت كلما جلس تتجلى له، وفي أي مكان من المقهى، ولقد اشتدت فلم تعد تحدث بعد أن يشرب قهوته ويتشبع من الخيالات الجميلة، بل صارت تحدث بمجرد الجلوس، أدرك أنها تنقطع فقط حين يقف. في اللحظات التي يدفع فيها الحساب للجرسون، أما قبل ذلك فلا يخفيها غير إغماض عينيه، ثم لم يعد ذلك يخفيها أيضا، وهكذا لم يعد قادرا على الحديث مع أحد بتركيز. وجرب أن يقف قبل أن يدفع الحساب للجرسون فاختفت الرؤيا الكابوسية. وهكذا أدرك أن المشكلة هي مع الجلوس، وفي هذا المكان. هذا المقهى الجديد الملعون . . لكن هل يستسلم؟. لقد قرر أن يتجنب الأمر بكل إرادة ممكنة. لماذا حقا لا يجلس خارج المقهى على الرصيف، لماذا يستسلم لقوة الجذب الخفية التي تشده للجلوس داخل المقهى . . سيفعل ذلك من الغد. ومن الأفضل أن ينقطع عن المقهى كله بعض الوقت. وربما تنتهي الأزمة كلها إذا تحدث فيها مع أحد. زوجته أو زملائه في العمل.

لكنه لم يستطع أن يتحدث مع زوجته في شيء. ما إن دخل إلى شقته وجلس حتى رأى الجدران التي أمامه تتهاوى وتتهدم وبسرعة وجد نفسه يقف.
- مالك؟
- لا شيء.

سألته زوجته حين رأت عرقا كثيرا على جبهته وعنقه. جلست ولم يستطع الجلوس. اتجه إلى غرفة النوم وخلع ثيابه وتمدد فوق السرير بعد أن ارتدى بيجامته، وأغمض على الفور عينيه. كان لا بد أن يستدعي ما مضى من حياته، إنه لا يذكر أنه قرأ شيئا عن الجنون، ولا يعرف أن في تاريخ حياة عائلته مجنونا واحدا. قد يكونون أخفوا عنه، لكن أحدا لا يستطيع إخفاء ذلك الحديث عن الجنون، لا يمكن إخفاؤه . له إغراء خاص. وكثيرا ما يبعث على الابتسام والبهجة وهو مأساة كاملة. وهو أيضا لم يرتكب خطايا كبيرة. حتى زوجته العاقر لم يطلقها، ولم يعد يفكر في "الذرية"، لقد تزوجها بعد قصة حب عنيفة، وهو الآن يستحق جائزة أكثر الأزواج احتفاظا بحرارة الحب حتى أنه يستعد لتأثيث دار حضانة للأطفال تعمل فيها زوجته فيكون لديها بدل الطفل الواحد عشرات الأطفال. إذن سينتهي الأمر وحده مادام هو يحاول مقاومته بإرادة قوية، ومادام هو الشخص ذاته الذي يعيش بلا خطايا، يحتاج فقط إلى أن يقص الأمر على زملائه في العمل. سيجعله حكاية فكاهية. وتعجل بالفعل وصول الصباح، وبالكاد يدخل إلى حجرة زملائه الموظفين ويجلس، وقبل أن يشرع في أي كلمة، رأى الحائط المواجه يتهاوى ويتهدم على زملائه ومكاتبهم، فوقف على مهل يائسا، واتجه ناحية الحائط المواجه هذا، وجلس خلف مكتب آخر فرأى الحائط الأول يتهدم وبعنف فوقف كمن لدغه عقرب. لم يكن قد وصل إلى العمل غير ثلاثة زملاء راحوا ينظرون إليه صامتين مدهوشين وهو بدوره ترك المكان كله ونزل إلى الشارع ليجلس على أول مقهى يقابله في حالة من اليأس الكامل خافضا عينيه إلى الأرض حتى إذا أتى الجرسون ورفع إليه عينيه رأى من خلفه جدران البيوت كلها تتهاوى بنوافذها وشرفاتها فترك المكان دون كلمة وتابعه الجرسون بنظرة استغراب.

كان الشارع طويلا لكنه لم يعد يمشي يائسا ولا على مهل تملكته حمى مجنونة وصمم على الانتصار، وراحت عيناه تبحثان عن كل مقهى في الطريق، ويدخل المقهى بإرادة حقيقية ويجلس لكنه لا يستطيع الاستمرار أكثر من دقائق فسرعان ما تتهاوى كل الحوائط المقابلة، ويتمسك بالبقاء ولا يستطيع، وينتقل من مقعد إلى آخر، ومن ركن إلى آخر، وتطارده الرؤيا فينهض ويترك الشارع إلى آخر، ولا يدري أنه قد اخترق أكثر شوارع المدينة، وأن النهار قد مضى لكن لا أضواء حوله، فمازال ضوء الشمس يصل حتى بعد سقوطها في الغرب. هذا هو المقهى الأخير الذي سيجلس به اليوم وسينجح. وجلس فتهاوت كل البيوت المقابلة، وخرج مسرعا إذ أحس هذه المرة بصوت السقوط المدوي فوق رأسه وأطلق ساقيه للجري ولا يعرف من أين أتته كل هذه القوة. لقد وجد نفسه وقد صعد ربوة من الأسفلت وتوقف متعبا ينظر وراءه. لم يكن هناك ثمة مدينة يعرفها ولا مدينة لا يعرفها. كانت هناك رمال واسعة وأطلال آثار قديمة ومقابر لا تنتهي.

 

إبراهيم عبدالمجيد 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




مشكلات الجلوس