جان - أنطوان غرو .. «معركة إيلو»

جان - أنطوان غرو .. «معركة إيلو»

الاسم الرسمي لهذه اللوحة هو «نابليون في ساحة معركة إيلو، 9 فبراير 1807»، لأن الإمبراطور لم يكن حاضرًا بنفسه خلال المعركة، التي دارت قبل يوم واحد بين الجيش الفرنسي والجيش الروسي في شمال شرق بروسيا، وكُتب فيها النصر للفرنسيين. ولكنه بقي نصرًا مثيرًا للجدل بسبب خسارتهم لعشرة آلاف قتيل من أصل 40 ألف مقاتل، كما أن الروس تمكنوا من الانسحاب بشكل منظَّم. وعندما وصل الإمبراطور إلى ساحة المعركة، بقي فيها ثمانية أيام على غير عادته للإشراف على أعمال إغاثة الجرحى ودفن القتلى.

بعد ذلك بشهر، أطلق مدير متحف اللوفر، ويدعى دومينيك دونون، مسابقة فنية لرسم هذه المعركة، وفق «دفتر شروط» حافل بالمعلومات التي يجب على اللوحة أن تتضمنها، بدءًا بالطقس وأحوال الجرحى والقتلى ووصف الموقع، والشخصيات التي يجب أن تظهر فيها قرب الإمبراطور وبعيدًا عنه، على أن يكون محورها الأساسي هو «لحظة وصول الإمبراطور لتقديم العزاء للشرفاء ضحايا المعارك». وعلى الرغم من أن «دفتر شروط» دونون تضمَّن حديثًا عن «ميدان مجزرة»، فإنه لم يُشر إلى فداحة الخسائر الفرنسية، بل إلى الأجساد الدامية للجنود الروس.

في 15 مايو من ذلك العام، قدَّم جان-أنطوان غرو رسمًا تحضيريًا يستجيب حتى أقصى حد ممكن للبرنامج الذي وضعه دونون، فانتزع فورًا موافقة الإمبراطور عليه، ومن ثم راح على مدى عام تقريبًا يعمل على إنجاز اللوحة بمقاييسها العملاقة (521 × 734 سم).

وبسبب ضخامة هذه المقاييس، فإن من يتطلع إليها في متحف اللوفر يرى أولًا عند مستوى نظره صور القتلى والجرحى (من الروس طبعًا) وقد تكدسوا فوق بعضهم بعضًا. وعليه أن يرفع نظره إلى الأعلى لكي يرى صورة نابليون على صهوة جواده، ليس في وسط اللوحة تمامًا كما نتوقع، بل إلى اليسار قليلًا «لأنه كان قد وصل لتوه إلى الموقع..» وتحت الحصان نرى ضابطًا ليتوانيًا جاثيًا يؤدي قسم الطاعة للإمبراطور الفرنسي الذي بطيبة قلب بادية على وجهه يعفو ويسامح ويحيي.. وفي الأفق، وتحت دخان الحرائق التي لا تزال مشتعلة، ثمة خطوط رمادية تمثل الجيش يعيد تنظيم صفوفه (لا تبدو على حقيقتها إلا في اللوحة، ويستحيل توضيحها في صورة فوتوغرافية مصغرة). وما بين مقدمة اللوحة والأفق، هناك الكثير من الثلج.. ثلج قذر مختلط بالوحول والدماء، رسمه الفنان بألوان تتراوح ما بين الأصفر والرمادي والبني، لا تتجلى عبقرية استعمالها إلا في مشاهدة اللوحة الحقيقية.

أما المناخ العام للوحة فهو كئيب، بسبب طغيان كل هذه الألوان الداكنة، إذ إن فداحة التكاليف التي دفعها الفرنسيون في هذه المعركة حرمتهم فعلًا من الابتهاج بالنصر. وقد برع غرو في المحافظة على الجو العام الذي أثارته هذه المعركة في صفوف الفرنسيين. ولكنه، في المقابل، بقي بعيدًا عن إثارة الشفقة عند المشاهد. فجثث القتلى موجودة هنا وهناك لأنها «أشياء» يجب أن تكون هنا وهناك.. هذه هي النيوكلاسيكية التي كان غرو أحد أعلامها، إلى جانب أستاذه جاك-لوي دافيد، غير أن الموضوع المأساوي وطغيان الألوان الداكنة وتيمة الموت وصخب الحركة في كل الاتجاهات، كانت من الأمور التي أثارت إعجاب الجيل الطالع من الفنانين الشبان في فرنسا، فمهدت بذلك إلى نشوء المدرسة الرومنطيقية اللاحقة.
------------------------------
* ناقد وتشكيلي من لبنان.

 

عبود طلعت عطية*